قبل أن يبدأ العدوان على لبنان طالب نوعام شليط، والد الجندي الإسرائيلي الأسير غلعاد شليط، حكومته بعدم بناء "قوة الردع" الإسرائيلية على كتفي ابنه لأنهما "أصغر من أن يتحملا ذلك". وأضاف، في مقابلة أجرتها معه صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أنه كان على الجيش الإسرائيلي أن "يعيد قوة الردع عندما كانت هناك إنذارات بتنفيذ عمليات" ضد القوات الإسرائيلية.
من جهة ثانية، وبعد أسبوع على أسر ابنه، دعا شليط إلى وجوب إطلاق سراح أسرى فلسطينيين في السجون الإسرائيلية من أجل استعادة ابنه.
وبدا آنذاك أن شليط الأب يخوض نضالا، ما زال هادئا، مقابل الحكومة الإسرائيلية ورئيسها ايهود أولمرت، الذي يعلن صباح مساء رفضه التوصل إلى صفقة لتبادل أسرى يطلق بموجبها سراح أسرى فلسطينيين مقابل الجندي شليط، فيما لا يخفي والد الجندي قلقه على حياة ابنه مع مرور الوقت.
وقد أثارت عملية أسر شليط تداعيات لدى معظم الجنود الذين تم أسرهم في دول ومنظمات عربية خلال الحروب التي شنتها إسرائيل. وأثارت ذكريات لدى المجتمع الإسرائيلي عموما حول عمليات تبادل الأسرى. وقال الكثيرون من هؤلاء الجنود وآبائهم وأمهاتهم لعائلة شليط إن إطلاق سراح ابنها يتعلق بالأساس بمدى علو صوت العائلة، خصوصا في وسائل الإعلام.
فقد قال والد الجندي الإسرائيلي المفقود زخاريا باومل، الذي فُقد في معركة السلطان يعقوب أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان، إنه لم يطلق صرخته بالحجم المطلوب بعد المعركة مباشرة في وجه الحكومة الإسرائيلية. وأضاف في حديث لإحدى القنوات التلفزيونية الإسرائيلية إنه كان ثمة من اقترح عليه أن لا يهدأ ولا يستكين في مطالبته لحكومة بلاده بأن تنفذ بدورها صفقة تعيد إليه ابنه "حتى لو كلّف ذلك إعادة القدس".
وقال شليط "إنني لا أعرف تاريخ عائلات الجنود الأسرى. لكني آمل أن يكون صناع القرار يعرفون هذا التاريخ وألا يكرروا أخطاء الماضي. من جهة أخرى، إذا رأيت أن لا شيء يتقدم وإذا لم تكن هناك ديناميكية تسعى للحل، عندها سأقول ما يجول في قلبي. عندها لن أضبط نفسي. ولا أريد أن أفعل ذلك الآن. وأنا على اتصال دائم مع صناع القرار وبضمنهم رئيس الحكومة، ولا أعتقد أن الوقت الآن مناسب لتنظيم مظاهرات أو التصرف بصورة هستيرية لأن من شأن ذلك أن يخدم الخاطفين".
رغم ذلك، فإن أكثر ما تخشاه عائلة شليط هو مرور الوقت. وقد غادر مراسلو وسائل الإعلام، خصوصا الإسرائيلية، باحة منزل عائلة شليط التي كانوا يملؤونها في الأيام العشرة الأولى على مدار الأربع والعشرين ساعة. كذلك بدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية تخلو من تقارير عن عائلة شليط. فهناك قضايا أخرى عليهم أن يغطوها. ولا يتم ذكر الجندي الأسير سوى في تصريحات المسؤولين السياسيين الذين يستخدمون القضية لأجندتهم الشخصية أو السياسية.
كما أثارت قضية أسر غلعاد شليط ذكريات لدى استير فاكسمان، والدة الجندي نحشون فاكسمان، الذي أسره مقاتلون فلسطينيون في العام 1995 وقتل في عملية نفذتها وحدة الكوماندو التابعة لقيادة أركان الجيش الإسرائيلي بأمر من رئيس الوزراء في حينه إسحق رابين أثناء محاولة فاشلة لإطلاق سراحه.
وقالت استير فاكسمان إن السلطات الإسرائيلية لا تطلع عائلات الجنود الأسرى أو المفقودين على الكثير من التفاصيل المتعلقة بأبنائها. وأكدت: "أعرف أنهم لا يقولون كل شيء. ربما لا يكذبون لكنهم لا يقولون كل شيء. بودي أن أعطيهم (لعائلة شليط) نصيحة وهي أن يكلفوا أحدا بإدارة الاتصالات مع الجيش، وألا يفعلوا ذلك بأنفسهم. لقد اتصلت بعائلة شليط. ولكن مندوبي الجيش لم يسمحوا لي بالحديث مع أحد من أفراد عائلة شليط. الوضع عندهم مطابق تماما لما كان عليه الوضع عندنا. مندوبو الجيش تواجدوا دائما عندنا".
مندوبو الجيش الإسرائيلي لا يفارقون عائلة الجندي الأسير، ليس لمواساة العائلة وإنما بالأساس للتمكن من ضبط الأمور ومراقبتها عن كثب. فهناك وحدة عسكرية خاصة تابعة لهيئة الأركان الإسرائيلية، هي وحدة المفاوضات. وتضم هذه الوحدة "أفضل الأدمغة في كل ما يتعلق بإدارة أزمات ومفاوضات لإطلاق سراح رهائن"، على حد تعبير أحد قادتها. وتضم هذه الوحدة أخصائيين في علم النفس، مهمتهم تحليل سير تفكير آسري الجندي، ومحامين متخصصين في المفاوضات وصياغة اتفاقات، وخبراء في تسوية نزاعات وأخصائيين في الشؤون العربية يتحدثون اللغة العربية بطلاقة حتى أن بعضهم قادر على التعرف على اللهجات المختلفة. وتضم هذه الوحدة أشخاصا عملوا في الماضي في جهاز الأمن العام (الشاباك)، من أولئك الذين كانوا يفعّلون العملاء والمتخصصين في استغلال ضعف وقوة الطرف المقابل. كما تضم رجال مخابرات وأفرادا من وحدة الحكم العسكري والإدارة المدنية في الضفة الغربية وقطاع غزة. ويتناوب أفراد هذه الوحدة على مدار الأربع والعشرين ساعة على تحليل الأوضاع.
ويتواجد أفراد من هذه الوحدة بصورة دائمة في منزل عائلة شليط. ومن مهامهم منع أي كان، خصوصا وسائل الإعلام، من معرفة ما يدور داخل منزل عائلة الجندي الأسير. والأهم من ذلك، تلقين عائلة الجندي التصريحات التي يطلقها أفراد العائلة أمام الصحافيين. ونقلت "يديعوت أحرونوت" عن أحد أفراد وحدة المفاوضات قوله: "لا نستخدم العائلة كقناة لتمرير رسائل". لكن فردا آخر في الوحدة أوضح أن "هذه الـ"لا" ليست مطلقة. لا يوجد هنا أبيض أو أسود، فكل شيء يتم وفقا للظروف".
وكان نوعام شليط قد تحدّث في إذاعة "صوت السلام" الإسرائيلية الفلسطينية المشتركة وضمّت المقابلة مسؤولا من حركة حماس. وطلب شليط أثناء حديثه للإذاعة أن يقول آسرو ابنه ما هي مطالبهم لقاء إطلاق سراحه من جهة، وأنه يتوجب منع وضع يتم فيه المس بالأبرياء من كلا الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، من جهة أخرى. وأقر أحد أفراد وحدة المفاوضات بأن أقوال شليط كانت بموجب مشورة قدمها أفراد وحدة المفاوضات.
من جهة أخرى، انتقد مسؤول في هذه الوحدة أقوال المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية وعلى رأسهم أولمرت على خلفية تصريحات مباشرة حول الموقف الإسرائيلي من مطالب آسري الجندي الإسرائيلي بعد عملية الأسر مباشرة، مثل "لن تكون هناك مفاوضات مع الخاطفين" أو "لن يتم إطلاق سراح أسرى" أو "إذا استجبنا للخاطفين هذه المرة فإن عمليات اختطاف الجنود ستتكرر". وقال المسؤول في وحدة المفاوضة إن "هذا ليس عملا صائبا بتاتا، مثله مثل الادعاء بأن أي استسلام سيولد عمليات اختطاف إضافية. إن المحفز لاختطاف جنود ليس مرتبطا بالنتائج. إنه مرتبط بالصراع وبالرغبة في المس بإسرائيل وبسلسلة من المصالح أوسع بكثير من إطلاق سراح عدد من الأسرى".
لكن، وفيما تسعى عائلة الجندي الأسير إلى إنهاء الأزمة بأسرع وقت وإبقاء القضية على جدول أعمال المجتمع الإسرائيلي من خلال وسائل الإعلام، تعمل وحدة المفاوضات في الاتجاه المعاكس. وقال أحد الأخصائيين في هذه الوحدة إن التوجه هو "محاولة جعل مجرى الأحداث مستقرا وتهدئة الخواطر ووقف عملية التصعيد وإنهاك الخاطفين وإنزال القضية من العناوين الرئيسية". وأضاف أنه "رغم أنه من المألوف الاعتقاد بأن مرور الوقت لا يعمل في صالح المخطوف إلا أنه ثمة أهمية إيجابية للوقت الذي يمر وللقدرة على جمع معلومات استخباراتية وتحسين صورة الوضع وتقليص انعدام الوضوح ليتسنى اتخاذ قرارات".
لكن هذا التوجه لا يهم أولئك الذين مروا بتجربة الأسر أو عائلاتهم. ويعتبرون أن الأمر الأهم هو عودة الجندي الأسير وليس مهما ما هو الثمن. ورأى حيزي شاي، الذي سقط في أسر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة أثناء غزو لبنان، أن "إطلاق سراح الجندي شليط في إطار صفقة تبادل أسرى يتم من خلالها إطلاق سراح أسرى فلسطينيين هو أرخص ثمن يمكن أن تدفعه إسرائيل".
الحكومة الإسرائيلية في الاتجاه المعاكس
من جهتها، تمضي الحكومة الإسرائيلية عادة في اتجاه معاكس. وهذا ما حدث مثلا عندما أسر ناشطون فلسطينيون الجندي نحشون فاكسمان. وقالت والدته استير فاكسمان إن رابين قرر استخدام الجيش لإطلاق سراح ابنها وبرر ذلك بإلقاء المسؤولية على الرئيس الفلسطيني في حينه ياسر عرفات. والأمر ذاته يتكرر الآن، في حالة الجندي الأسير غلعاد شليط. فقد ألقى أولمرت مسؤولية أسره على القيادة الفلسطينية وأرسل جيشه لينفذ عمليات عسكرية واسعة في قطاع غزة. وقال استير فاكسمان إنها صرخت في حينه في وجه رابين قائلة إن "ابني يجلس في الأسر مرتديا بزة الجيش الإسرائيلي وأنت تقول لي إن عرفات المذنب؟ إن ابني في جيش إسرائيل وأنا مواطنتك ولست مواطنة عرفات".
لكن يبدو أن أصوات الجنود الإسرائيليين الذين خرجوا من الأسر في إطار صفقات تبادل أسرى، مثل حيزي شاي، أو صوت استير فاكسمان التي فقدت ابنها بسبب تعنت الحكومة الإسرائيلية وإصرارها على تنفيذ عملية عسكرية لإنقاذه ومقتله خلالها، لم تصل إلى نوعام شليط المحاط بمندوبي الجيش الإسرائيلي وخصوصا أفراد وحدة المفاوضات، إذ اعتبر أن "الحكومة تعمل كل شيء من أجل إعادة الابن". ومضى قائلا فيما يظهر أنه رسالة إلى آسري ابنه "الآن لا يصرحون بكل شيء في العلن، ولا يتوجب إطلاق تصريحات. لكن إذا كان هناك اقتراح جدي من جانب الخاطفين، ولا أقصد اقتراحا على مستوى الانترنيت، فإن لا يتوجب على الحكومة أن تتجاهله. يحظر عليها أن تتجاهل".
وتابع شليط واضعا معادلة تذكر بسياسة الحكومة الإسرائيلية في هذه الأزمة وهي إطلاق سراح الجندي مقابل انسحاب الجيش من القطاع: "لو كان بإمكاني لذهبت إلى غزة والقول للفلسطينيين دعونا ننهي هذه المعاناة، معاناتنا كعائلة ومعاناتكم، معاناة آلاف الفلسطينيين (جراء العمليات العسكرية في القطاع)".
من جانبهم، يؤكد جميع من مروا بتجربة شبيهة بتجربة نوعام شليط على أن الإنسان في هذه الحالة لا يفكر بشكل سليم بسبب التوتر الشديد الذي يعاني منه ورغبته في إنهاء الأزمة وعودة ابنه إلى بيته بكل ثمن وبكل طريقة. وفي مقابل ذلك يسيطر الجيش على أقوال شليط من خلال وحدة المفاوضات المقيمة في بيته، والتي تلقنه ماذا يقول وماذا لا يقول. كما أن الحكومة الإسرائيلية ماضية في مغامرة عسكرية في غزة وسط تحذير مراقبين ومحللين من "الغوص في وحل غزة". وفي موازاة كل ذلك تتحقق شيئًا فشيئًا مخاوف عائلة الجندي. فوسائل الإعلام الإسرائيلية أخذت تعالج قضايا أخرى ليست أقل أهمية.