تصاعدت في الفترة الأخيرة السياسات والإجراءات الرسمية الإسرائيلية الهادفة إلى تهويد وتفريغ وعزل مدينة القدس المحتلة عن امتدادها الطبيعي، المادي والروحي، في الضفة الغربية. وقد عبرت هذه السياسات عن نفسها خلال الأشهر الأخيرة بتسارع وتائر أنشطة الاستيطان والتهويد والهدم في قلب الأحياء العربية
في ظل الحديث عن خطة "الانفصال" والجلاء عن قطاع غزة وأربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية وتسارع وتيرة أعمال بناء جدار الضم والتوسع والعزل، تصاعدت في الفترة الأخيرة وبشكل محموم السياسات والإجراءات الرسمية الإسرائيلية الهادفة إلى تهويد وتفريغ وعزل مدينة القدس المحتلة عن امتدادها الطبيعي، المادي والروحي، في المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية. وقد عبرت هذه السياسات والمخططات عن نفسها خلال الأشهر الأخيرة بتسارع وتائر أنشطة الاستيطان والتهويد وهدم المباني والبيوت في قلب الأحياء العربية بالمدينة، بل وصدرت مؤخراً أوامر بهدم حي بأكمله، على ما فيه من 90 منزلاً تؤوي 200 عائلة فلسطينية (حي "البستان" في سلوان بجوار أسوار القدس القديمة) وأخيراً، قبل أيام، صدر أمر احتلالي بهدم مسجد تاريخي يؤمه مصلون عرب في حي "الشيخ جراح" على مسافة مئات قليلة من الأمتار عن بوابة "باب العامود"، المدخل الرئيسي لبلدة القدس القديمة.
في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي (24/6/2005) نشرت أسبوعية "كل هعير" العبرية (محلية توزع في منطقة "القدس الكبرى") تقريراً سلطت فيه بعض الضوء على وجه آخر من أوجه هذه السياسة الرسمية الإسرائيلية تجاه أهالي مدينة القدس المحتلة، وهو "السياسة المتبعة في مجال التنظيم والبناء" في الأحياء العربية بالمدينة، وذلك من خلال مقابلة أجرتها الصحيفة مع مهندسة وخبيرة معمارية إسرائيلية ناشطة منذ فترة طويلة في مجال دفع برامج وخطط تطويرية وتحسين نوعية حياة سكان الأحياء العربية في القدس الشرقية. وفيما يلي تلخيص لأهم ما تضمنه التقرير:
تقول المهندسة المعمارية أييلاه رونيئيل:
من يقوم بجولة في هذه الأيام في أحياء القدس الشرقية سيرى ويُدرك حقيقة الوضع الكارثي الذي يسود في المنطقة. فهناك آلاف المقدسيين، إن لم يكن أكثر، يعيشون في ظِل تهديد أوامر هدم بيوتهم ... يدفعون غرامات مالية باهظة ومع ذلك يعيشون تحت تهديد الهدم. حالة مُزرية من الخراب والفوضى والاضطراب تعم أحياء المدينة التي تبدو بائسة ومروعة ... قيم ومعالم الطبيعة والمشهد والحضارة تُدَمَّرُ وتتلاشى شيئاً فشيئاً.
بعد هذه التوطئة الهامة التي ترسم بكيفية ما "صورة المشهد العام" في القدس المحتلة، تتحول "رونيئيل" لتطرق لب الموضوع، المشكلة الأعوص التي يواجهها المواطنون العرب في المدينة، فتقول بنوع من السخرية اللاذعة: إن لدى البلدية (الإسرائيلية) في القدس "مليون طريقة لإظهار الود والمحبة" تجاه من يقطن في القدس الشرقية، ولكن أياً منها لن تُجدي المواطن المقدسي نفعاً إذا ما أراد الحصول على رخصة بناء، كما لن يساعد أي منها في دفع خطة ذات قيمة أو أهمية لتطوير الأحياء.
وبطبيعة الحال، فإن المهندسة "رونيئيل"، ليست الوحيدة التي تعبر عن التذمر والشكوى ... ففي الأسبوع الماضي قدَّم سكان "بيت حنينا"، بالضواحي الشمالية للمدينة، التماساً إدارياً ضد البلدية اتهموها فيه بالحؤول دون تطوير الحي عن طريق خطط "توحيد وفرز" لا يتم تنفيذها، وهذا ما لا يمكن أن يحدث في الشطر الغربي، على ما يقوله الملتمسون.
تمييز مقصود
الالتماس الإداري ضد البلدية وضد اللجنتين المحلية واللوائية للتنظيم والبناء، قدمه 57 مواطناً من أصحاب البيوت والأراضي في أحياء "تل الفول" و"الأشقرية" في ضاحية "بيت حنينا"، ويطالبون فيه البلدية باستكمال تنفيذ خطط "التوحيد والفرز" في الحيين خلال تسعة أشهر، وهي خطط تسوف البلدية وتماطل في تنفيذها منذ ثلاثة عشر عاماً، بهدف منع وحرمان السكان من حقهم في الحصول على تراخيص بناء.
ويفصل الملتمسون (في التماسهم): في العام 1992 فتحت البلدية الإسرائيلية ملف خطة لحي بيت حنينا بغية تخصيص أراضٍ في الحي للسكن. بعد مرور أربع سنوات أعطت اللجنة اللوائية للتنظيم والبناء موافقتها على الخطة، ولكن القدرة على التنفيذ الفعلي لتعليمات الخطة منوطة بعملية "توحيد وفرز" من جديد في الحي والتي لا يمكن استصدار تراخيص بناء طالما لم تستكمل. وتُقَسِّم خطة "التوحيد والفرز" هذه "بيت حنينا" إلى 12 منطقة أو موقع ينبغي إعداد وتنفيذ خطط مفصلة لكل منها على حدة. غير أن السلطات المسؤولة في البلدية لم تقم منذ ذلك الوقت بتنفيذ أعمال لدفع هذه الخطط المفصلة سوى في موقعين فقط من أصل 12 موقعاً، وحتى الأعمال الجارية في الموقعين لم تستكمل حتى الآن، بل تجري بتباطؤ شديد، كما يقول السكان الذين لم يتمكنوا إلى الآن، في المحصلة، من الحصول على أي ترخيص بناء في أراضيهم.
ويؤكد أهالي "بيت حنينا" أن السياسة التي تتبعها بلدية القدس الغربية في هذا المجال أدخلت الحي المزدحم بالسكان منذ وقت طويل إلى حالة "تجميد" مستديمة في مجال التنظيم والبناء، فهناك آلاف من أهالي الحي فشلوا طوال السنوات الماضية في الحصول على تراخيص بناء، بينما الذين اضطروا للبناء دون ترخيص لا يستطيعون تأهيل أو ترخيص البيوت التي يقيمون فيها مما يبقيهم تحت طائلة الغرامات الباهظة التي تفرضها عليهم المحاكم الإسرائيلية فضلاً عن شبح أوامر الهدم التي يمكن أن تنفذ في أي لحظة.
ويقول الأهالي إن "البلدية تستمتع، كما يبدو، بالوضع الذي صنعته بنفسها... فهي من جهة لا تفعل شيئاً لدفع وتنفيذ خطط التنظيم والبناء بما يُتيح للسكان الحصول على تراخيص بناء ... وتُقَدِّم من جهة أخرى صباح مساء لوائح اتهام ضد سكان الحي بدعوى البناء بشكل غير قانوني ... وليس هذا وحسب، بل تتعمد هذه البلدية التجاهل التام لاحتياجات ومتطلبات وحقوق السكان في العيش بكرامة". ولا تدور شكاوى السكان حول مماطلات بيروقراطية فقط، بل تنصب على ما يعتبرونه سياسة تمييز واضحة ومقصودة بكل معنى الكلمة، حيث أكدوا في التماسهم "سياسة البلدية وسياسة اللجنة اللوائية يكمن أساسها في تمييز مقصود ضد السكان ودوافع غير جوهرية أو ذات صلة، وبضمنها اعتبارات سياسية وديمغرافية وفي صلبها الرغبة في الحد من تواجد السكان العرب في القدس الشرقية ومنع تطورهم وتقدمهم".
سياسة عامة وشروط تعجيزية
هذا الوضع لا يقتصر على أحياء بيت حنينا وشعفاط، بل ينسحب على جميع الأحياء العربية في القدس الشرقية ... وتقول المهندسة رونيئيل، إن "معظم البناء في القدس الشرقية يتم إما بدون تراخيص أو ليس بموجب التراخيص، وهذا نابع أيضاً من العجز وانعدام المبررات". وتتحدث رونيئيل بإحباط شديد عن المصاعب والشروط التعجيزية التي تضعها سلطات التنظيم والبناء أمام خطط البناء والتطوير في الأحياء العربية بالقدس وتقول "سكان القدس الشرقية لا ينتخبون وليس لهم ممثلون في البلدية ... مما لا شك فيه أنه يوجد هنا إجحاف، ولا ريب في أن هذا الإجحاف نابع من مستويات مختلفة من الاعتبارات والدوافع السياسية".
وتُشير رونيئيل في ذات السياق إلى وجه آخر من أشكال سياسات التنظيم الرسمية (المعروفة) الهادفة إلى منع السكان العرب في المدينة من البناء والتوسع العمراني، وهو الإعلان عن مناطق واسعة من الأراضي كـ"مناطق خضراء"، تُحَوَّل غالباً فيما بعد لصالح بناء أحياء استيطانية يهودية عليها، وتقول "يصبغون مناطق باللون الأخضر بغية منعهم - أي السكان العرب - من البناء" ... وفي حالات أخرى، تضيف رونيئيل، تضع سلطات التنظيم والبناء البلدية شروطاً تعجيزية بهدف إفشال خطط بناء في الأحياء العربية، مُشيرة على سبيل المثال إلى خطة قدمت لحي "صور باهر"، جنوب المدينة، لكن السلطات المذكورة رفضت الخطة، مشترطة المصادقة عليها "بأن تكون بنفس مواصفات التنظيم والبناء العصرية" المتبعة في بناء مستوطنة "هارحوما"، التي شيدت على أراضي "جبل أبو غنيم" المجاور لـ"صورباهر" والتي صودرت أساساً في معظمها (قبل إعلانها كمنطقة خضراء ومن ثم تحويلها في التسعينيات لصالح بناء المستوطنة المذكورة) من أهالي قريتي صور باهر و"أم طوبا".
وتُلخص رونيئيل بقولها إن المسؤولين في سلطات التنظيم والبناء والبلدية الإسرائيلية "يريدون تنفيذ خطط يستحيل في نهاية المطاف تنفيذها". وتُضيف "إن محاولة تطبيق قوانين التخطيط والتنظيم من فوق، كتخطيط الأحياء التي تشيدها وزارة البناء والإسكان، على أحياء في القدس الشرقية هي محاولة تعجيزية غير ممكنة".