كتب حلمي موسى:
لم يكن رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت يظن أن حملة "أمطار الصيف" سوف تطول. فقد اعتقد، هو ووزير دفاعه عمير بيرتس، أن مجرد الإعلان عن الحملة والتهديد بتوسيع نطاقها وصولا إلى احتلال مناطق في القطاع، كفيل بجعل الفلسطينيين يهرعون لتلبية مطالبه. كما أن رئيس أركان الجيش، الجنرال دان حلوتس، الذي شعر بالمهانة جراء نجاح المقاومة الفلسطينية في اقتحام موقع "كيرم شالوم" وأسر أحد جنوده، آمن أن تفعيل سلاح الجو وتدمير البنى التحتية قادر على إعادة الفلسطينيين إلى بيت الطاعة صاغرين.
وشعر القادة العسكريون أن بين أيديهم "قيادة سياسية" كالعجينة القابلة للتشكل كما يريدون.
فأولمرت وبيرتس القادمان من الدهاليز الحزبية والسياسية لا يعرفان كثيراً عن تفاصيل العمل العسكري وقدرته على التأثير. ومعلوم أن للجيش احتكارين أساسيين في إسرائيل: الأول احتكار حق تقديم المعلومات والثاني حق تقديم التقدير القومي.
ويتيح الحق الأول للجيش توجيه المستوى السياسي نحو الوجهة المطلوبة لأن احتكار المعلومات يعني فعلياً الحق في وضع المقدمات التي ينبغي أن تستند إليها النتائج. كما أن الحق الثاني يعني بلورة الإطار الأمني الذي تفعل في داخله إسرائيل سواء لجهة المخاطر أم وسائل مواجهتها.
ومما زاد الطين بلة أن الجيش يعتقد أنه أفلح في إدخال رئيس الحكومة ووزير دفاعه "المدنيين" إلى "غرفة العمليات" من دون إعداد مسبق. وهو أي الجيش يسعى لاستغلال ذلك لتحقيق أهدافه بأسرع وقت ممكن. ومن البديهي أن صاحب "نظرية الحرب الخاطفة" يتطلع إلى إنهاء العملية سريعاً قبل أن تتآكل قدرة الجيش على الإقناع.
والواقع أن إسرائيل، أياً كانت أخطاء قيادة الجيش، لا يمكنها التفريط بمكانة الجيش وسمعته. فهو في نظرها، أكثر من أي دولة أخرى، عنوان بقائها في فوهة بركان الشرق العربي. ومن دونه لا مكان لها في هذه المنطقة. وحال الجيش يختلف كثيراً عن حال الحكومة والأحزاب والقادة السياسيين الذين يمكن التخلي عنهم أو الانقلاب عليهم بسهولة. والجيش يرى نفسه هنا صاحب المشكلة أكثر من أي جهة أخرى. إنه المعني مباشرة بالصدام مع حماس ومع الإرادة الفلسطينية.
ولكن الجيش يحمل على كتفه عبء الصراع منذ إقامة الدولة اليهودية وحتى الآن. ورغم أنه حقق لإسرائيل مكاسب جمة إلا أنه لم يفلح في توفير الأمن والسلام لها. وقد تفاقمت هذه المشكلة على وجه الخصوص بعد أن انتقلت إدارة الصراع في الجانب العربي من الأنظمة إلى الفصائل، وفي الانتفاضات من الفصائل إلى الجمهور الفلسطيني.
وقد توصل عدد من القادة العسكريين في السابق إلى قناعة بأنه إذا كان الردع ذا قيمة عليا في الصراع مع الأنظمة العربية، فإنه يكاد يكون عديم القيمة مع الفصائل أحياناً ومع الجمهور طوال الوقت. وربما أن هذا ما قاد عسكريين سابقين مثل اسحق رابين وأريئيل شارون للتفكير بوسائل أخرى، اتفاق أوسلو وخطة الفصل. ولكن هؤلاء العسكريين كانوا قد جربوا أنفسهم في ميادين القتال. والآن هناك عسكريون جدد مشبعون بثقة زائدة بالنفس جراء "الفارق النوعي" في موازين القوى بينهم وبين العرب عموما والفلسطينيين خصوصا.
وهكذا نشأ واقع صراعي جديد يتمثل في تعدد أهداف الحملة العسكرية الجارية. فالهدف المعلن للجميع هو استعادة الجندي الأسير من دون قيد أو شرط. وفي ذلك يريد أولمرت تأكيد زعامته وقدرته على إدارة الأزمات ببرودة أعصاب، الأمر الذي ينقله من مستوى من وقع فجأة ومن دون سابق إعداد في موقع القيادة إلى موقع الزعيم الحقيقي. أما عمير بيرتس الذي تجرأ عليه عدد من الجنرالات السابقين داخل حزبه فإنه من خلال إلقاء بزة العمل الزرقاء في سلة القمامة وارتداء لباس الميدان المرقط يسعى إلى الرد عليهم ومواصلة الاستهزاء بهم.
والحديث عن أهداف الجيش والعسكريين يمكن أن يفيض عن كل حديث آخر. فهذه بالنسبة لهم معركة حياة أو موت في نظر الشارع الإسرائيلي وفي مواجهة السياسيين الذين قفزوا في الأعوام الأخيرة عن "نبوءات الغضب" التي أطلقوها سواء عند الانسحاب من الجنوب اللبناني أو عند تنفيذ خطة الفصل.
ولا يهاب الجيش وقادة الحكم في إسرائيل من تحقيق أهدافهم الصغيرة بوسائل بينها قتل وإذلال الشعب الفلسطيني. وما استهداف مقر رئاسة الحكومة في غزة سوى معلم من معالم الرغبة في إظهار هذا الإذلال. غير أن ما يبدو واضحاً هو أن السلوك الإسرائيلي يحقق عكس المطلوب.
فهم يريدون إضعاف حماس ولكن هذه الهجمات تزيد التفاف الجمهور حولهم. وهم يريدون شرذمة الصف الفلسطيني ولكن هذه الحملة وغاراتها تعمق وحدة هذا الصف. وحينها ثمة من يسأل السؤال أو الأسئلة المتكررة: صحيح أن الفلسطينيين في مأزق ولكن من قال إن إسرائيل ليست أيضا في مأزق؟ لقد بات الوزراء وقادة الجيش في إسرائيل يتحدثون عن أنه ليس هناك حل سحري وأن المعركة قد تستمر شهوراً.