المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

هذا ما تقوله البروفسور تمار إليئـور المحاضرة في الجامعة العبرية في القدس والمتخصصة في شؤون المجتمع الحريدي في مقابلة خاصة مع المشهد الإسرائيلي وتضيف: المواجهات الكبرى تكون عادة مرتبطة بمواضيع سياسية أو عامة، وليست ناجمة من حدث فردي. وإلى جانب ذلك وقعت أحداث تتعلق بتعامل الدولة مع أحد أفراد المجتمع الحريدي، وهنا نرى المجتمع يتجند أو ينغلق على نفسه لحماية هذا الفرد من تدخل خارجي ينوي التدخل في مصيره

وقعت مؤخرا مواجهات حادة بين المتدينين اليهود المتشددين (الحريديم) في القدس وبين الشرطة الإسرائيلية على خلفية قرار بلدية القدس فتح موقف للسيارات في أيام السبت لخدمة المتنزهين في المدينة. ولا يزال الحريديم يتظاهرون في نهاية كل أسبوع ضد قرار البلدية.

كذلك وقعت مواجهات أشد حدّة بين الحريديم وقوات الشرطة في الأحياء الحريدية في القدس في أعقاب احتجاج الحريديم على اعتقال الشرطة امرأة يشتبه في أنها تعمدت تجويع طفلها. وأسفرت هذه المواجهات، حتى الآن، عن إصابة عشرات من أفراد الشرطة، غالبيتهم بجروح طفيفة، وعن اعتقال عشرات الحريديم.

وقد أثارت هذه القضية عاصفة في إسرائيل، وتدخل فيها وزراء لتهدئة الخواطر.

وأجرى "المشهد الإسرائيلي" المقابلة الخاصة التالية مع البروفسور تمار إليئـور، المحاضرة في الجامعة العبرية في القدس والمتخصصة في علم الأنثروبولوجيا وفي المجتمع الحريدي.

(*) "المشهد الإسرائيلي": لماذا تندلع دائما مواجهات في الأحياء الحريدية في كل مرة يتهم فيها رجل أو امرأة من الحريديم بارتكاب اعتداء على أولادهما؟

إليئور: "بشكل عام لا تندلع المواجهات مع الشرطة في المجتمع الحريدي لهذا السبب فقط. وهناك تاريخ طويل من المواجهات بين الحريديم والشرطة، التي اندلعت في الغالب بسبب قضايا عامة، خصوصا حول قضية السبت مثل السفر بالسيارات في شوارع الأحياء الحريدية، وأمور أخرى تتعلق بالشؤون العامة في القدس. والمظاهرة الأكبر التي شارك فيها الحريديم كانت تلك التي تم تنظيمها ضد المحكمة العليا [الإسرائيلية]. أي أن المواجهات الكبرى تكون عادة مرتبطة بمواضيع سياسية أو عامة، وليست ناجمة من حدث فردي. وإلى جانب ذلك وقعت أحداث تتعلق بتعامل الدولة مع أحد أفراد المجتمع الحريدي، وهنا نرى المجتمع يتجند أو ينغلق على نفسه لحماية هذا الفرد من تدخل خارجي ينوي التدخل في مصيره، مثل مقاومة الشرطة عندما تأتي لاعتقال شخص ما. فمثلا كان هناك شخص اتهمته الشرطة بأنه هز طفله وتسبب في موته. وفي الماضي كان أعضاء مجتمع الكيبوتسات لا يستدعون الشرطة لمواجهة أمر ما يستحق تدخلها، وإنما يتم تسوية الأمر بصورة داخلية، لأن أعضاء الكيبوتس كانوا يعتبرون أن عالمهم أخلاقي ومنفصل عن المجتمع العام. ونحن نعرف أن هذه التقاليد موجودة لدى مجتمعات مغلقة في العالم كله وترى أن هناك فرقا بين قيمها الداخلية والقيم الخارجية. وبإمكاننا أن نرى مثل هذه الأمور في المجتمع العربي في إسرائيل، فهم يرفضون تدخل الشرطة من الناحية السياسية، وهناك أماكن يرفض العرب فيها تدخل الشرطة حتى للتعامل مع أعمال جنائية. وما يميز المجموعات المغلقة هو أنها لا تريد أن تقوم جهات خارجية بتحقيق العدل فيها.

