المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

نصّ كلمة رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود أولمرت، في "معهد دراسات الأمن القومي" * ما من سبب يدعو إلى تغيير التقديرات الإسرائيلية السابقة بشأن الخطر النووي الإيراني ولا أساس من الصحة للتفسير القائل بوجود تراجع أميركي عن دعم الموقف الإسرائيلي في هذا الشأن *

تعتبر مناقشة قضية "طبيعة حروب المستقبل والتحديات الاستخبارية" في معظم دول العالم بمثابة عصف ذهني أكاديمي ليست له أي تداعيات عملية، غير أن هذا النقاش يكتسب في الواقع الإسرائيلي الفريد من نوعه مغزى محدداً يخص قضايا الساعة بعينها.

كانت هناك عهود شهدت واقعاً أبسط، حيث جرت فيها المواجهات العسكرية محكومةً بمفاهيم وقواعد واضحة نوعاً ما من حيث الفضاء والزمان والعقائد والوسائل القتالية التي لم تطرأ عليها آنذاك تغييرات متسارعة أو تقلبات ثورية تتسارع وتيرتها كمتوالية هندسية.

إن جميع الحروب "الكبيرة" لدينا جرت بين جيوش نظامية في مسارح قتالية محددة حيث كان الجيش الإسرائيلي يسعى لنقل القتال إلى أراضي العدو وحسم المعركة بسرعة بالحركة والنار. أما الفترات ما بين هذه الحروب فقد شهدت مواجهة لأحداث إرهابية جرت هي الأخرى في أنماط شبه محددة دون أن تمتّ تقريباً بأي صلة حقيقية إلى الحرب "الحقيقية" بين الدول.

غير أن هذا الواقع قد ولّى لنواجه- سواء في دولة إسرائيل أو في دول الغرب الديمقراطية- واقعاً شديد التعقيد ذا جذور أيديولوجية وتكنولوجية. لقد صارت مكافحة الإرهاب ذات ثقل أكبر من ذي قبل، فيما بقيت الحرب "العادية" من وراء الكواليس بصفتها تهديداً متواصلاً وإن كان مخفياً.

ويعود هذا التغيير من جهة إلى صعود التشدد الإسلامي العنيف الذي يتحدى الحضارة الغربية، ومن جهة أخرى إلى الثورة التقنية التي تجعل فرصة الحصول على الوسائل القتالية أسهل من ذي قبل، فضلاً عن انسيابية المعلومات والحركة والاتصالات بين القارات بسرعة وسهولة وإمكان حشد دعم الجماهير.

أما نتيجة هذا التطور فهي ارتكاب تنظيمات إرهابية ذات عقائد إسلامية متطرفة نصيب الأسد من العمليات الإرهابية خلال الأعوام الأخيرة. المشكلة بالطبع ليست إسرائيلية فحسب بل تخص العالم أجمع لكنها تؤثر بصورة جذرية على طبيعة النزاع في منطقتنا وكذلك على الطابع المتغير للمواجهات الحالية وللحروب المستقبلية (مع الأمل في عدم وقوعها) فضلاً عن تأثيرها على التحديات الاستخبارية التي تواجهها دولة إسرائيل.

أما التغيير الأكثر جوهرية الذي صرنا نشعر به خلال السنوات الأخيرة فهو أن محور الحرب لم يعُد في خط جبهة القتال، حيث لم يعُد هناك مغزى للتمييز بين الجبهة القتالية والجبهة الداخلية. إن الحرب الأخيرة [في لبنان]، مثل أي حرب قد تقع لا سمح الله في المستقبل المنظور، كانت قد دارت أساساً في الجبهة الداخلية الأمر الذي يستلزم تغيير أنماط التفكير والاستعداد وتقاسم الموارد.

إن هذه القضية أصبحت تزعجنا الآن وستظل محط اهتمامنا لفترة غير قليلة حيث أنها تتمحور حول السؤال الآتي: أين يجوز استثمار مواردنا المحدودة- هل في حماية الجبهة الداخلية أم في تكوين القوة الضاربة لحسم القتال في الجبهة الأمامية؟ أما أنا فلديّ رأي جازم: لا بديل عن قدرة حسم العدو بسرعة، ما يحتم توظيف جلّ الموارد في تكوين قوة حاسمة من هذا القبيل.

لقد خاضت إسرائيل وما زالت تخوض- سواء في حرب لبنان الثانية أو في القتال المستمر ضد الإرهاب الذي تمارسه حركتا حماس والجهاد الإسلامي- مواجهة غير متساوية إذ إنها فرضت على نفسها لاعتبارات أخلاقية وسياسية القيود الكثيرة بالنسبة لممارسة القوة واستهداف العدو.

إن النهج الديمقراطي، أي "قواعد اللعبة" القائمة على القوانين والرؤى الأساسية لدى الأمم الحرة التي تنتمي إليها دولة إسرائيل، يحتم التمسك بنموذج يتجاذب لا بل ويتناقض مع الاحتياجات الأمنية (وبالتالي فإن التعامل مع عمارة سكنية يجري منها إطلاق صواريخ "فجر" أو مع مدرسة أو مسجد يشكلان قواعد إرهابية يضعنا أمام مشكلة ليست سهلة).

وهكذا نشأت حالة تمكّن التنظيمات الإرهابية من ممارسة كامل قدراتها (وإن كانت محدودة) لإصابة جبهتنا الداخلية المدنية بصورة قصوى وعشوائية، بينما لا يمارس الجيش إلا النزر اليسير من مجمل قوته ويختار بدقة متناهية أهدافه.

ويشكل هذا الأمر مدعاة للقلق خاصةً إزاء الواقع العسير الذي تشهده منطقة جنوب البلاد ولا سيما التهديد المتواصل الذي تتعرض له مدينة سديروت والقرى المحيطة بقطاع غزة. وعليه سنُضطر للتحرك إزاء هذا الأمر بالاعتماد على الوسائل المطلوبة وبالقوة الملائمة والتوقيت الصحيح دون المغالاة التي عهدناها في المنطقة ودون الانفعالية أو خلق التوقعات غير الواقعية.

إن الواقع الذي نتعامل معه معقَّد وغير سهل لكن هذه القضية تتصدر رأس اهتماماتنا. إننا سنقوم بواجبنا بالحذر المطلوب ولن تلين عزيمتنا إلى أن نزيل بصورة كاملة تهديد قذائف القسام الصاروخية وقذائف المدفعية الذي يطال سكان سديروت ومحيطها.

وأودّ التنويه إلى أن الجيش تحت قيادة رئيس هيئة الأركان غابي أشكنازي وبإيحاء من وزير الدفاع إيهود باراك يخوض منذ أشهر غمار إجراءات أساسية ومشرّفة لإحداث تغييرات جوهرية وتعزيز القدرات العملانية للقوات النظامية وقوات الاحتياط على حد سواء. إن الشعب في إسرائيل عليه أن يتفاخر بجيشه وقادته.

حقيقة "التهديد الإيراني"

إن الموضوع الذي يشغل بال كثيرين منّا خاصةً في الآونة الأخيرة هو حقيقة التهديد الإيراني ونطاقه وقوته. كما تعلمون، فلقد نشر مجلس الاستخبارات القومي الأميركي في مطلع الشهر الجاري [كانون الأول 2007] تقديره الجديد حول نوايا إيران وقدراتها في المجال النووي.

إنني أُولي أهمية قصوى لإعلان الرئيس الأميركي جورج بوش أنه لم يطرأ أي تغيير، حيث كانت إيران ولا تزال تشكل خطراً مما يقتضي مواصلة بل وتشديد الضغط الدولي لثنيها عن طموحاتها النووية. وعليه فإنني متيقّن من أن الولايات المتحدة ستواصل قيادة النضال الدولي لوقف تطوير البرنامج النووي الإيراني.

أما دولة إسرائيل فلم تكن- وهي ليست الآن- الجهة التي تتصدر رافعي لواء التصدي للممارسات غير العقلانية التي يقوم بها النظام الإيراني في مسعى لإجهاض أي محاولة لتحقيق المصالحة بين إسرائيل وجاراتها حيث يشكل هذا النظام تهديداً لاستقرار الشرق الأوسط بأسره. إنها ليست مشكلة إسرائيل فحسب بل مشكلة عالمية. أما حلها فيكمن في تكاتف الجهود من جانب الولايات المتحدة وروسيا والصين والدول الأوروبية لممارسة الضغوط الفعالة على إيران.

