المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

"المشهد الإسرائيلي"- عمّم مركز "كيشف" (مركز حماية الديمقراطية في إسرائيل) تقريرًا جديدًا تحت عنوان "تصفية عامة" تبيّن منه أن الإعلام الإسرائيلي "ينطق بلسان الجيش الإسرائيلي" من حيث التغطية الإعلامية لحوادث اغتيال الفلسطينيين خاصة وللصراع الفلسطيني- الإسرائيلي عامة.

وقد قام بالتحقيق وكتابة التقرير كل من: شيري إيرام، ميخال هرئيل، عوفر فلودفسكي، كارمي لاكار وشمري تسميرت، بتمويل من "الاتحاد الأوروبي". هنا القسم الأول من النصّ الكامل للتقرير:

يتكبد الفلسطينيون والإسرائيليون ثمنا فادحاً جراء الواقع العنيف الناجم عن النزاع الدامي بين الطرفين. منذ بداية الانتفاضة الثانية في أيلول 2000 قتل أكثر من 3300 فلسطيني على أيدي قوات الأمن الإسرائيلية، وقتل في نفس الفترة أكثر من 1000 إسرائيلي على أيدي الفلسطينيين.

طريقة تغطية حوادث القتل تؤثر على قدرة مستهلكي الإعلام في إسرائيل في فهم تعقيدات النزاع، وتفسير وإدراك تشابكاته وأبعاده، وإيجاد التوازن بين العوامل المؤثرة على مستوى العنف.

ولا يمكن فهم النزاع ودائرة العنف الحالية دون معرفة المعطيات الأساسية للواقع لدى الطرفين. المواطنون الإسرائيليون مكشوفون لتغطية واسعة ومكثفة في كل ما يتعلق بالأحداث التي يقتل فيها إسرائيليون على أيدي فلسطينيين... أحد الأسئلة المركزية التي سنسعى إلى تفحصها هنا هي: هل يتلقى مستهلكو الإعلام الإسرائيلي المعلومات الأساسية المتعلقة بمقتل فلسطينيين على أيدي قوات الأمن الإسرائيلية؟

في البحث الذي يتضمنه هذا التقرير قمنا يتفحص التغطية الإعلامية لأحداث من هذا النوع وقعت في شهر كانون الأول 2005 والذي قتل فيه، وفقاً لوسائل الإعلام المركزية في إسرائيل، 22 فلسطينيا. وقد تم في إطار البحث تفحص أعداد الصحف (اليومية) الثلاث "هآرتس"، "يديعوت أحرونوت" و"معاريف"، ونشرات الأخبار المركزية لمحطات التلفزيون الرئيسية الثلاث: القناة الأولى والثانية والعاشرة، وتم ضمن ذلك تفحص جميع الأخبار التي احتوت تغطية لحادث قتل فيه فلسطيني على أيدي قوات الأمن الإسرائيلية، وأخبار تناولت الموضوع بصورة عامة (مثلا أخبار تناولت سياسة "التصفيات" أو ردود فعل الطرفين على الأحداث) وتم بالمجمل تفحص 135 خبراً.

ما هي التصفية؟

في هذا التقرير عرفنا البلاغ عن "تصفية" عندما يصف هذا التعبير وضعاً وقعت فيه عملية قتل معتمدة ومدبرة سلفا. هذا التعريف يستند إلى الفهم الشائع لـ "التصفيات"، والذي جرى التلميح إليه أيضا عبر الصيغة الإنذارية التي استخدمها الجيش الإسرائيلي لوصف أحداث من هذا النوع وهي "إحباط موضعي"، بمعنى أن عملية "التصفية" تهدف، حسب مفهوم الجيش وقوات الأمن، إلى إحباط عملية حربية، أي أنها عملية متعمدة ومخططة مسبقاً.

وكانت وثيقة قدمت إلى "محكمة العدل العليا" في شباط 2003 من قبل شاي نيتسان، مساعد المدعي العام للدولة، قد أوضحت أن "التصفيات" هي أمر متعمد ومُدبَّر(مخطط) له سلفا : "القانون الدولي الخاص بأحكام الحرب يميز بين مجموعتين من الناس: محاربون ومدنيون. وبينما يعتبر المحاربون أهدافا مشروعة للمهاجمة، فإن المهاجمة المتعمَّدة للمدنين مُحرَّمة كليا".

في مقال تحت عنوان "مأزق مأساوي" نشر في صحيفة "هآرتس" بتاريخ 29 شباط 2004، أوضح آسا كاشير، أحد واضعي "الرمز الأخلاقي" للجيش الإسرائيلي، أن مصطلح التصفيات يتعلق بالنشاطات الوقائية الموجهة ضد "شخص يقوم بتحضيرات عملية لتنفيذ اعتداء في إسرائيل"، بمعنى ليس خلال القتال.

وفي مقال آخر كتبه كاشير بالاشتراك مع الجنرال عاموس يادلين (رئيس قسم الاستخبارات العسكرية حاليا) ورد تأكيد العنصر المتَّعَمُّد في عمليات "التصفية": "يعتبر شخص بمثابة قنبلة وشيكة الانفجار ليس فقط عندما يكون متحزما بحزام ناسف وفي طريقه إلى مكان أو موقع إسرائيلي، وإنما أيضا في مراحل سابقة من السيرورة العملية، مثلا في أثناء قيام الشخص بتزويد غيره بوسيلة الاعتداء، وخلال قيامه بتخطيط وتنظيم ترتيبات تنفيذ الاعتداء وما شابه ذلك".

من هنا فان عمليات "التصفية" تعتبر إذن كأحداث وقعت في ظروف واضحة جدا: مهاجمة ناشط فلسطيني أثناء قيامه بتحضير أو تنفيذ عملية معادية ضد إسرائيل. في المقابل عندما يُقتل فلسطيني على أيدي قوات الأمن الإسرائيلية في ظروف أخرى فإن الحادث يكون أكثر غموضا وتعقيداً. ومن باب التسهيل سنطلق على حوادث موت من هذا النوع حوادث "ليست تصفية".

هذا البحث تفحص أنماط التغطية في وسائل الإعلام الإسرائيلية لمجمل الإحداث التي لقي فيها فلسطينيون مصرعهم برصاص قوات (الاحتلال) الإسرائيلي، وذلك خلال فترة إعداد البحث. كذلك ثم تفحص مسألة ما إذا تمت تغطية حوادث القتل الأخرى ("غير التصفية"). بالإضافة إلى مسائل أخرى يتفحصها البحث مثل حجم التغطية وطبيعتها ومدى دقتها وموضوعيتها إلخ؟

من الأهم : المستهدفون بالتصفيات أم الفلسطينيون الذين قتلوا في ظروف أخرى؟

أحد الأسئلة المركزية التي تم تفحصها في نطاق هذا البحث: هل اثر الاختلاف في وصف (تعريف) الأحداث على حجم وبروز تغطيتها في وسائل الإعلام؟

تظهر معطيات البحث أن حوادث "التصفية" نشرت في 80% من أعداد وطبعات الصحف التي فُحصت وذلك في مقابل حوادث قتل أخرى (لمواطنين فلسطينيين) نشر عنها في 46% من الحالات فقط. يُستدل إذن أن حوادث القتل غير المحددة على أنها "تصفية" نشرت في وسائل الإعلام الإسرائيلية بحجم يقل بمرتين (ضعفين) عن حجم النشر عن حوادث "تصفية".

على سبيل المثال، في التقرير الذي نشرته "يديعوت أحرونوت" في 14 كانون الأول (2005) عن عملية الجيش الإسرائيلي في نابلس كان عنوان التقرير الذي نشر على الصفحة الثالثة: "خرج المقاتلون [جنود الجيش الإسرائيلي- الترجمة] للقيام بنشاط في نابلس، المستوطنون أعطبوا عجلات سيارة الجيب العسكري". تغطية هذا الحدث في وسائل إعلام أخرى تبين أن هذا النشاط الذي شن الجيش خلاله عملية اعتقالات في نابلس تسبب باندلاع مواجهات واسعة في المدينة قتل خلالها فلسطيني برصاص الجيش الإسرائيلي وجرح العشرات. في صحيفة "هآرتس"، 14 كانون الأول، ذكر في تقرير نُشر على الصفحة الـ 6: "في حادث آخر وقع في مدينة نابلس قُتل حسام سكر، 22 عاماً، أثناء مواجهات عنيفة بين متظاهرين فلسطينيين وقوة عسكرية إسرائيلية دخلت صباح أمس إلى المدينة بهدف القيام باعتقالات".

وفي تقرير أذيع في الدقيقة الثامنة من نشرة أخبار محطة القناة الثانية (في التلفزيون الإسرائيلي) في 13 كانون الأول، أفاد (المراسل) نير دفوري: "[....] وقال الفلسطينيون إنه (أي الشاب القتيل) لم يكن مسلحا... وقامت سيارات الإسعاف بإخلاء أكثر من عشرين فلسطينيا".

في صحيفة "يديعوت أحرونوت" حذفوا من الخبر هذه الوقائع، في حين لم تنشر محطة القناة الـ 10 و"معاريف" أي خبر عن عملية الجيش في نابلس.

في أربعة من التقارير التي تناولت حوادث لم توصف كـ "تصفية"، تمت الإشارة إلى واقعة قتل الفلسطينيين بصورة عَرَضية، أو دونما اهتمام. على سبيل المثال، جاء في عنوان مقدمة نشرة الأخبار في محطة القناة العاشرة في 3 كانون الأول: "مواجهة بحرية في قطاع غزة. في جيش الدفاع الإسرائيلي يخشون من زوارق ملغومة". أما حقيقة أنه قتل فلسطيني في هذه المواجهة فقد وردت في هامش التقرير على لسان شاهد عيان فلسطيني قال بالعربية إن "البحر مغلق بالنسبة لنا. سفن "الدبور" تطاردنا طوال الوقت وتطلق النار باتجاهنا... قامت سفينة دبور بمطاردته وقتله في البحر". واقعة القتل ذكرت بكلمة واحدة فقط في نصوص الترجمة التي ظهرت ضمن التقرير.

ألون بن دافيد (مراسل عسكري) أبلغ بطريقة عابرة في نشرة أخبار القناة العاشرة في 22 كانون الأول، عن مقتل أحد الفلسطينيين، وكان ذلك على هامش تقرير أعده وقدمه "بن دافيد" وتناول فيه تحصين قواعد الجيش الإسرائيلي ضد صواريخ "القسام": كل المنطقة التي يطلق الفلسطينيون فيها (الصواريخ) باتجاه عسقلان، أعلن الجيش الإسرائيلي أن كل من يدخل إلى هذه المنطقة سوف تطلق النار عليه... الجيش الإسرائيلي يطلق قذائفه ونيرانه إلى المنطقة طوال الوقت، وقد قُتل أحد الفلسطينيين خلال هذا اليوم.

أما القناة الأولى (التلفزيون الرسمي) فقد أبلغت عن مقتل الفلسطيني في نهاية تقرير أذاعته في اليوم ذاته على النحو التالي:

... وهذا هو رد الجيش الإسرائيلي (على صواريخ القسام) عشرات القذائف أطلقها على مر ساعات اليوم جنود بطارية المدفعية باتجاه المناطق التي أطلقت منها صواريخ القسام. أعلن الفلسطينيون عن قتيل واحد، لكن سكان عسقلان ومحيطها يقللون من أهمية هذا القصف الإسرائيلي الموجه حسب قولهم نحو مناطق مفتوحة.

في الحالات التي قامت فيها وسائل الإعلام بإخبار الجمهور عن واقعة مقتل أحد الفلسطينيين لم يظهر اختلاف ذي أهمية بين حوادث "تصفية" وحوادث قتل أخرى. وقد ظهرت غالبيتها في العناوين. وهكذا فإن حجم تغطية حوادث "التصفية" أكبر بكثير من تغطية حوادث القتل الأخرى. وبغية رؤية الصورة الكاملة للتغطية، لا بد أيضاً من تفحص محتوى هذه التغطية من حيث الطريقة التي يتم فيها الإعلان عن حوادث القتل المختلفة، والأسئلة التي تُثيرها وسائل الإعلام، وكيفية تأثير الظروف والملابسات على طريقة التغطية.

من المعلوم أن على الصحافي عند قيامه بتغطية حدث ما، أن يتحرى خمس مسائل أساسية وهي: مجريات الحادث؛ متى وقع؛ من هم الضالعون فيه؛ أين، ولماذا حدث؟

تظهر نتائج البحث أن وسائل الإعلام تميل، في كل ما يتعلق بتغطية أحداث قتل فيها فلسطينيون بنيران قوات الأمن الإسرائيلية، إلى نقل (نشر) الرواية الأمنية الرسمية فقط. ففي 75% من التقارير الصحافية التي تناولت حوادث قتل فيها فلسطينيون (35 من 48) كان المصدر الوحيد الذي يمكن الوقوف من خلاله على ما حدث في المنطقة مصدرا عسكريا أو أمنيا (إسرائيليا). وبدورها كانت وسائل الإعلام تتبنى في هذه الحالات بشكل كامل رواية الجيش الإسرائيلي. كانت وسائل الإعلام تُذيع وتنشر هذه الرواية دون إبداء أي تحفظ عليها ودون التحقق من صحتها، سواء من خلال مصادر فلسطينية أو مصادر إسرائيلية أخرى، أو من خلال تحقيق مستقل.

هناك مثال يبين ذلك وهو الطريقة التي اتبعت في تغطية "تصفية" فلسطينيين في 31 كانون الأول. فقد وصفت الحادث ثلاث من أربع وسائل إعلام أوردته، بطريقة مشابهة: صحيفة "يديعوت أحرونوت" قررت في (1/1/2006) ضمن عنوان تقرير نشر على الصفحة الرابعة: "...وفي غزة تمت تصفية خلية قسام"، وفي "معاريف" وتحت عنوان "مخاوف: حماس تخطط لهجمة إرهابية وبصواريخ القسام" ورد في خبر نشر على الصفحة الخامسة: أمس، وللمرة الأولى منذ بدء عملية "السماء الزرقاء" في الحزام الأمني شمال قطاع غزة اعترض سلاح الجو خلية مخربين حاولت إطلاق صواريخ قسّام باتجاه الأراضي الإسرائيلية. أعضاء الخلية حاولوا التمركز إلى الجنوب من أنقاض مستوطنة إيلي سيناي التي تم إخلاؤها في نطاق الانفصال، ولكن قبل أن يتمكنوا من إطلاق القذيفة الصاروخية أُطلق باتجاههم صاروخ أصابهم مباشرة.

يلاحظ هنا أن وسائل الإعلام تبنت في هذه التقارير دون أي تحفظ بيان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي حول هذا الحادث: "في نطاق نشاط "تساهل" (جيش الدفاع الإسرائيلي) ضمن عملية السماء الزرقاء للقضاء على إطلاق القذائف الصاروخية نحو أراضي دولة إسرائيل، شخصت قوات "تساهل" خلية مخربين كانت تعد لإطلاق قذيفة صاروخية". ولكن بعد يومين فقط على الحادث، أي في 2 كانون الثاني 2006، طرحت في سياق تقرير نشرته صحيفة "هآرتس"، رواية أخرى بالنسبة لهوية القتيلين الفلسطينيين: "مصادر فلسطينية أفادت أن القتيلين كانا مواطنين مدنيين وهما الأخوان حمزة ومعتز حمدونه 22 و 26 عاماً. وحسب المصادر الفلسطينية فإن حقول الأخوين القتيلين تقع على مقربة من المكان الذي أطلق عليه الصاروخ (الإسرائيلي)". هذه الصيغة نشرت إلى جانب بيان المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي الذي ادعى أن الصاروخ أطلق على "خلية مخربين".

هذا الاتجاه يستمر أيضاً عند قيام المراسلين بتقصي تسلسل الأحداث التي أفضت إلى القتل. على سبيل المثال، في تقرير بثته محطة القناة الأولى في العاشر من كانون الأول 2005، وصف قائد قاعدة أشدود في سلاح البحرية، حادثة قتل فيها فلسطيني برصاص جنود إسرائيليين، على النحو الآتي: "السبَّاحان جرا خلفهما وسائل... ومسائل قتالية. تدخلت القوة من أجل إلقاء القبض على السباحين. خلال عملية الاعتقال رفض السباحان التوقف وحاولا الفرار، وفي الوقت ذاته فُتحت النار على قواتنا من الشاطئ. قواتنا أطلقت النار على السباحين بهدف منع عملية التهريب".!

ثلاث من أربع وسائل إعلامية غطت الحادث، أوردت رواية متشابهة فيما يتعلق بإطلاق النيران الفلسطينية (من الشاطئ) التي أدت لقيام سفينة سلاح البحرية بإطلاق نيرانها، أما محطة "القناة الثانية" فقد أوردت قصة مختلفة بعض الشيء:

قتل الفلسطينيان اليوم قُبالة شواطئ غزة بنيران سلاح البحرية، أُشتبه بأنهما حاولا تهريب وسائل قتالية من مصر. الاثنان قدما سباحة من الجانب المصري وكانا يجران جسماً غير معروف باتجاه المنطقة الفلسطينية. (الفلسطينيان) لم يمتثلا لنداءات سلاح البحرية بالتوقف. بعد قيام الجنود بإطلاق النار أُطلقت النار باتجاههما من الشاطئ الفلسطيني.

هذه الأمثلة وغيرها مما نشر خلال شهر الفحص تدل على أن الواقع ليس بالواقع البسيط... غير أن وسائل الإعلام تميل إلى إتحافنا بقصص بسيطة... فوسائل الإعلام المذكورة الأربع لم تقدم أي تحقيق أو تحرٍّ مستقل فيما يتعلق بالأسئلة التي تثيرها التقارير: ما هي تلك الرزمة التي جرها السبّاحان؟ من يكن هذان السبّاحان؟ ومن الذي أطلق النار؟ وربما حتى: ما هو مصدر الاختلاف بين الروايات؟

يظهر تقرير بثته محطة القناة العاشرة في 13 كانون الأول 2005 أن وسائل الإعلام قادرة إذا أرادت على تحري تفاصيل وحيثيات أحداث أمنية على اختلاف جوانبها، خاصة إذا كان الحديث يدور عن أحداث تتعرض فيها حياة إسرائيليين للخطر.

على امتداد التقرير الذي قُدِّمَ له في مستهل النشرة بعنوان: "ينشر لأول مرة: مروحية تابعة لسلاح الجو هاجمت صيادين إسرائيليين على شاطئ البحر"، أجرى المراسل شاي حزكاني مقارنة بين الحالة الموصوفة وبين عملية "التصفية": هذا الحادث بدا وكأنه مأخوذ من فيلم "أكشن" أو على الأقل من إحدى عمليات التصفية في غزة [...] ولكن الأمر لا يتعلق هنا بقطاع غزة وإنما بقطاع الشاطئ الممتد بين "بلماحيم" وأشدود، وبصياديْن إسرائيليين ذهبا لاصطياد السمك.

ثم سأل المراسل (حزكاني) الصياديْن: ما هو شعوركما؟ هل تشعران بخوف حقيقي، وقد تحولتما إلى هدف متحرك [...]؟ فرد عليه أحدهما قائلاً: "قبل كل شيء خوف وإهانة... ما هذا... أأنا عربيّ في غزة؟! كيف يحدث مثل هذا الأمر... وأنا على مسافة مترين من بيتي جاءت طائرة مروحية وانقضت عليّ... من هو هذا الطيّار الوقح القادر على عمل شيء من هذا القبيل؟ لا أفهم!" وبخلاف ما يميز وسائل الإعلام فقد حرص المراسل في هذه الحالة بالذات على إثارة التساؤلات المطلوبة: نحن موجودون في منطقة "ميدان رماية"، ولكن كما رأيتم ليس من الصعب الوصول إلى هنا، فلا جدران ولا أسلاك شائكة ولا حتى يافطات... باستطاعة أي شخص الوصول إلى المكان بطريق الخطأ وأن يواجه هجوماً كالذي واجهه الصيادان... في سلاح الجو يقولون إن المنطقة هي ميدان تدريب ورماية معروف على الرغم من أنه غير مسيَّج.

وبعد توجيه أسئلة والحصول على إجابات من مسؤول عسكري حول نفس الحادث، أنهى المراسل تقريره بإثارة مسألة لاذعة حيث قال: "يُقر الطيارون أنهم سعوا إلى إبعاد الصياديْن من المنطقة بأسرع وقت ممكن، وأنهم استدعوا عربة دورية كي تقوم بإخراج وإبعاد الرجلين ولكن في مرحلة معينة، ولما تأخرت سيارة الدورية في الوصول، ما كان من الطياريْن اللذين نفد صبرهما إلاّ أن تصرفا بالشكل الذي تم".

هذه المقارنة التي أجراها المراسل ذاته بين الحادث المذكور وبين عملية "تصفية" تظهر أن التغطية يمكن أن تتم أيضاً بطريقة أخرى... فقد خصص هنا حيز واسع لوصف ما اعترى المواطنين الإسرائيليين المهاجمين من مشاعر ومخاوف، ووجهت أسئلة حول كل ما يتعلق بالأسباب التي أدت إلى إطلاق النار، وأجري إجمالاً تحقيق صحافي جاد حول الحادث. في المقابل عندما يتعلق الأمر بحياة فلسطينيين نجد أن وسائل الإعلام الإسرائيلية لا تعبأ بتوظيف أي جهد، ولو بالحد الأدنى، من أجل تقصي و استيضاح أسئلة مشابهة.

من بين 48 تقريراً أو خبراً عن قتلى فلسطينيين بنيران قوات الأمن الإسرائيلية، ظهرت في 8 مرات فقط رواية بديلة لرواية الجيش الإسرائيلي عن الحادث، سبع منها تناولت حوادث ليست عمليات "تصفية". طوال فترة الفحص ظهرت مرة واحدة فقط رواية الجيش الإسرائيلي حول حادث "تصفية".

80% من التقارير الواضحة حول عمليات "تصفية" ظهرت في العناوين. في المقابل، في الحوادث التي قتل فيها فلسطينيون برصاص قوات الأمن الإسرائيلية في ظروف أخرى، ظهرت رواية الجيش الإسرائيلي في معظم الحالات داخل نص التقارير فقط (وليس في العناوين).

كما أسلفنا في حالات قليلة جداُ فقط ظهرت رواية بديلة لرواية الجيش الإسرائيلي. علاوة على ذلك فإن جميع هذه الروايات تقريباًُ (6 من 8) جرى تغطيتها بصورة هامشية مقارنة مع رواية الجيش الإسرائيلي:

على سبيل المثال، في عدد صحيفة "معاريف" الصادر في 4/12/2005 نشر على الصفحة (8) تقرير تحت عنوان "سلاح البحرية أغرق زورقاً فلسطينياً". وتضمن العنوان الفرعي رواية الجيش الإسرائيلي حول الحادث: "أحد الفلسطينيين الذين كانوا على ظهر القارب قُتِلَ. في جيش الدفاع (تساهل) يقولون إن الحديث يدور عن محاولة تهريب وسائل قتالية من مصر إلى غزة". داخل التقرير فقط كانت هناك صيغة إضافية فيما يتعلق بهوية القتيل وملابسات الحادث: "في تساهل يقولون إن الفلسطينيين حاولوا تهريب وسائل قتالية من مصر إلى القطاع وإنهم شرعوا بإطلاق النار على الجنود. لكن مصادر فلسطينية ذكرت أن الأمر يتعلق بثلاثة صيادين اجتازوا الحدود إلى مصر بطريق الخطأ".

في مرتين فقط نالت رواية بديلة لرواية الجيش الإسرائيلي حيزاً ملموسًا من الاهتمام. ففي 22 كانون الأول نشر في صحيفة "هآرتس" تقرير خطي بتنويه صغير على الصفحة الأولى من عدد الصحيفة: "في الصباح أُعتقل من قبل شرطة حرس الحدود، وفي المساء مات بعدما جُرَّ من قِبَل حمار". عنوان التقرير الذي نشر على الصفحة 16 من عدد الصحيفة ذكر: "شهادة: أفراد شرطة حرس الحدود ربطوا فلسطينياً إلى حمار وحاولوا جعله يعدو". تعقيب الجيش الإسرائيلي ظهر داخل التقرير. ملحق "هآرتس" الذي نشر في اليوم ذاته كرس لهذا الموضوع (الحادث) تقريراً موسعاً كتبه جدعون ألون، وتحرى فيه تفاصيل الحادث الذي لم تنشر باقي وسائل الإعلام شيئاً عنه.

في 4/12/2005 نشر على الصفحة (11) في صحيفة "يديعوت أحرونوت" تقرير تناول حادثين لقي فيهما فلسطينيون مصرعهم برصاص قوات الجيش الإسرائيلي. العنوان (العلوي) للتقرير كان "نهاية أسبوع متوترة في غزة: مقتل فلسطينيين وإطلاق صواريخ قسام على جنوب البلاد"، ثم ذكر العنوان الرئيسي للتقرير: "تساهل قَتَل صياد سمك فلسطيني" فيما أورد العنوان الفرعي: "سفينة تابعة لسلاح البحرية فتحت النار على مركب صيد لم يمتثل لأمر بالتوقف- الفلسطينيون: الصيادان لم يفعلا أي شيء محظور- تساهل: الصيادون لا يتصرفون على هذا النحو، إطلاق النار على شاب حاول اختراق الجدار الأمني للعبور إلى إسرائيل". هذه العناوين أوردت على نحو غير مألوف، روايات مختلفة حول ظروف أفضت إلى مقتل فلسطيني استقل قارب صيد.

انعدام الاستعداد الإعلامي لمواجهة رواية الجيش الإسرائيلي بروايات بديلة وإجراء تحقيق جدي حول الظروف التي تؤدي إلى موت (قتل) الفلسطينيين، يبرز سواء في تغطية عمليات "نصفية" أو في تغطية حوادث قتل أخرى. وتشير المعطيات إلى أن هذا الاتجاه يبرز أكثر فيما يتعلق بـ "التصفيات".

وفي الغالب فإن تغطية عمليات "التصفية" تكون موسعة نسبياً، كما أنها تُقَدَّمُ كأحداث واضحة وبسيطة، حَيَّد و"فكَّك" الجيش الإسرائيلي فيها مخاطر أكيدة محدقة بأمن إسرائيل وسكانها. والتغطية التي تستند بأكملها إلى روايات المؤسسة الأمنية (العسكرية) التي تقرر "التصفيات" وتقوم بتنفيذها، لا يمكن لها إلا أن تضفي "الشرعية الكاملة" على عمليات التصفية هذه.

[يتبع قسم ثان وأخير]

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات