* استطلاعات الرأي في إسرائيل تتسابق على نشر النسب العالية لخيبة أمل الجمهور من الحكومة التي لم تنه عامها الأول بعد، وفي ظل غياب أية مؤشرات برلمانية لسقوط الحكومة فإن الجمهور سيحكم عليها من خلال ثلاثة ملفات مركزية هي الأوضاع الاقتصادية والوضع الأمني على الجبهتين أمام لبنان والفلسطينيين *
تواصل وسائل الإعلام الإسرائيلية وغيرها (معاهد أبحاث مثلاً) نشر استطلاعات للرأي حول شعبية الحكومة الإسرائيلية وشخصياتها المركزية، وعلى رأسهم رئيس الحكومة إيهود أولمرت ووزير الدفاع عمير بيرتس.
ولا نذكر مثل هذا الكم وهذا التسارع في نشر مثل هذه الاستطلاعات حول أية حكومة إسرائيلية لا تزال بعيدة عن إنهاء عامها الأول، وهذا عدا عن أن هذه الاستطلاعات بدأت تظهر والحكومة لا تزال في أسابيع عملها الأولى.
المشكلة في هذه الاستطلاعات أن نتائجها أصبحت مشكوكا فيها، فهي لا تعكس بالضرورة واقعا حقيقيا في الشارع الإسرائيلي، وإنما تأتي بغالبيتها لتلبي توجهات تظهر في بعض الحلبات السياسية ووسائل الإعلام المركزية، علما أنه لا توجد أية مؤشرات برلمانية حقيقية تشير إلى احتمال سقوط هذه الحكومة والتوجه قريبا إلى انتخابات برلمانية مبكرة.
وبشكل غير مألوف، فقد ظهرت حكومة إيهود أولمرت، في الأسبوع الماضي، بدعوتها للجمهور أن يحكم عليها هذا العام من خلال مراقبة تطبيق سلسلة من الأهداف العينية التي وضعتها لمختلف الوزارات، بدءا من الدفاع، حيث "البشرى الكبرى" هناك هي استكمال بناء جدار الفصل العنصري، ووزارة الخارجية التي تعِد بالتقارب أكثر نحو مؤسسات الاتحاد الأوروبي، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
ولكن هناك ثلاث قضايا مركزية وأساسية ستكون العمود الفقري في صلب حكم الجمهور على الحكومة، ولم تظهر في قائمة أهدافها، وهي الأوضاع الاقتصادية في الشارع الإسرائيلي بعد النمو الذي اقتصر على كبار الاقتصاد الإسرائيلي، والأوضاع الأمنية على الجبهة الشمالية أمام لبنان، والأوضاع الأمنية أمام الفلسطينيين. ونستعرض هنا هذه الملفات الثلاث.
الأوضاع الاقتصادية
في العامين الماضيين على وجه التحديد، إضافة إلى النصف الثاني من العام 2004، سجل الاقتصاد الإسرائيلي نموا اقتصاديا بنسبة عالية فاقت أحيانا نسبة 5%، وهذا بعد سنوات من الركود الاقتصادي، إلا أن هذا النمو لم يصل إلى الشارع الإسرائيلي، بل اقتصر بالأساس على كبار أصحاب رأس المال، الذين باتوا يسيطرون على الاقتصاد الإسرائيلي.
وفي المقابل فإن البطالة خلال تلك الفترة، وحتى وإن تراجعت، إلا أن تراجعها كان طفيفا، مقارنة مع حالة كان يجب أن تكون في ظل نسبة نمو كهذه، فقد هبطت البطالة خلال عامين ونصف العام من قرابة 11% إلى حوالي 5ر8%، وتشكك مراكز وجمعيات تعني بالقضايا الاجتماعية بهذه النسب وتؤكد أنها أعلى بكثير.
كذلك فإن نسب التضخم المالي كانت قليلة جديدا في الفترة الماضية، وحتى أنها في العام الماضي 2006 سجلت تراجعا بنسبة 1ر0%، ولكن اتضح أن أسعار الحاجيات الأساسية ارتفعت في نفس العام، وما خفّض مجمل التضخم المالي هي أسعار ما يمكن اعتباره بالنسبة للشرائح الفقيرة ولقسم واسع من الشرائح المتوسطة "كماليات"، في مصروفها اليومي.
إلى ذلك فقد أشارت تقارير اجتماعية إلى ازدياد حدة التقاطب الاجتماعي في المجتمع في إسرائيل، واتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، بعد أن تقلصت الشريحة الوسطى، التي تشكل الركيزة الأساسية في مجتمعات كثيرة، وهي التي تتحمل العبء الضريبي الأكبر وفق التقارير الرسمية. وقد تدنت نسبة هذه الشريحة إلى ما دون 28% من مجمل السكان في الآونة الأخيرة، بعد أن كانت هذه النسبة في منتصف سنوات التسعين حوالي 34%، وقد تدهورت الغالبية الساحقة من الذين خرجوا من هذه الشريحة نحو الشرائح الدنيا من حيث المداخيل المالية.
وفي الأسبوع الماضي وقف وزير المالية، أبراهام هيرشزون، ليعلن في مؤتمر صحافي عن رزمة "تسهيلات" ضريبية ومالية للجمهور، أسوة بمن سبقه من وزراء المالية في السنوات الأخيرة.
فقد أعلن هيرشزون عن إتباع طريقة ضريبة دخل "سلبية"، ابتداء من الشهر الأول من العام القادم 2008، بمعنى أن ضريبة الدخل ستعيد في إيصال الراتب الشهري مبلغا من المال لذوي الرواتب المتدنية، ويجري الحديث عن ارتفاع المداخيل لديهم بنسبة تتراوح ما بين 5% إلى 7%، وعادة أصحاب هذه الرواتب هم من الشرائح الفقيرة.
كذلك فإن هيرشزون أعلن عزمه على سن قانون ضمان تقاعدي إلزامي، بحيث يكون لكل أجير في إسرائيل صندوق تقاعدي مضمون، وتفيد المعطيات أن في إسرائيل حاليا نصف مليون أجير ليست لديهم صناديق تقاعدية، إلا أن قانونا كهذا وفي حال تم تطبيقه فإنه لن يكون قبل العام 2009.
وهذا إلى جانب استمرار تطبيق التعديلات الضريبية في العام الجاري، وحتى العام 2010، وهو سيشكل ارتفاعا طفيفا في المدخول الصافي للرواتب.
إن الجمهور في إسرائيل يراقب عمليا الحركة الاقتصادية، وهو ينتظر أن يصل إلى جيوبه قسط من النمو الاقتصادي، ومن "أرباح الكبار" التي يسمع عنها، وإذا ما بدأ الجمهور يشعر بهذا خلال العام الجاري، وليس فقط من خلال احصائيات رقمية ليست ملموسة على أرض الواقع، فإن هذا سينعكس على نظرته للحكومة الحالية، على أمل أنه على أبواب فترة رخاء.
لقد أشار استطلاع ظهر في الفترة الأخيرة إلى أن أكثر من 50% من الجمهور في إسرائيل راضون عن أوضاعهم الاقتصادية، وأكثر من 55% من الجمهور يتوقعون إما أن الأوضاع ستتحسن أو أنها ستبقى على حالها، وأي ارتفاع في هذه النسب سينعكس على نظرة الجمهور للحكومة.
ولكن تجدر الإشارة إلى أن الأوضاع الاقتصادية قد تخلق أجواء أفضل لأية حكومة، ولكنها لم تكن الحاسم الأكبر في أي من الانتخابات البرلمانية السابقة، بل إن الأمر الحاسم كان دائما الهاجس الأمني، تمشيا مع أجواء عسكرة المجتمع التي تعيشها إسرائيل منذ أن أقيمت.
والهاجس الأمني الأساسي في الشارع الإسرائيلي يتركز على جبهتين، أمام لبنان والفلسطينيين، وعلى الرغم من كثرة الحديث عن "أخطار المشروع النووي الإيراني"، إلا أنه يمكن القول إنّ هذا الخطر ليس ملموسا بعد لدى المواطن في إسرائيل بشكل مباشر.
