بدأت إيران في صيف هذا العام عملية تفاوضية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وذلك بهدف إيضاح المسائل العالقة فيما يتعلق بأنشطتها النووية في الماضي.
وكما هو دائماً، عندما يكون الأمر متعلقاً بإيران، فإن مثل هذه العملية (التفاوض) تكون عملية مركبة وشائكة تتضمن محادثات تمهيدية يعقبها مجال لا نهائي من الشروط والإيضاحات الإضافية. وتستغل إيران مجدداً طُعْمُ "التعاون" كوسيلة لكسب وقت ثمين من أجل دفع برنامجها النووي قدماً. روسيا والصين، اللتان انضمت إليهما في هذه المرة ألمانيا أيضاً، لا تبديان استعداداً لمعاقبة إيران، في جولة ثالثة من العقوبات، إلى أن يتضح المنحى الذي تتجه فيه هذه العملية.
حتى لو كانت المحادثات مع "الوكالة الدولية" بمثابة مرحلة حاسمة في تراجع إيران عن الحد النووي- وهناك خبراء يشرحون كون الأمر ليس على هذا النحو مطلقاً- فإن الوضع سيبقى إشكالياً. والسبب هو أنه حتى إذا قدمت إيران في نهاية المطاف بعض الإجابات على هذه الأسئلة القديمة، فإنها ما انفكت ترفض الاستجابة لمطالب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من شهر تموز 2006، بوقف جميع أنشطتها في مجال تخصيب اليورانيوم. ففي هذه النقطة المركزية لا توجد أية زحزحة إذ تواصل إيران دفع برنامجها النووي كما لو أن مجلس الأمن لم يتخذ في هذا الصدد ثلاثة قرارات ملزمة.
عملياً تقول إيران الآن بأن موضوع تخصيب اليورانيوم مغلق من ناحيتها. وقد نقل عن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد قوله في مطلع الشهر الجاري إن "الإيرانيين غير مستعدين للجلوس حول مائدة التفاوض لمناقشة حقوقهم النووية المطلقة، هذا ما يتعين عليها (القوى العالمية) أن تعرفه". استقالة علي لاريجاني- المسؤول عن الملف النووي في إيران- وتعيين سعيد جليلي مكانه يعزز الخط المتشدد للرئيس أحمدي نجاد. في الوقت ذاته ما زالت هناك تكهنات مستمرة بشأن خلافات داخلية فيما يتعلق بتوجه "نجاد" وقد أُنتخب مؤخراً خصمه هاشمي رفسنجاني لمنصب رئيس "مجلس الخبراء" في إيران.
ليس من الواضح إلى أي حد تقدمت إيران في هذه المرحلة في كل ما يتصل بأنشطة تخصيب اليورانيوم.. يقول أحمدي نجاد إن بلاده وصلت مرحلة تشغيل 3000 جهاز طرد مركزي، لكنه ليس هناك ما يؤكد ذلك. ثمة من يقدر بأن إيران تواجه مؤخراً صعوبات فنية تعيق تقدمها، ولكن حسب مذكرة أعدتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية في مطلع شهر تشرين الأول الجاري، فإن التقدير هو أن إيران ستمتلك حتى نهاية هذا الشهر قرابة 3000 جهاز طرد مركزي فاعل. في نهاية شهر أيلول الماضي تحدث المجلس القومي للمعارضة الإيرانية (NCRI) عن برنامج نووي عسكري موازن، غير أن أساس هذا الإدعاء غير واضح.
وفيما يتعلق بالجهود والمساعي الدولية الرامية لكبح برنامج إيران النووي، فإن الدول الرئيسة الفاعلة منقسمة على نفسها أكثر من أي وقت مضى تجاه الخطوات الواجب إتباعها. ففي نهاية شهر أيلول الماضي، رضخت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لموقف روسيا والصين وألمانيا، ووافقت على إرجاء التصويت في مجلس الأمن على جولة ثالثة من العقوبات إلى شهر تشرين الثاني الحالي.
