عرب يرقصون، رواية
تأليف: سيد قشوع
منشورات مودان
166 صفحة، تل ابيب 2002
عرب سيد قشوع يرقصون فرادى وجماعات، على الحان لم تصنع خصيصا لمثل هذا النوع من "الرقص الشرقي". لذلك جاء رقصهم "مائلا"، فوق سطح يهدد كل الوقت بأن يجرفهم نحو المنحدر الخطير.
كابدت كثيرا في قراءة رواية الكاتب الصحفي الشاب سيد قشوع (مولود سنة 1975 في طيرة المثلث) "عرب يرقصون"، التي كتبها بالعبرية وصدرت مطلع العام في تل ابيب. قلت لنفسي ان قراءة عمل "مختلف" كهذا وسط احتفاء اعلامي اسرائيلي غير عادي بهذا الكتاب المُسيّس حتى النخاع، لا يجب ان تتم "قريبا من الحدث"، وان الافضل ان يـُـقرأ بعد ان "تهدأ العاصفة". وعندما شدتني الرواية اليها مجددا، وانا ارقب عن كثب اداء صاحبها الاعلامي "غير المختلف" في بعض وسائل الاعلام الاسرائيلية، تراجعت، لأن النسخة الوحيدة التي املكها عادت اليّ، بعد إعارة، غارقة بملاحظات كتبت في الحواشي، لم تترك لي مجالا لأن أقرأها دون ان اكون متأثرا بالضرورة بما دونه "قارئي النهم" من اشارات وهوامش بالقلم الرصاص. ولأنني لا اقرأ بعيون غيري، او بوعيهم، وجدتني اعلل نفسي مرة اخرى بوجوب الحصول على نسخة "نظيفة" من الرواية، حتى اجد سببا يجعلني اؤجل القراءة من جديد. لكن "عرب يرقصون" جديرة بالقراءة من باب اولي، لذلك تدبرت امري وقرأت، متجاهلا ملاحظات "القارىء النهم" في حواشيها. تفرغت لقراءة الرواية، كونها عملا ادبيا اضافيا "مختلفا" يشد قارئه العربي او العبري على السواء، ويشق طريقه بثقة الى "الرف العربي" في المكتبة العبرية، مؤسسا الى حد كبير على الانجاز الاكبر فوق هذا الرف، كان قد اجترحه الشاعر المبدع انطون شماس، عندما اصدرت "عام عوفيد" قبل ستة عشر عاما روايته الطليعية الرائعة "عربسك"، المكتوبة من "الفها" الى "تائها" بالعبرية، وباسلوب ومضمون مميزين، وبنكهة فلسطينية قوية ومؤثرة
قلت لنفسي: هذه فرصة للعودة الى "مدرسة شماس" (التي ينسبون اليها ظلما بعض الاقلام الطائفية التي كتبت مرة بالعبرية، وعادت تتقوقع في "صدفتها الطائفية" من جديد، لأنها لا تملك غير ذلك الآن!) وفحص "جرائره العبرية" على التكون الثقافي العربي في اسرائيل، بعد ان اصبح نموذجا محفزا للتقليد الادبي، فوق اسطحنا الثقافية الملتهبة. في هذه الاثناء وجد انطون شماس نفسه خارج الوطن، بعيدا جدا عن الامتار المائة التي فصلت بينه وبين "دولته وعلمه"، بلغة الكاتب الاسرائيلي الصهيوني ابراهام ب. يهوشع، الذي ضاق ذرعا على ما يبدو بهذا "الغريب" القادم الى مطبخ اللغة العبرية، محاولا، "بعبرية تليق بيوم السبت"، اجراء "حسابه - الثقافي – القومي" مع الثقافة التي انتجت هذه اللغة، ومع مثقفيها، العنصريين منهم وغير العنصريين. منذ ذلك الحين "حررت" العنصرية في اسرائيل مساحات ثمينة اضافية في الوعي الثقافي والقومي الصهيوني العام، لم ينجح "الصوت العربي" خلال الفترة التالية على صدور "عربسك" باختراق جدرانها الفولاذية السميكة، على رغم "الهيصة" العامة التي سادت في النصف الاول من العقد التالي على صدورها (التسعينيات)، وابتداء مشروع التسوية السياسية (المتعثر، حاليا، بشكل مأساوي!) بين اسرائيل ومنظمة تحرير فلسطين. من هنا بدت مهمة الكاتب والصحفي سيد قشوع (يكتب بالعبرية في صحيفة "هعير" الاسبوعية) عسيرة وصعبة، تجعل صاحبها بحاجة الى ما هو ابعد بكثير من مجرد امتلاك ناصية لغة "زوجة الاب" العبرية، حتى ينجح، بدوره، باجراء "حسابه القومي" مع جمهور الهدف الذي كان ماثلا امامه لدى شروعه بالكتابة. ذلك ان قشوع لم يكتب "قصة حب" كما يخيل لي، وانما كتب رواية واقعية - سياسية "بل سياسية اكثر من اللازم"، كما تكتب شوهم سميت (في ملحق "كتب" التابع لصحيفة "هارتس" 30 يناير 2002) ولأن قشوع عربي، يقومون بفحصه وتفحص انتاجه وادائه الابداعي بعدسة يهودية مكبرة، لا بد ان تظهره - كما "جرت العادة" في الاعلام الصهيوني - في واحدة من اثنين: اما ان يخرج على هيئة الـ "عربي الجيد"، واما انه مبدع "عربي شرير"!!
قشوع يبدو لي بين هذين القطبين الظالمين "عربيا طيبا"، وشجاعا، وحساسا الى ابعد الحدود. ومع اني لا احب ما يناط به من ادوار احيانا في نطاق عمله الصحفي (شريك ضيف في بعض البرامج الاخبارية التلفزيونية، سرعان ما يجد نفسه خلالها شريكا كذلك في ترديد بعض المفردات الاصطلاحية الصهيونية الموجهة فوق ارضية الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي) الا انه يبدو لي "بطلا اشكاليا" الى حد كبير. صحيح انه يقوم بمحاسبة جمهوره العبري على مواقفه وسلوكياته فوق ارضية الصراع، الا انه، ومن خلال قراءة بعض المقبوسات البارزة من روايته، لا يفعل ذلك انسجاما مع مفاهيمه الخصوصية للغاية في قضايا الصراع، بل بموجب الايحاءات التي تطرحها المفاهيم الاصطلاحية التي طورتها لغة ذلك الجمهور - الهدف مع الوقت. حسابه "اليهودي" هذا يكاد يختفي اذا ما قورن بحسابه "العربي"، اللاذع، والساخر كثيرا الى درجة لا تطاق!
بكلمات اخرى: قشوع يسخر منا، نحن العرب، بالعبرية، ويصنع "بوميرانغ" ثقافيا يطلقه مثل روبوت موجه بالريموت كونترول نحو اهداف معينة موجودة فوق هذا السطح، لكنه يفعل ذلك بموجب شيفرة عبرية لا يتقن هذا الروبوت فهم سواها، ويقوم بالامتثال لتعليماتها بشكل اوتوماتيكي. لذلك بدا هذا الكاتب العربي "الساخر منا" في عمله الادبي الاول بطلا ثقافيا منفصما بشكل مأساوي. ويخيل ان ناشر كتابه كان يعني هذا الانفصام عندما كتب في تظهيره له ان بطله (أي: الكاتب نفسه) "كله فلسطيني وكله اسرائيلي، وكله عبري وكله عربي، يسير فوق طريق تبدأ من طفولته في الطيرة، ومن صباه في مدرسة داخلية يهودية في اورشليم المحررة والمحتلة في آن".
سيظل قشوع يعاني هذا "الفصام" الثقافي، حتى لو بدت روايته لوحة كبيرة في سرد سيرة الالم في هذا المكان. لماذا؟
الاجابة مركّبة جدا، تستحق عودة اوسع ليس هنا مجالها. فهي تخص قضية حضورنا الغائب فوق ساحة العمل الثقافي العبري، وكذلك حضورنا المغيب في هذا الوطن. ومع انها توفر للقارىء العبري اطلالة ما على جوانب خفية من حياة العربي "الآخر" في هذه البلاد، الا انها تبقى محكومة للظاهرة ذاتها: أن عربيا يكتب بالعبرية عن الصراع من زاويته "الاسرائيلية"، ويقول ذلك بطريقة تسطيحية للغاية، تجعل روايته، بلغة "قارئي الذكي" مرة اخرى، "سيرة عن عربي يتفجر رأسه من الازدواجية الساحقة، التي يحاول من خلالها البحث رغم انفه عن مسار يجعله السير فوقه مختلفا، لكنه يبقى اسير الأنا - الآخر الذي لا يغادر مرآته المشوشة". من هنا مصدر التحفظ من حساب الذات الروائي هذا الذي اجراه قشوع مع نفسه ومع "الآخر"، بمصطلحات "اسرائيلية" للغاية، جعلت النكهة العربية - الفلسطينية مشوشة تماما في عمله الادبي الاول هذا.
عرب سيد قشوع يرقصون فرادى وجماعات، على الحان لم تصنع خصيصا لمثل هذا النوع من "الرقص الشرقي". لذلك جاء رقصهم »مائلا«، فوق سطح يهدد كل الوقت بأن يجرفهم نحو المنحدر الخطير.
محمد حمزة غنايم