الجبهة أمام لبنان
في الأسابيع القليلة القادمة ستقدم لجنة الفحص الرسمية لمجريات الحرب على لبنان، "لجنة فينوغراد"، استنتاجاتها الأولية، تمهيدا لتقديم التقرير الكامل. ومما لا شك فيه أن حيثيات هذا التقرير ستؤثر بشكل كبير على مستقبل رئيس الحكومة، إيهود أولمرت ووزير الدفاع، عمير بيرتس، وطبعا إلى جانبهما رئيس هيئة الأركان، دان حالوتس، الذي حسم مصيره بنفسه واستقال من منصبه.
وكما ظهر فإن الحرب أظهرت الكثير من العيوب لدى الآلة العسكرية الإسرائيلية، مثل الفوضى التي حدثت مع اجتياح القوات البرية للبنان، وعجز الدفاعات الإسرائيلية عن وقف وابل القذائف على الجبهة الداخلية في إسرائيل، وهذا كان ركيزة الانتقادات الحادة تجاه القيادتين العسكرية والسياسية في إسرائيل، منذ أن انتهت تلك الحرب.
كان واضحا بعد أيام من انتهاء الحرب أن مصير الحكومة مرهون بالنتائج البعيدة المدى للحرب، بمعنى على المستوى الإستراتيجي، وهذا ما ظهر في حينه في معالجة ضمن "المشهد الإسرائيلي"، ولاحقا أصبحنا نسمع عن هذه الاستنتاجات من أولمرت وبيرتس وغيرهما.
وحسب مصادر إسرائيلية فإن أولمرت ارتكز في شهادته أمام لجنة فينوغراد، التي أدلى بها في الأسبوع الماضي، على النتائج الإستراتيجية، فهو يرى أن إسرائيل "صححت" الوضع الذي نشأ بعد انسحابها من جنوب لبنان في ربيع العام 2000، بمعنى إبعاد حزب الله عن الحدود، ونشر القوات اللبنانية والى جانبها القوات الدولية في جنوب لبنان، وهو مطلب إسرائيلي سابق تحقق بعد الحرب.
من الصعب تكهن مضمون تقرير لجنة فينوغراد، ولكن على الأغلب فإن أولمرت لن يخرج "نظيفا" كليا. والسؤال المطروح: ما هو مستوى الانتقادات الموجهة إليه، وهل ستصل إلى مستوى الإطاحة به؟ وهذا أيضا ما يصعب التكهن به.
لكن من جهة أخرى فإننا بتنا نلمح بعض التغير في لهجة وسائل الإعلام الإسرائيلية، صاحبة الدور الأكبر في بلورة الرأي العام الإسرائيلي. فمثلا في حين كان الكثير يشككون في قدرة لجنة الفحص الرسمية على التوصل إلى استنتاجات جدية، أصبحنا اليوم نسمع من نفس المصادر أن هذه اللجنة "ليست كما اعتقدها البعض"، بل تعمل "بجدية".
كذلك فإن صدور تقرير اللجنة سيحدد وجهة العمل القادمة، على الصعيدين السياسي والعسكري، بمعنى أنّه إذا كانت هناك انتقادات كبيرة ضد أولمرت فإنه سيسعى إلى إصلاح الوضع، وأكبر اتجاه في هذا المجال هو الإسراع في المفاوضات من أجل إطلاق سراح الجنديين الأسيرين في لبنان، حتى وإن كان بثمن أكبر مما أراده.
أما في ما يتعلق بوزير الدفاع، عمير بيرتس، فإنه إذا لم يبادر إلى الاستقالة، فإن مصيره في هذه الحقيبة سيتم حسمه في الانتخابات لرئاسة حزب "العمل" التي ستجري بعد حوالي ثلاثة أشهر.
ولكن المقرر من حيث الجمهور على المدى البعيد هو استمرار الهدوء على الجبهة الشمالية، فقد مرّت ستة أشهر على انتهاء الحرب دون أي اشتباك، وبعد خمسة اشهر أخرى سنقرأ تلخيصات من نوع آخر في إسرائيل، بمناسبة مرور عام على بدء الحرب، واستمرار الهدوء على الحدود سيعزز خطاب أولمرت بحديثه عن "الانتصار على المستوى الإستراتيجي"، وهذا سيمحو بعضا مما علق في الذاكرة لدى الجمهور حول ما جرى في تلك الحرب.
الأوضاع أمام الفلسطينيين
إن ما يجري على الساحة الفلسطينية الداخلية من مأساة اقتتال داخلي يعطي متنفسا للقيادة السياسية الإسرائيلية، فهذا يبعد عنها أي حديث عن عملية سياسية ليس لديها الكثير مما تقدمه فيها، كما أنها ليست بحاجة إلى تصعيد أمني على ضوء ما يجري.
والنوايا الإسرائيلية بالإمكان لمسها من خلال رد الفعل الإسرائيلي الرسمي على عملية إيلات التفجيرية. فقد جرى التلميح في أكثر من مكان بأن القيادة السياسية ليست معنية بالرد العسكري على قطاع غزة "في الوقت الراهن". وحسب ما نشر في بعض الصحف، فإن وزير الدفاع، عمير بيرتس، قال بشكل واضح إن ردا كهذه سيعيد تركيز الأنظار على إسرائيل.
معنى ذلك أن إسرائيل تفضل السكوت على عملية كهذه طالما أن الفلسطينيين منشغلون بأنفسهم. وهذا على المستوى العسكري، أما على المستوى الميداني الاستيطاني، فحسب المخطط فإن إسرائيل قد تنجز، أو ستكون على وشك إنجاز بناء جدار الفصل العنصري، بطول حوالي 300 كيلومتر، بعد أن تم إنجاز أكثر من 420 كيلومترا حتى نهاية العام الماضي 2006.
ومسألة الجدار هي العنوان الأبرز لوزارة الدفاع، في أهداف الحكومة للعام الحالي، السابق ذكرها هنا.
إن المواجهة مع الفلسطينيين هي الأقرب جغرافيا بالنسبة للجمهور في إسرائيل، وأية مواجهة عسكرية أو عمليات ستكون ملموسة مباشرة في الشارع الإسرائيلي، وإذا لم تقع عمليات أخرى على غرار عملية إيلات، فإن الجمهور كحكومته على استعداد للتغاضي عن عملية "صغيرة" وقعت في مدينة نائية، قد يزورها الإسرائيلي العادي مرّة في العمر، وقد لا يصلها أبداً.
ومما لا شك فيه أن قضية الجندي الإسرائيلي الأسير في قطاع غزة ستبقى مصدر قلق بالنسبة للحكومة الإسرائيلية، فإذا ما اعتاد الجمهور على وجود أسرى في لبنان، فإنه لا يستطيع استيعاب وجود أسير دائم في قطاع غزة، لأن هذا أقرب إليهم أكثر.
وعلى الأغلب فإن الحكومة الإسرائيلية ستسعى قريبا إلى التقدّم في قضية الجندي الأسير في غزة، قبل أن يمضي عاما كاملا هناك، بعد نحو أربعة أشهر، وأيضا من أجل تخفيف الضغط الشعبي عليها.
من الصعب رؤية تقدم جدي على صعيد العملية السياسية أمام الفلسطينيين في العام الجديد، وهذا على ضوء سلسلة من المعطيات والوضع القائم، ولهذا فإن "المطلب" الشعبي الإسرائيلي في هذه المرحلة هو الهدوء الأمني لا أكثر.
خلاصة
على ضوء الحديث عن أزمة الحكومة الإسرائيلية وكثرة الاستطلاعات التي تنشر في مختلف وسائل الإعلام الإسرائيلية من دون أي حدود، انتشرت الكثير من الأوهام وكأن حكومة إسرائيل على وشك الانهيار. إن فهم طبيعة المرحلة والظروف الداخلية تسمح بقراءة الخارطة بشكل آخر، ووضع آلية للتعامل معها بشكل واقعي، وليس بناء على توجهات إعلامية لا تعمل بمفردها، بل بتوجيه جهات لربما ليست بالضرورة داخل الساحة السياسية.
خلال هذا العام سنقرأ الكثير من الأبحاث والاستطلاعات ومن بينها الدورية، إلى جانب معطيات وتقارير اقتصادية، وستكون مؤشرا لنتائج عمل الحكومة على الصعيد الداخلي وعلى صعيد ردّ فعل الجمهور عليها.