في أوروبا الصفوف ليست موحدة في هذا الصدد، كما أن التباينات القائمة في مواقف الدول الأوروبية تزداد حدة. وفيما تطالب فرنسا وبريطانيا بجولة عقوبات أخرى، لينت ألمانيا موقفها مؤخراً، إذ عبرت عن معارضتها لفكرة فرنسا بفرض عقوبات أوروبية على إيران، خارج إطار الأمم المتحدة، على الرغم من أنها (ألمانيا) كانت قد تعاونت مع عقوبات مالية بقيادة الولايات المتحدة. كذلك عززت ألمانيا الخلافات في مجلس الأمن (رغم أنها ليست عضواً في المجلس إلا أنها ما زالت لاعباً رئيساً في هذا المعنى) وذلك بانضمامها لروسيا والصين في معارضتهما لفرض عقوبات من جانب الأمم المتحدة. حتى أن وزير الخارجية الألماني اتهم الولايات المتحدة وفرنسا بالرياء، في ضوء وجود شركات فرنسية وأميركية تقيم علاقات تجارية لا يستهان بها مع إيران. وفيما يتعلق بالولايات المتحدة، فإن الإدعاء هو قيام شركات أميركية بالالتفاف على الحظر والعقوبات من خلال استخدام شركات وهمية في دبي، وهو ما يفسر مثلاً كيف تشق منتجات شركة كوكا كولا طريقها إلى الأسواق الإيرانية.
موقف روسيا المعارض للعقوبات ازداد تصلباً، وقد صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً بأنه لا توجد أدلة واضحة تثبت أن إيران تطمح لامتلاك سلاح نووي، غير أن روسيا تمارس مع ذلك ضغطاً على إيران كي تذعن للمطالب الدولية. الخط العلني الذي يتبعه بوتين في موضوع إيران، إضافة إلى الزيارة التي قام بها أخيراً إلى طهران، يولدان الانطباع بأن روسيا تبحث عن قناة دبلوماسية مستقلة أكثر مع إيران.
جنباً إلى جنب، فقد سُمِعَت طبول الحرب بصورة قوية جداً خلال هذا الصيف وهناك من يفسر الغارة الجوية الإسرائيلية في سورية مطلع أيلول الماضي على أنها رسالة لإيران. مع ذلك، ووفقاً لتقارير نشرت في الأسابيع الأخيرة، فقد طرأ تغيير على تفكير الإدارة الأميركية في كل ما يتعلق بمهاجمة إيران عسكرياً، حيث يجري التركيز على الاكتفاء بتوجيه ضربات وعمليات "جراحية" محدودة ضد منشآت وقواعد "الحرس الثوري الإيراني" رداً على الدور الذي يلعبه في الهجمات التي تستهدف الجنود الأميركيين في العراق، وذلك عوضاً عن شن هجمات مباشرة على المنشآت النووية الإيرانية في حد ذاتها. كذلك ذكر أن رئيس وزراء بريطانيا جوردون براون سيؤيد مثل هذه الخطوات إذا ما اتخذت كرد على هجمات إيرانية واسعة النطاق (بواسطة وكلاء إيران) على قوات بريطانية وأميركية في العراق. ما زال المجتمع الدولي يحجم عن اتخاذ قرار بإتباع طريق مشترك وموحد في مواجهة إيران. من ناحية عملية فإن تقدم إيران نحو تحقيق هدفها، وبدلاً من أن يكون له تأثير لجهة توحيد وتكتل الدول المختلفة التي تقف ضدها، يسهم فقط في توسيع شقة الخلافات بين هذه الدول. وكما يطرح دائماً، فإنه لا تتوفر خيارات جيدة لمواجهة إيران. ربما كان هذا الواقع يقنع بعض الدول في التخلي عن رغبتها في كبح جماح إيران، ويدفع إلى المقدمة مصالحها الأخرى كما وجد الأمر تعبيراً له في حالة ألمانيا وعدم استعدادها لدفع ثمن إضافي على شكل خسارة علاقات تجارية مع إيران.
في الشرق الأوسط، الذي ستعاني فيه الدول أكبر معاناة من تحول إيران إلى قوة نووية، تخلق المصلحة المشتركة في لجم إيران أساساً للتعاون والتفاهم المشترك في مجال الأمن، إضافة إلى قواعد لعبة جديدة يمكن أن تنشأ بين الخصوم الإقليميين لإيران. ولكن عوضاً عن البناء على هذه المصلحة المشتركة، يخيل أن دولاً كثيرة (في الشرق الأوسط) تختار السير في طريق تطوير برامج نووية خاصة بها، بل ولربما ستشرع بالبحث عن طريق لمصالحة إيران، بدلاً من التصدي لها بحزم عبر تعاون إقليمي.
* باحثة في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب. المقال ترجمة خاصة.