كان نشر التقرير الاستخباري الأميركي الآنف الذكر قد أثار جدلاً مفرطاً، إذ فسر البعض محتويات التقرير بأنها تشير إلى تراجع أميركي عن دعم الموقف الإسرائيلي. غير أن هذا القول لا يستند إلى أي أساس من الصحة، إذ كانت الولايات المتحدة قد قادت النضال العالمي ضد إيران وحشدت كل طاقاتها على الساحة الدولية لممارسة الضغوط على مجلس الأمن الدولي لاعتماد قرارين يقضيان بفرض عقوبات على إيران وذلك من منطلق الاقتناع بأن إيران تشكل تهديداً حقيقياً للسلام الإقليمي وللمصالح الأميركية الحيوية. ولم يطرأ أي تغيير على هذا الموقف، ليس لأنني أقول بهذا الأمر بل على اعتبار أن الأميركيين والبريطانيين والألمان والفرنسيين يقولون به.

إن إيران تواصل أنشطتها لتخصيب اليورانيوم وقد تتراكم لديها- بموجب التقرير الأميركي نفسه- كميات كافية لإنتاج السلاح النووي بحلول العام 2010. كما أن إيران تواصل نشاطاتها للحصول على مكوِّنَيْن حيويَيْن لإنتاج السلاح النووي وهما تطوير المنظومات الإلكترونية المتطورة والصواريخ الباليستية بالتوازي مع تخصيب اليورانيوم. لا خلاف حول هذه الحقائق وبالتالي ما من سبب يدعو إلى تغيير التقديرات الإسرائيلية السابقة بشأن الخطر الكامن في الإجراءات الإيرانية هذه.

لقد كان الضغط الدولي الممارَس على إيران ناجعاً للغاية طبقاً لما ورد في التقرير [الأميركي] نفسه ولذا يجب الاستمرار فيه بل وتشديده. وعليه فإن إسرائيل تدعم تكثيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران ومواصلة عزلها إلى حين التزامها بقرارات مجلس الأمن وتوقفها عن جميع أنشطتها لتخصيب اليورانيوم.

إن إسرائيل ستعمل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لكشف القدرات العسكرية الإيرانية. كما أننا سنواصل إجراء الاتصالات السياسية مع الولايات المتحدة ومع جهات سياسية في دول صديقة أخرى في مسعى لتكريس الاستنتاج القاضي بضرورة عدم تخفيف إجراءات المراقبة المُحْكَمة للممارسات الإيرانية.

إن المسؤولية الشاملة عن منع حصول إيران على قدرات نووية تقع على المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين، حيث أن هذه الدول تصرح بأنها ستمضي في مساعيها على هذا الصعيد بلا هوادة. أما إسرائيل- التي تدعو إيران إلى القضاء عليها- فلا يمكنها الكف عن هذا المجهود. إننا لسنا بحاجة لأي مجهود استخباري محدد للاطّلاع على حقيقة نوايا النظام في طهران.

إن هذه النوايا مكشوفة وصريحة ويتكرر الحديث عنها على الملأ. إن دولة غنية بالنفط والغاز [مثل إيران] لا تحتاج إلى تخصيب اليورانيوم لأغراض مدنية سعياً لتوليد الطاقة البديلة. إن دولة لا تمتلك البنى التحتية اللازمة لتوليد الطاقة النووية لأغراض مدنية ما من حاجة تستدعي تحركها بتهوّر لإنتاج اليورانيوم المخصَّب إلا إذا كانت ترغب في تطوير السلاح النووي.

لقد تطرّقت في معرض كلامي بالذات إلى المخاطر والتهديدات والقيود العسكرية والأمنية التي يجب على دولة إسرائيل التعامل معها. إنها تستهلك حصة كبيرة من الموارد المادية والطاقات النفسية كون التعاطي معها أمراً مصيرياً بالنسبة لمستقبلنا.

غير أن هذا الأمر لا يقلل شيئاً من شأن المجهود الذي أعتزم بذله في مسعى لإطلاق مسار من الحوار والتفاوض مع جيراننا. لقد بدأنا في [لقاء] أنابوليس مجهوداً آمل في أن يثمر عن حوار سياسي متواصل وجادّ لكننا لا نريد صنع السلام مع الفلسطينيين وحدهم. إن هذه الجهود تطال أي دولة عربية مجاورة بما في ذلك سورية حيث أنني آمل في أن تتهيأ الظروف لإطلاق المفاوضات وتحقيق التسوية السلمية. إن هذه الإجراءات معقدة وتقتضي الحذر الشديد لكن لا بديل لها ولا أنوي التخلي عنها قطّ.

__________________________

(*) ألقيت في افتتاح المؤتمر الخاص الذي عقد في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب في الفترة بين 11 – 13 كانون الأول 2007، وتمحور حول "التحديات الأمنية للقرن الـ21- طبيعة حروب المستقبل والتحديات الاستخبارية".

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, باراك

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات