يشهد المستوى الصحي في إسرائيل تحسنا مستمرًا، وباتت الدولة تحتل على هذا الصعيد مكانة متقدمة بين سائر الدول المتطورة، في الوقت ذاته توجد في إسرائيل فجوات واسعة في الوضع الصحي وفي سهولة الوصول للخدمات الصحية، وهذه الفجوات تتسع أحيانا في المدى الزمني.
بقلم: غور عوفر (*)
يشهد المستوى الصحي في إسرائيل تحسنا مستمرًا، وباتت الدولة تحتل على هذا الصعيد مكانة متقدمة بين سائر الدول المتطورة، في الوقت ذاته توجد في إسرائيل فجوات واسعة في الوضع الصحي وفي سهولة الوصول للخدمات الصحية، وهذه الفجوات تتسع أحيانا في المدى الزمني.
كذلك شهد متوسط سنوات الحياة لدى الرجال والنساء في إسرائيل ارتفاعا بوتيرة سريعة، كما انخفضت نسبة وفيات الأطفال (حتى عمر سنة واحدة) بشكل كبير جداً، إلا أنه ما زالت هناك على هذين الصعيدين فجوات ملموسة بين السكان اليهود والسكان العرب، ولدى السكان اليهود بين المركز والهامش، وكذلك بين المجموعات الطبقية المختلفة.
والسؤال هو: ما مدى مسؤولية الجهاز الصحي تجاه هاتين الظاهرتين- مستوى عال إلى جانب فجوات كبيرة؟
تظهر أبحاث كثيرة أن الخدمات الصحية تتحمل مسؤولية بنسبة 10% إلى 15% فقط عن الوضع الصحي للسكان، فيما تعزى النسبة الباقية إلى عوامل وأسباب مختلفة: العامل الوراثي- 30%، جودة البيئة والهواء والمياه وما شابه- 10%، وفي المقدمة السلوك الصحي للسكان (التدخين، التغذية، النشاط الجسماني.. إلخ)- 40%.
في هذا المقال سيتم التركيز على مدى مساهمة الجهاز الصحي في زيادة المساواة في الخدمات الصحية وسهولة الوصول إليها.
ويتناول هذا النقاش جانبين:
الأول: الإصلاح الجذري في الجهاز الصحي (الذي جرى في العام 1995) وانعكاسات هذا الإصلاح؛
الثاني يستعرض بشكل رئيس سيرورات التآكل والنكوص، إضافة إلى التحسن أيضا في أداء الجهاز، منذ ذلك الوقت وحتى الآن.
وسيتم التركيز في الحالتين على تأثير التغييرات على مستوى المساواة وسهولة الوصول.
تضمن قانون التأمين الصحي الحكومي الذي دخل حيز التنفيذ في العام 1995 تغييرين ثوريين مقارنة مع الوضع السابق، تمثل الأول في تأميم "الضريبة الموحدة" التي دفعت حتى ذلك الوقت لصناديق المرضى من قبل أعضائها، وتحويلها إلى "ضريبة صحة" يدفعها المواطنون لمؤسسة التأمين الوطني، والباقي من مصادر ميزانية الحكومة، وهي دفعات تتحدد بواسطة عدد الأعضاء في كل صندوق مرضى وفقا لبنية أعمارهم. وتغطي هذه المدخولات إنفاق صناديق المرضى على سلة خدمات محددة وملزمة. هذان التغييران ساهما معا في زيادة المساواة في جهاز الصحة مرتين، دفع ضريبة (رسوم) حسب القدرة الاقتصادية للأعضاء، وتلقي خدمات صحية بناء على حاجتهم. وقد كان تطبيق الإصلاح مرتبطا بانتقال مبالغ كبيرة من الصناديق "الغنية" (مكابي ومئوحيدت) إلى الصناديق "الفقيرة" (كلاليت وليئوميت)، وفي الوقت ذاته جرت عملية "انقضاض" من جانب صناديق المرضى على بلدات "أبناء الأقليات" الذين استهلكوا حتى ذلك الوقت خدمات صحية أقل مما منحه لهم الإصلاح والتغيير المرتبطان بتطبيق قانون التأمين الصحي الإلزامي. كذلك فقد أدت الدفعات على أساس متساو لصناديق المرضى، إلى اتجاه من تساوي مستوى الإنفاق بين الصناديق على الخدمات الصحية للمريض، وإلى عملية انتقال أعضاء من صناديق مرضى ضعيفة إلى صناديق أقوى. ويشار في هذا السياق إلى أن إمكانية الانتقال الحر من صندوق إلى آخر، والتي نصت عليها عملية الإصلاح، جعلت الصناديق تتنافس فيما بينها على نوعية الخدمات ولكن ليس على أسعارها. بعد ذلك أقيم جهاز "لجنة سلة الأدوية" الذي يضيف سنويا إلى سلة الصناديق خدمات وعقاقير بناء على تقدم الطب والقدرة التمويلية للحكومة، إضافة إلى ذلك سمح للصناديق بإتباع نظام "رسوم التأمين المكمل" لأعضائها لقاء خدمات لا تشملها السلة الموحدة، وهذه الرسوم الإضافية يدفعها الأعضاء من جيوبهم.
في مقابل التحسن الملموس في سهولة الوصول إلى الخدمات الصحية ومستوى المساواة، اللذين أتاحتهما المكونات الرئيسة في عملية الإصلاح، طرأت أيضا عدة عمليات ذات تأثير معاكس، وتساهم في تقويض هذا الإصلاح.
بداية طرأ ارتفاع حاد على مشاركة الأعضاء في الدفع من جيوبهم لصناديق المرضى عن جزء من تكلفة خدمات مختلفة (أدوية، فحوصات طبية، زيارة أطباء أخصائيين .. إلخ) مشمولة في السلة الملزمة، حيث ارتفعت نسبة المشاركة الذاتية (في الفترة الممتدة بين عامي 1995- 2010) من 5%، من مجمل نفقات سلة الخدمات الملزمة، إلى حوالي 12%. وبذلك فقد تخطت المشاركة الذاتية النسبة المبررة، وتحولت إلى حاجز يعيق منالية (سهولة الوصول) الخدمات الصحية والأدوية الحيوية للعائلات من الطبقات الاقتصادية والاجتماعية الضعيفة.
ثانيا، جرت على امتداد السنوات تغييرات "شكلية" فقط في صيغة الدفعات لصناديق المرضى، وبالتالي اتسعت الفجوات المتعلقة باحتياجات الطبقات العمرية المختلفة حيث حولت الصناديق موارد للمجموعات العمرية الصغيرة والشابة على حساب الاحتياجات الحقيقية للمجموعات العمرية الكبيرة أو العالية مما أدى إلى تقليص منالية الخدمات الصحية، وإلى حالة من انعدام المساواة والنجاعة في استخدام الصناديق للموارد المالية الممنوحة لها.
ثالثا، طرأ بمرور السنوات تآكل كبير في بنى الخدمات الصحية ولا سيما في مجال الإيواء (الإدخال في المستشفيات)، بما في ذلك نقص في الأسرة والتجهيزات الطبية، وفي القوى البشرية والأطباء والممرضات. لكن هذه النواقص تتركز وتبرز في مناطق الهامش أكثر مما في المركز. هذا الأمر يجعل المرضى المقتدرين ماديا يتوجهون للخدمات التي توفرها التأمينات الصحية الخاصة والمكملة، مما يساهم في زيادة عدم المساواة في منالية الخدمات.
وقد وجدت نتائج عمليات التآكل المذكورة تعبيرا لها في زيادة طفيفة جداً في إجمالي الإنفاق العام على الصحة كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، خاصة في العقد الأخير، وفي زيادة ملموسة في مشاركة الجمهور في تمويل الخدمات الصحية.
وبالمقارنة مع الاتجاهات لدى الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، فإن إسرائيل تنفق على الصحة 8% من الناتج المحلي الخام مقابل 10% بالمتوسط في دول OECD، ونسبة أعلى من التمويل من الخاص، حوالي 38% من مجموع الإنفاق الوطني على الصحة مقابل حوالي 27% في OECD. وتعكس هذه المعطيات حالة أوسع من اللامساواة، كما أن محدودية الوصول إلى الخدمات الصحية أشد خطورة وتفاقما في إسرائيل مقارنة مع دول OECD. وتبرز خطورة هذا الأمر بشكل خاص في كل ما يتعلق بجوانب المشاركة الذاتية في تمويل خدمات سلة الصحة، والنواقص والتخلف في البنى التحتية والتجهيزات، وإقصاء خدمات حيوية خارج السلة.
_____________________________
(*) برفسور متقاعد في دائرة الاقتصاد في الجامعة العبرية- القدس، أشغل سابقا منصب رئيس معهد بحث سياسات الصحة والخدمات الصحية. المصدر "المعهد الإسرائيلي للديمقراطي". ترجمة خاصة.