"هذا هو السياق العام. أما فيما يتعلق بالأحداث الأخيرة في الشارع الحريدي في القدس، فإنه في إمكاننا ملاحظة تواتر أحداث خلال السنوات الثلاث الماضية وتتعلق بسلوك أشخاص مع أولادهم والتنكيل بهم، مثل الأم من بلدة بيت شيمش، وأخرى من [مستوطنة] بيتار عيليت، والأب من [حي] ميئا شعاريم والآن لدينا الأم من ميئا شعاريم [المتهمة بتجويع طفلها] وكانت هناك الأم من بلدة نتيفوت. ويؤدي تواتر هذه الأحداث إلى جذب الأنظار نحو الحريديم، خصوصا لأن هؤلاء يتفاخرون بأن إحدى القيم المركزية للمجتمع الحريدي هي العائلة والأولاد، وأن العائلة الجيدة هي العائلة الكبيرة وأنه بالإمكان إعالة عائلة كثيرة الأولاد والاعتناء بهم جميعًا. لكن بعد هذه الأحداث يظهر وكأن انهيارا حدث في هذه القيم، وعندها يقول أبناء الطبقة المتوسطة من خارج المجتمع الحريدي: ’هل أدركتم الآن أنه لا يمكن إعالة عائلة كبيرة؟ ولا يمكن تربية تسعة أو عشرة أولاد بالمستوى نفسه الذي تتم تربية ثلاثة أو أربعة أولاد في العائلات الصغيرة؟’. وفي كل صيف هناك رجل حريدي ينسى ابنه داخل السيارة ونوافذها مغلقة، أو هناك عربي يعود بسيارته إلى الوراء ويدهس ابنه، وعندها يتنادى البرجوازيون، في ما يشبه نشوة الانتصار، ويقولون: ’هؤلاء لديهم أولاد كثيرون ولا يمكنهم الانتباه إلى جميعهم’. هذا يعني أنه توجد هنا انتقادات من خارج هذه المجتمعات المنغلقة على نفسها، وتعتبر وسائل الإعلام نفسها وصية عليهم. ولا يتم الأخذ بالحسبان أن المجتمع الحريدي بغالبيته يعاني من الفقر والسكن المزدحم، ولذلك هناك أمور تحدث يصعب منعها. لكن عندما تقع أحداث في المجتمع العلماني، مثل الرجل الذي قتل حفيدته التي هي ابنة زوجته في الوقت ذاته، أو الأب الذي قتل طفلته، يوم السبت الماضي، وهو أشكنازي وضابط في الجيش الإسرائيلي، فإنه هذه الأحداث تلفت الانتباه لكن يتم النشر عنها في وسائل الإعلام كحالة خاصة وشاذة، أو كحادث ناجم من مرض نفسي، لكنه لا يتحول إلى حادث يعكس الجمهور كله في المجتمع العلماني. ولذلك فإنه عندما تحضر قوة شرطة لاعتقال شخص في المجتمع الحريدي فإن المجتمع كله، الذي يعي النظرة إليه من جانب المجتمع العلماني، يخرج للدفاع عن الفرد الذي تعتزم الشرطة اعتقاله، وهم يشعرون بأنهم عمليا يدافعون عن أنفسهم وعن قيمهم وعن حقهم في إظهار بديل للعائلات البرجوازية وعن التدخل المتزايد للسلطات في حياتهم".

(*) هل جميع الحريديم يعارضون الاتصال مع السلطات؟

إليئور: "ينبغي أن ندرك أمرا بالغ الأهمية، وهو أن العالم الحريدي متنوع جدا. فقد كبر هذا العالم ونجح. ومنذ سنوات الخمسين وحتى اليوم نرى طوال الوقت انقسامات في داخله. وغالبية العالم الحريدي تتطلع إلى حياة طبيعية أكثر، مثل أن يذهب الرجال إلى العمل وأن تبقى العائلة كبيرة، ربما ليس 12 ولدا ولكن 6 أو 7 أو 8 أولاد، وتحسين ظروف السكن والخروج مرة في السنة إلى إجازة والذهاب إلى مطعم مرة كل ثلاثة شهور ومنح الأولاد تعليما أفضل والتوجه إلى المتخصصين لتحسين مستوى تعليم أولادهم. ولذلك فإنه يتزايد توجههم إلى السلطات. ونحن نرى عملية تأهيل متخصصين من داخل المجتمع الحريدي تبادر إليها الدولة. لكن الجهات المتطرفة داخل المجتمع الحريدي لا تنظر إلى هذا التطور بنظرة إيجابية. وهذه الجهات صغيرة للغاية وبالكاد تشكل نسبتهم ثلاثة أو أربعة بالمئة من المجتمع الحريدي. وهم لا ينظرون بإيجاب إلى تعاون أشخاص حريديم مع البلدية ومع مكاتب الرفاه الاجتماعي. وعندما تقع أحداث مثل اعتقال الشرطة بصورة فظة للغاية وغير حكيمة للمرأة المشتبهة بتجويع ابنها أمام مكتب الرفاه الاجتماعي، فإن هؤلاء المتطرفين يقولون للمجتمع الحريدي: ’هل ترون؟ هذا ما سيحدث لكم إذا توجهتم إلى مكاتب الرفاه الاجتماعي وسيأخذون أولادكم منكم’. ويحولون الموضوع إلى موضوع عام".

(*) تقصدين أن هؤلاء "المتطرفين" يجرّون وراءهم المجتمع الحريدي إلى المواجهات؟

إليئور: "الكثيرون من الأشخاص الذين أتحدث معهم من العالم الحريدي يعارضون المظاهرات والعنف ولا يصدقون كل قصة تجري في ميئا شعاريم، ويقرأون الصحف، لكن هناك تعاطف مع مجتمعهم والاعتقاد بأن الدولة تتعامل معهم وكأنها وصية عليهم، ولذلك فإن قسما منهم ينضم إلى المظاهرات. لكن القيادة المركزية مثلا كانت تعارض العنف وحرق حاويات النفايات. وأنا أعرف عن بضع مدارس دينية أرسلت طلابها إلى بيوتهم خلال نهاية الأسبوع لكي لا يبقوا في القدس ويشاركوا في المظاهرات. وينبغي أن نذكر أمرا آخر وهو أنه هناك انشقاقا حاصلا في العالم الحريدي في الآونة الأخيرة، على خلفية الانتخابات على رئاسة البلدية في القدس. فقد كان هناك مرشحان لرئاسة البلدية، أحدهما علماني والآخر حريدي. ودعا أحد الزعماء الهامين في العالم الحريدي، الأدمور من غور، أنصاره إلى عدم التصويت للمرشح الحريدي، وساعد بذلك على انتخاب رئيس بلدية علماني. وهذه هي المرة الأولى التي يسير فيها زعيم حريدي ضد مرشح حريدي. وقد أدى هذا الأمر إلى انشقاق كبير في المجتمع الحريدي".

(*) المرأة المتهمة بتجويع طفلها تنتمي إلى جماعة ناتوري كارتا؟

إليئور: "هي تنتمي إلى جماعة ’تولدوت هآرون’ وهي جماعة متطرفة داخل ما يسمى بـ ’الطائفة الحريدية’. و’الطائفة الحريدية’ هي المجموعة التي تضم جميع المتطرفين، وهي ليست المجتمع الحريدي، وإنما ’الطائفة الحريدية’ التي لديها محكمة خاصة بها وزعيم خاص بها وإدارة خاصة، وهي مجموعة لا تأخذ ميزانيات من الدولة ولا تتعامل مع الدولة".

(*) هل هذا يفسر أيضا سبب عدم انتقال المواجهات إلى أماكن أخرى في إسرائيل، على غرار المدينة الحريدية بني براك، القريبة من تل أبيب؟

إليئور: "نعم، رغم أنه في العادة لا تندلع مواجهات في بني براك وإنما في القدس فقط".

(*) هل يوجد فرق في تعامل الحريديم الأشكناز والحريديم الشرقيين مع الدولة؟

إليئور: "نعم. الحريديم الشرقيون يتعاملون بصورة تقليدية مع الدولة بتعاطف وبصورة طبيعية. وصهيونيتهم، من الناحية التاريخية، لم تكن سياسية وإنما كانت صهيونية محافظة بمعنى أنها كانت مرتبطة بالدين. ورغم أنه كانت لليهود في الدول العربية حركات صهيونية سياسية، لكن غالبية اليهود الشرقيين جاؤوا إلى البلاد ليس انطلاقا من الرابط الصهيوني السياسي وإنما من خلال الرابط الصهيوني الديني. لذلك فإن الارتباط بالدولة والشعور بالانتماء لها كان طبيعيا، وخلال السنوات الماضية كان الشرقيون نشطين في الحياة العامة، عبر الذهاب إلى المدارس الحكومية الدينية والخدمة العسكرية والعمل. ويمثل هؤلاء حركة شاس. ومنذ أن بدأت شاس تمارس نشاطا سياسيا وبدأت حركة التدين والعودة إلى الدين المرتبطة بالناحيتين السياسية والاجتماعية، نتيجة للإهمال والشعور بالظلم وعدم الحصول على المكانة المناسبة، فإنه تمت بلورة العلاقة مع الدولة من جديد. وكان للحريديم الأشكناز تأثير على الحريديم الشرقيين في هذه العملية. وفيما يتعلق بتعامل الحريديم الأشكناز مع الدولة فإنه طرأ في الفترة الأخيرة تغير كبير. فغالبية الحريديم الاشكناز اليوم يقيمون علاقات أفضل مع الدولة مما كانت عليه في الماضي. وقسم منهم شاركوا في حرب العام 1948 وكانوا متماثلين مع الدولة، لكن في سنوات الخمسين بدأت عملية تسييس العلاقة. واليوم أصبح معظم الجمهور الحريدي يشعر بأنه إسرائيلي ولا يواجه مشكلة في ارتباطه بإسرائيليته".

(*) هل يتماثل الجمهور الديني – القومي مع الحريديم؟

إليئور: "الجمهور الديني - القومي يشعر أنه يشكل مثالا لمجتمع يدمج بين الحياة العصرية والالتزام بالتقاليد الدينية. وهو يشعر أنه محرج في كثير من الأحيان بسبب التطرف الديني والشرعي من جانب الحريديم، ولذلك فإنه توجد داخل العالم الصهيوني - الديني مجموعة نسميها ’حردلين’ وهم حريديم - متدينون – قوميون. لكن من الجهة الأخرى هناك من نسميهم بـ ’المتدينين الجدد’ وهؤلاء عصريون أكثر وبينهم يوجد يساريون ولا يسكنون في المستوطنات، مثل حزب ميماد ومجموعة الجنود المسماة ’فلنكسر الصمت’ وقائدهم يضع قلنسوة دينية على رأسه. وهناك مجموعة من الحاخامات من أجل العدالة الاجتماعية، وهؤلاء يقيمون روابط وعلاقات مع نشطاء فلسطينيين. ولا تزال الأغلبية الساحقة في هذا الجمهور منتمية إلى معسكر اليمين بالطبع، وبعضهم مقرب من الجمهور الحريدي ويتعاطف معه، والقسم الآخر بعيد عن الحريديم".

المصطلحات المستخدمة:

بيتار, نتيفوت, محكمة خاصة, بني براك, ميماد

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات