المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

طغت على المشهد الإسرائيلي خلال الفترة الأخيرة حمى الاستعدادات والتحركات المرتبطة بخطة "الفصل والإخلاء" التي تزمع حكومة أريئيل شارون الشروع في تنفيذها في قطاع غزة في منتصف شهر آب المقبل.

وقد بدا المظهر اللافت في هذا المشهد تلك الموجة "البرتقالية" العارمة التي تجتاح منذ أسابيع شوارع ومفترقات الطرق الرئيسية والساحات العامة في إسرائيل طولاً وعرضاً، والتي اتشحت فيها يافطات الاحتجاج والأعلام والرايات الخاصة المرفوعة فوق أعداد لا تُحصى من المركبات والسيارات الخصوصية باللون البرتقالي، الذي يرمز إلى الحملة الضخمة والمنظمة جيداً التي أطلقتها منذ نحو أربعة أشهر محافل اليمين والمستوطنين المعارضة لخطة إخلاء المستوطنات اليهودية في قطاع غزة وأربع مستوطنات صغيرة في شمال الضفة الغربية، وهو مشهد يوحي للناظر والمراقب كما لو أن الدولة والمجتمع العبريين بأكملهما يعارضان هذه الخطة الجزئية التي صادقت قبل أشهر حكومة حزب الليكود اليميني والكنيست (البرلمان) الإسرائيلي بصعوبة على تطبيقها من جانب واحد، والهادفة أساساً إلى فرض "حل الأمر الواقع" الإسرائيلي وقطع الطريق على جميع الخطط والحلول السياسية القائمة على انسحاب إسرائيل من كامل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة إلى حدود العام 1967 وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية إلى جانب دولة إسرائيل.

وقد حفلت الصحف العبرية الصادرة خلال الأيام الأخيرة بأنباء التحركات والاستعدادات التي يقوم بها مجلس المستوطنات اليهودية وحركات ودوائر اليمين الصهيوني- السياسي والديني- المتطرف المدعومين بتأييد قرابة نصف نواب الكنيست (52 عضو كنيست) بهدف إحباط ومنع تنفيذ الإجلاء المرتقب لبضعة آلاف من المستوطنين المتشددين القاطنين في نحو عشرين مستوطنة بقطاع غزة، والذين يرفضون الجلاء عنها طوعاً في نطاق خطة "الإخلاء والتعويض".

المعارضون يعدون لـ"عصيان مدني"

يمكن رصد أبرز هذه التحركات كما أوردتها صحف الأيام الأخيرة، على النحو التالي:

  • استيلاء وتحصن بضع عشرات من المستوطنين وعناصر اليمين المزودين بأسلحة نارية منذ قرابة أسبوع في فندق مهجور ("ماعوز يام" - قلعة البحر) مجاور لمستوطنة "نيفي ديكاليم" إحدى مستوطنات "غوش قطيف" المزمع إخلاؤها جنوب قطاع غزة، وقد سجل المتطرفون المتحصنون في الفندق يوم الجمعة الماضي "نقطة لصالحهم" عندما أجبروا الشرطة الإسرائيلية على العدول عن نيتها إجلائهم بعدما "سُرِّب" الأمر لهم ...
  • أعلن معارضو الخطة اعتزامهم "تعطيل حركة السير" مجدداً في جميع أنحاء البلاد بعد ظهر يوم (غد) الأربعاء من خلال تنظيم مظاهرات حاشدة وسد مفترقات الطرق الرئيسية.
  • يستعد مجلس المستوطنات ودوائر اليمين المساندة له لتنظيم مسيرة ضخمة بمشاركة عشرات الآلاف من المؤيدين "من مختلف أنحاء البلاد" إلى المستوطنات المزمع إخلاؤها في قطاع غزة وشمال الضفة، وذلك تحت شعار "مسيرة التلاحم لنصرة أخوتنا الأبطال" وبالتزامن مع صدور الأوامر العسكرية بإغلاق الطرق المؤدية إلى المستوطنات المقرر إخلاؤها أو فرض قيود على حركة مرور الإسرائيليين إليها، تمهيداً للإخلاء.
  • ذكرت صحيفة "هآرتس" (24 حزيران 2005) في تقرير لمراسلها لشؤون الاستيطان، نداف شرغاي، أن مجلس المستوطنات والمؤيدين له يعدون لـ"عصيان مدني غير عنيف" ابتداء من شهر تموز المقبل، ومن المنتظر أن يتصاعد هذا "العصيان" حتى أواسط شهر آب، الموعد المقرر لإخلاء المستوطنات. وأورد التقرير نقلاً عن مسؤولين في مجلس المستوطنات، يتولون قيادة "حملة الاحتجاج لإحباط خطة الإخلاء"، أن عشرات الآلاف من المستوطنين وعناصر اليمين سينتشرون في عشرات، وربما مئات محاور الطرق في سائر أنحاء البلاد طوال عشرة أيام على الأقل وفي آن واحد، وسيقومون بشلّ وتعطيل الحركة والنشاط كلياً في الدولة، كما سيقوم آلاف آخرون بمحاصرة قوات الجيش والشرطة التي ستتولى تأمين حماية وتنفيذ عملية إجلاء المستوطنين من المستوطنات المقرر إخلاؤها.
  • وفقاً لتقارير صحافية إسرائيلية فقد نظم معارضو خطة "الفصل والإخلاء" خلال الأيام الأخيرة اجتماعات مكثفة طغت على أجوائها "روح قتالية عاصفة" تشي باستعداد عناصر الاستيطان واليمين المتطرف "التي فقدت الثقة بنزاهة المؤسسة" (الكنيست والحكومة والمحكمة العليا والجيش الخ) إلى اللجوء لـ"طرق غير قانونية بما في ذلك العنف" لإفشال خطة إخلاء المستوطنات.

قلق ومخاوف...

مجمل هذه التحركات والاستعدادات وتداعياتها المحتملة من جانب معارضي الخطة، أثارت قلقاً ومخاوف شديدة سواء لدى أوساط السلطة التنفيذية والقضائية، أو لدى معسكر "الاعتدال" المؤيد للخطة، في إسرائيل، وهو ما دفع رئيس الحكومة الإسرائيلية أريئيل شارون قبل أيام إلى توجيه تحذير لـ"مجموعات المستوطنين المتطرفين من تصعيد العنف أو السعي لشل نشاط البلاد".

كذلك أعرب المرجع القانوني الأعلى للسلطة التنفيذية، المستشار القضائي ميني مزوز، عن قلقه من حصول "فوضى". وقال "يمكن الانتقال بسرعة من حركة احتجاج عنيفة إلى حالة من الفوضى العارمة". وكثف الجيش الإسرائيلي من جهته استعداداته وإجراءاته الاحترازية الهادفة إلى منع "المجموعات المتطرفة" من عرقلة سير عملية الإخلاء حسب الخطط والمواعيد المقررة، وباشر في هذا الإطار بسد طرق ترابية في قطاع غزة لمنع معارضي الخطة من استخدامها لتعزيز المستوطنات مع اقتراب موعد الإخلاء، وذكر أن الجيش يستعد لإغلاق "غوش قطيف" اعتباراً من منتصف الشهر المقبل وشمال الضفة من بداية شهر (تموز). ونُقِلَ عن الجنرال عوفر سيغال، المكلف باستعدادات الجيش، قوله: "أخذنا في الاعتبار كل الاحتمالات، ومع أننا لا نتوقع مواجهات مسلحة مع المستوطنين المعارضين للإخلاء إلا أننا على كل حال سنقوم بنشر الوحدات الخاصة" المكلفة بالإشراف على تنفيذ خطة الانسحاب وإخلاء المستوطنات في قطاع غزة.

وعلى صعيد "معسكر السلام" الإسرائيلي الذي- بعد الانهيارات التي أصابت منذ عدة سنوات معسكر أحزاب الوسط واليسار "المعتدلة" في إسرائيل- لم يعد يجد سبباً أو نشاطاً يبرر به وجوده غير المؤثر أو الفاعل (في أبعد وأحسن تقدير) في الساحة الإسرائيلية سوى الالتحاق بركب "رأسه القديم المتهالك" (حزب "العمل") في تأييد "خطط ومبادرات" رئيس الوزراء اليميني أريئيل شارون، فقد تداعى أقطاب هذا المعسكر يوم الخميس الفائت (رؤساء حركات الكيبوتس القطري، "خريطة الهدف"، والمجلس للسلام والأمن، هشومير هتسعير، الحركة الكيبوتسية الموحدة، وهيئات سياسية أخرى) إلى عقد اجتماع وصف بـ"الطارىء" في تل أبيب وذلك في ضوء "الشعور بأن خطة الانفصال في خطر" وأن هناك حاجة لحملة مضادة لموجة "الحملة البرتقالية" التي "تكتسح البلاد" على حد تعبير هؤلاء.

وصرح سكرتير حركة "السلام الآن" ياريف أوبنهايمر موضحاً "في الشهر الأخير تعزّز الشك فيما إذا كانت خطة الانفصال ستخرج إلى حيز التنفيذ ...".

وأضاف "أُخليت الساحة، والمعارضون للخطة يزدادون قوة، والحملة البرتقالية تكتسب المزيد من المؤيدين". ويعتقد "القلقون" على مستقبل خطة الانفصال، أن الحملة المنظمة التي تقوم بها محافل اليمين المعارضة للخطة، والتي عرضت مخاطر الانفصال والإخلاء، إضافة إلى الانتقادات التي وجهها رئيس أركان الجيش ورئيس جهاز مخابرات "الشاباك" المنتهية ولايتهما، تركت تأثيرها على المناخ والمزاج العام في إسرائيل. كذلك فإن "رياح التردد" التي تهب من جهة الحكومة ساهمت بدورها أيضاً، وقد امتلأت الصحف العبرية خلال الأسبوعين الأخيرين بالمقالات والتقارير والرسائل المعبرة عن القلق إزاء تراجع التأييد في صفوف الجمهور الإسرائيلي للخطة و"العجز الذي تبديه الحكومة في مواجهة المعارضين".

في ضوء هذه الأجواء القلقة لدى "معسكر السلام" أخذت أخيراً بعض الأطر والهيئات المؤيدة للانفصال تجدد نشاطاتها، وبادرت أسبوعية "كل هعير" (محلية توزع يوم الجمعة في القدس مع صحيفة "هآرتس") المقربة من حركات "اليسار" إلى تنظيم استطلاع للرأي العام بالتعاون مع معهد Market Watch قالت الصحيفة الأسبوعية (نشرت نتائجه في عددها الصادر يوم الجمعة 24/6/2005) إن معطياته تظهر أن "الشعور بالذعر لدى مؤيدي الخطة كان مبالغاً فيه".

وتبين نتائج الاستطلاع الذي أجري على عينة قطرية تمثيلية مكونة من 500 شخص بالغ من السكان اليهود الناطقين بالعبرية في إسرائيل، أن 59% من المستطلعين يؤيدون خطة الانفصال، مقابل 36% يعارضون الخطة، ولم يعط 5% رأياً محدداً. ويظهر تحليل النتائج أن حوالي 60% من الذين وجه لهم السؤال لم يغيروا موقفهم من الخطة خلال الشهرين الأخيرين، فمن بين الذين أيدوا الخطة قبل شهرين 58% ظلوا على موقفهم، وأصبح 40% منهم أكثر تأييداً لها، بينما أعلن 0.6% فقط أنهم غيروا موقفهم لجهة معارضة الخطة. وبين الذين عارضوا الخطة قبل شهرين 37% ظلوا متمسكين بموقفهم، وأصبح 56.8% أشد معارضة، فيما أعلن 4.6% أنهم غيروا موقفهم وباتوا الآن يؤيدون خطة الانفصال.

هل هي لعبة يُجيدها شارون؟!

ليئور حوريف، المستشار الإستراتيجي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، قال إنه يدرك الشعور بهبوط تأييد الجمهور لخطة الانفصال لكنه علل ذلك بـ"مرحلة الغموض" التي نشأت بين اتخاذ القرار بشأن الخطة وبين تاريخ التنفيذ، وأضاف "من اللحظة التي أقر بها قانون ميزانية الدولة أصبح الانفصال من ناحية سلطوية حقيقة منتهية... فهناك موعد وأمر تنفيذ وأوامر تجنيد احتياط...". ومع ذلك أقر مستشار شارون للشؤون الإستراتيجية أن "الفترة الانتظارية" حتى موعد التنفيذ الفعلي "خلقت فراغاً يخدم المعارضين لخطة الانفصال".

من جهته أعرب بيني كوهين، المستشار الإستراتيجي لرئيس الوزراء الأسبق اسحق رابين، عن اعتقاده بأن "تصوير الهبوط في تأييد خطة الانفصال بأنه دراماتيكي يشكل وسيلة لحفز الناس". ووفقاً لما يراه كوهين فإن "المعارضة للخطة ليست كبيرة في الواقع، إلى الحد الذي تصور فيه الصحافة الأمر".

ويعتقد إيتان هابر، سابقاً مدير مكتب رئيس الوزراء إسحاق رابين، وصاحب باع طويل في الخدع الإعلامية، أن رئيس الحكومة أريئيل شارون يظهر كفاءة كبيرة في "إجادة اللعبة". ويقول "مريح لشارون أن يَظْهَر كما لو أنه يواجه معارضة قوية وتراجع في التأييد ... شارون يلعب اللعبة لأنه يحتاج لخلق انطباع لدى الأميركيين والفلسطينيين بأن الأمر (أي تمرير خطته للانفصال) في منتهى الصعوبة، وأنه ورغم كل شيء متمسك بطريقه وبتنفيذ الخطة".

غير أن دانا ليفي، المستشارة الإعلامية لزعيم معارضي خطة الانفصال، عضو الكنيست آرييه الداد، لا تشعر بأن شارون "يلعب باليمين وأن اليمين يلعب لصالح شارون". وقالت ليفي "منذ اللحظة التي اتخذ فيها شارون القرار حول الخطة، لم يتوقف عن القيام بخطوات ديكتاتورية تماماً" على حد وصفها. وأردفت مؤكدة أهمية وهدف تحركات اليمين المعارض للخطة بقولها "نشاطاتنا في الميدان لا تهدف إلى إقناع شارون (بالعدول عن الخطة) وإنما تجري تحضيراً ليوم الحساب"، حسب تعبيرها. وزادت موضحة "أعمال سد الطرق لا تغير اليوم شيئاً، إنها فقط تهيىء الشعب لما سيحدث في يوم الحسم" في إشارة لما تعده دوائر اليمين لمقاومة ومحاولة إفشال خطة إخلاء المستوطنات عندما يحين موعد تنفيذها.

لكن مثل هذه "الرسائل" بالذات هي التي يحب معاونو شارون سماعها. يقول مستشاره الإستراتيجي ليئور حوريف "الموضوع ليس موضوع راحة فيما إذا كانت نشاطات المعارضين تخدمنا أو لا، وإنما الوقائع... فالواقع هو أن الانفصال يولد هنا خشية ملموسة من حدوث مواجهة أو حرب أهلية ..." (بين اليهود). ويُضيف حوريف "ثمة هنا تحطيم أو كسر لقناعات ومفاهيم أيديولوجية راسخة، بعضها يستند أيضاً إلى مفاهيم دينية ومسيحانية وإذا كان هناك ثمة من اعتقد أن خطوة كهذه يمكن أن تمر دون صراع سياسي، فإنه يعيش في أوهام".

غير أن السؤال الذي يلح عليه المراقبون، ولم يعطِ المستشار حوريف رداً حوله، والذي يغذي الشكوك في شأن "اللعبة التي يلعبها شارون" هو: لماذا اختار رئيس الحكومة الإسرائيلية عدم القيام بحملة دعائية لخطة الفصل، تاركاً الساحة خالية لقوى اليمين والمستوطنين المعارضين للخطة؟!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات