المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في دولة طبيعية، تعتبر سنة واحدة من عمر الحكومة فترة قصيرة لا يجوز عبر استعراض أحداثها الخروج باستنتاجات وتقويمات، لكن في دولة مثل إسرائيل لا تعرف الحتميات معنى لها، تعتبر سنة واحدة كأنها الأزل.

قبل عام بالضبط، وتحديدا في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2005، كان الإسرائيليون على قناعة بأنهم على موعد مع انقلاب غير مسبوق بحجمه في الساحة السياسية الداخلية، انقلاب يكسر احتكار حزبي «ليكود» و«العمل» للسلطة منذ نحو ستة عقود، وانقلاب في التوجه الإسرائيلي لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي يقوم على وجوب ترسيم الحدود وفقاً لاملاءات إسرائيلية، لكنه يضع حدا لحلم «المعسكر القومجي» باقامة الدولة العبرية بين البحر والنهر.

اقتنعت غالبية الإسرائيليين بأن «نوفمبر 2005» سيسجل في تاريخ إسرائيل كـ«شهر الطوفان الكبير» او «الانفجار الهائل» أو «شهر البشرى».

كانت البداية مع انتخاب رئيس نقابة العمال المغمور عمير بيرتس زعيماً لحزب «العمل»، مطيحاً بآخر من يمثل الحرس القديم في الحزب، عجوز السياسة الإسرائيلية شمعون بيريس. ولاقى انتخاب بيرتس "الحمائمي" ترحيباً واسعا في أوساط واسعة، منها من لم تكن ذات يوم مع العمل. وتوقعت استطلاعات الرأي ان يرفع بيرتس تمثيل «العمل» في الكنيست بما لا يقل عن 50 في المائة، وتحدث الإعلام عن احتمال ان يقود شرقي مدني لا هالة أمنية له، رئاسة الحكومة في إسرائيل للمرة الأولى في تاريخها.

وفي العشرين من الشهر ذاته، فجر زعيم حزب «ليكود»، رئيس الحكومة آريئيل شارون، قنبلة من العيار الثقيل باعلان انسلاخه عن الحزب الذي أسسه قبل ثلاثة عقود وتشكيل حزب جديد اطلق عليه اسم «كديما»، ويعني بالعربية «الى أمام» جذب اليه نخبة من أركان ليكود، وايضا من ارتبط اسمه بحزب «العمل» شمعون بيريس. وبرر شارون خطوته بوجوب اعتماد توجه مغاير يقوم على ترسيم الحدود للدولة العبرية والتوصل الى تسوية للصراع رأى ان الظروف الدولية والاقليمية تتيح له تحديد ملامحها وإملاءها على الفلسطينيين. وجاءت استطلاعات الرأي لتفيد بأن الحزب الجديد سيجرف اكثر من ثلثي المقاعد في الانتخابات البرلمانية الجديدة، ما يمكّن شارون من تشكيل الحكومة التي يختار ويحقق رؤيته لحل الصراع. وأفادت الاستطلاعات ان خطوة شارون هذه أضعفت حزب «العمل» وفوتت على زعيمه الجديد فرصة الفوز في الانتخابات العامة.

وسارت الأمور على أفضل نحو، بالنسبة الى شارون الذي رأى ان السماء هي حدود طموحه، فشعبيته حلقت الى رقم لم يعرف مثله أي من أسلافه، فيما حزبه السابق ليكود الذي عاود انتخاب بنيامين نتنياهو سار نحو الانهيار.

لكن الرابع من كانون الثاني (يناير) من هذا العام قلب الأمور رأسا على عقب: جلطة دماغية قاتلة أدخلت شارون في غيبوبة ما زال غارقا فيها، وجاءت بالقائم بأعماله ايهود اولمرت ليحل محله. واذ لم يشأ حزب «كديما» الذي لم يُقم مؤسساته حتى الآن ان يؤدي التنافس على زعامة الحزب، تمهيدا للانتخابات في 28 اذار (مارس)، الى إضعاف الحزب، ارتأى رجاله اختيار اولمرت "الذي كان في المكان المناسب (قائما بالأعمال) في الوقت المناسب"، كما يقول احد الوزراء، مرشح الحزب لرئاسة الحكومة، علما انه كان في المكان الـ 33 على قائمة «ليكود» السابقة، وعينه شارون قائما بأعماله ليتفادى غضبه واعتزاله العمل السياسي. وبفعل التعاطف الشعبي مع شارون، منح 25 في المائة من الإسرائيليين ثقتهم لحزب «كديما»، ففاز بـ 29 مقعدا، فيما انهار «ليكود» وانحسر تمثيله في 12 مقعدا (مقابل 40 في الكنيست السابقة). وهكذا قادت المصادفات اولمرت الى رئاسة الحكومة وبيرتس الى وزارة الدفاع، وحمل الأول معه خطة «الانطواء» او تجميع المستوطنات في الضفة الغربية، فيما لوّح بيرتس بأجندة اجتماعية لتقليص رقعة الفقر في إسرائيل.

لكن الحكومة الجديدة لم تلبث ان تهنأ بـ «فترة التسامح» لتقع في اول اختبار حين قررت شن حرب على لبنان وفشلت في تحقيق الانتصار فيها، لترتفع أصوات تطالب بمغادرة قطبي الحكومة، اولمرت وبيرتس ومعهما قائد الجيش، لتنشأ أزمة قيادة وأزمة ثقة عنيفة بين الإسرائيليين وأركان حكومتهم، فضلا عن فضائح فساد وأخلاق يشتبه بعدد من أقطاب الدولة التورط فيها، ما دفع الإسرائيليين الى التصريح علنا بأنهم لا يرون في الأفق شخصية جديرة بمنصب رئيس الحكومة.

وهكذا، في نوفمبر 2006 يجد الإسرائيليون أنفسهم في حال من التخبط، فالفشل في الحرب على لبنان ما زال يفعل مفعوله، ورئيس الحكومة عاجز عن توفير الأمن للإسرائيليين، وسط تواصل سقوط قذائف «القسام» الفلسطينية على جنوب إسرائيل. وحين يُسأل اولمرت، وبعد ان تراجع عن خطته السياسية، عن أجندته السياسية يصرح بأنه ليس واجبا على رئيس الحكومة ان تكون لديه اجندة سياسية فتزيد حيرة الإسرائيليين من شخصية من يمسك بزمام الأمور في دولتهم. اما وزير الدفاع فأضحى موضع تهكم وتندر فيما حظي أسلافه بلا استثناء باحترام وهيبة لم يعد حتى الجيش الإسرائيلي يحظى بهما في أعقاب الحرب على لبنان.

ماذا بعد؟ هو السؤال الذي يطرحه الإسرائيليون صباح مساء ولا أحد يقدر على توفير الجواب، لكن ثمة قناعة لدى بعض المعلقين بأنه حتى لو انهار الحزب الحاكم كديما، كما تتوقع الاستطلاعات، فإن احتمالات نشوء قوة سياسية جديدة تمثل تيار الوسط بين ليكود والعمل، ما زالت واردة بداعي ان مثل هذه القوة تساوي برلمانياً 20 – 40 مقعدا. ولعل الاستطلاعات التي تفيد بأن أيا من الأحزاب الكبرى الحالية لن يحصد أكثر من 25 مقعدا في الانتخابات المقبلة تؤكد ان المكان في الساحة الحزبية الإسرائيلية ما زال يتسع لقائمة تمثل تيار الوسط.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات