إيهود باراك: راسمو طريقنا إلى المستقبل حاليا لا يتبنّون خُلاصات غازيت وهذا عمى قد ندفع ثمنه جميعاً!
"كرئيس لديوان رئيس هيئة أركان الجيش موشيه دايان، كرئيس لقسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية، وفوق هذه كله خلال 12 سنة مثيرة جدا وحاسمة في تاريخ الصراع ـ 7 سنوات منها كمنسق أعمال الحكومة، "قيصر المناطق" تحت إمرة ديان كوزير للدفاع، ثم 5 سنوات كرئيس لشعبة الاستخبارات العسكرية بعد أزمة حرب الغفران ـ ترك شلومو بصمة شخصية قيّمة على أحداث المرحلة، على السياسة الإسرائيلية وعلى تطبيقها وعلى تاريخنا برمّته" ـ هذا ما يقوله إيهود باراك، رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق ورئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي سابقا ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش ("أمان") قبل ذلك، في المقدمة التي وضعها لكتاب شلومو غازيت الجديد الصادر عن "منشورات يديعوت أحرونوت" مؤخرا، تحت عنوان "في مفترقات حاسمة".
ويضيف باراك، في تقديمه الكتاب: ما من شك في أن عطاءه ومساهمته لحياتنا جميعاً قد بلغا ذروتهما خلال السنوات التي كان فيها الرجل التنفيذيّ للسيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين والرجل المناطة به مهمة "الرقيب على بيت إسرائيل" (من سفر حزقيال: 3- 17).
ويشير باراك إلى أن "شلومو غازيت واصل العطاء والمساهمة حتى بعد تسريحه من الجيش.... واصل الكتابة وآلاف المقالات التي كتبها ونشرها لا يزال يقرأها عشرات آلاف الأشخاص من بيننا، حتى في أيامنا هذه، لما فيها من وضوح التفكير، عمقه وحدته، كما كان من قبل ودائما. لكن الخسارة والحسرة أن راسمي طريقنا إلى المستقبل حاليا لا يتبنون ما توصل إليه ويطرحه من أفكار وخلاصات. إنه العمى الذي قد ندفع ثمنه جميعاً"!
حنفيّتان، ساخنة وباردة، وإغلاق دائرة!
في احتفال خاص جرى في ديوان رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، الجنرال غادي آيزنكوت، مؤخرا، قدّم شلومو غازيت لآيزنكوت كتابه الصادر حديثا بعنوان "في مفترقات حاسمة ـ من البلماح إلى رئاسة أمان". ("البلماح" ـ هي المنظمة الصهيونية العسكرية "بلوجوت ماحَتس" ـ "السرايا الصاعقة". و"أمان" ـ هي اختصار: شعبة الاستخبارات العسكرية، بالعبرية).
وقال آيزنكوت إنه يُكثر من اقتباس أقول غازيت والاستشهاد بها خلال المداولات والأبحاث العسكرية المختلفة في هيئة أركان الجيش، خاصة وأن غازيت "كان المسؤول عن تنسيق أعمال الحكومة بعد حرب الأيام الستة (عدوان حزيران 1967). وقال إنه يتعين، في التعامل مع السكان الفلسطينيين في يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، استخدام "حنفية ساخنة وحنفية باردة". وهو ما نسعى إلى تطبيقه"!
وحضر الحفل، أيضا، مدير "منشورات يديعوت أحرونوت"، ناشرة الكتاب، دوف إيخِنفالد، الذي قال إن كتاب "في مفترقات حاسمة" هو "محصلة 70 سنة من العمل الأمني، الجماهيري والبحثيّ، ويضم بين دفتيه خلاصات أحد الأشخاص الأكثر تجربة وتقديراً في إسرائيل".
شلومو غازيت، المولود في اسطنبول (تركيا) في العام 1926 (وكان اسمه آنذاك: شلومو فاينشطاين)، هاجر إلى فلسطين في العام 1933. وفي العام 1942 انضم إلى منظمة "الهاغناه"، ثم انتقل إلى منظمة "بلماح" في العام 1944. في أوائل الخمسينات، أشغل رئيس ديوان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك، موشيه دايان، وكان شريكاً في الاتصالات السرية مع فرنسا عشية العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الأول 1956، ثم كان لاحقاً نائباً لقائد لواء "جولاني". وفي العام 1964 تولى رئاسة قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية، حتى العام 1967. وفي أعقاب عدوان حزيران من ذلك العام واحتلال المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية (والقدس الشرقية) وقطاع غزة، جرى في آب 1967 تعيين غازيت رئيساً لـ"لجنة التنسيق السياسي ـ الأمني في المناطق"، ثم تم تعيينه أيضا "مركّزا للجنة المدراء المكلفة بمعالجة الشؤون المدنية في المناطق المُدارة" (وهو منصب "منسق أعمال الحكومة في المناطق" حالياً، التابع لوزارة الدفاع). وفي منصبه هذا، طبق مع وزير الدفاع آنذاك، موشيه دايان، سياسة "الجسور المفتوحة". وفي أعقاب حرب تشرين (أكتوبر) 1973، بما كشفت عنه من قصورات وإخفاقات استخبارية وما ترتب عليها من نتائج وخيمة على إسرائيل، استُدعي غازيت في العام 1974 لإشغال منصب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان") وبقي في هذا المنصب حتى العام 1979.
عن هذا، يسجل غازيت "مفتتحاً" قصيراً بعنوان "إغلاق دائرة" يفتتح به كتابه الجديد، فيقول إن موشيه دايان، وزير الدفاع إبان حرب تشرين/ أكتوبر 1973 ("حرب الغفران")، استدعاه غداة تقديم لجنة التحقيق الرسمية في هذه الحرب (لجنة أغرانات) ملخص تقريرها الأساسي، يوم 2 نيسان 1974. كان دايان موجِزاً حتى النهاية، إذ قال لغازيت: "في أعقاب عزل إيلي زعيرا من منصب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، ستكون أنت خليفته"! ويضيف غازيت: "كما هو معتادا في مثل هذه الحالات، نشر الناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي بياناً قصيرا حول التعيين اشتمل، أيضا، على نبذة قصيرة عن حياتي ورد فيها أنني وُلدت في اسطنبول في تركيا. وبعد بضعة أيام على ذلك، تلقيت من الملحق العسكري التركي في إسرائيل نسخة من صحيفة تركية صدرت في اسطنبول من يوم 4 نيسان 1974 وفي مركز الصفحة الأولى صورة كبيرة لي مع العنوان التالي: "ابن اسطنبول ـ رئيس الاستخبارات الإسرائيلية"! وبالتزامن مع ذلك، تلقينا في منزلنا في بلدة رامات شارون باقة ورد كبيرة. كانت تلك من "اتحاد المهاجرين من تركيا في إسرائيل". فقد تبنّاني هذا الاتحاد كواحد من أبنائه الأعزاء وهنأني بحرارة على التعيين"!
بعد إنهائه الخدمة العسكرية، أشغل غازيت منصب رئيس "جامعة بن غوريون" في بئر السبع (النقب)، ثم المدير العام للوكالة اليهودية. وبين العامين 1985 و 1986، عيّنه رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، شمعون بيريس، على رأس طاقم مصغر وسرّي أجرى محادثات سياسية سرّيّة مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس. وفي 1995، عيّنه بيريس، الذي أشغل آنذاك منصب وزير الخارجية، مستشارا خاصا له، ثم بعد اغتيال رئيس الحكومة إسحاق رابين في العام 1995، عيّنه بيريس (كرئيس للحكومة) ممثلا شخصيا عنه في الاتصالات مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
احتمالات الحرب واحتمالات السلام!
في تقديمه للكتاب، كما أسلفنا، يسجل إيهود باراك بعض الدروس التي تعلمها من شلومو غازيت خلال سنوات اختلاطه به، إذ انضم باراك إلى شعبة الاستخبارات العسكرية (التي تولى رئاستها لاحقا) إبان تولي غازيت رئاستها. أحد تلك الدروس، كما يرويها باراك: "في البحث التلخيصي لـ"تقرير تقدير الوضع السنوي" الذي وضعناه أنا (الفصل العسكري) وحاييم يعبتس (الفصل السياسي)، بعد سنة من إعداده، كان في مركز النقاش، كما في كل سنة، "السؤال"، بأل التعريف، الذي كان يؤرق شعبة الاستخبارات دائما: هل من المحتمل أن نكون قد أغفلنا، لا قدر الله، الإشارات الدالة على احتمال نشوب حرب خلال السنة القريبة؟ وفجأة، أوقف شلومو النقاش وطرح، بكل جدية، السؤال العكسي، كما يبدو ظاهريا: هل من المحتمل أن نكون قد أغفلنا إشارات تدل على احتمال حدوث اختراق في اتجاه تسوية سياسية سلمية؟... ثم تساءل، بصوت مرتفع: هل من المحتمل أن يكون الضرر الناجم عن إغفال هذه موازيا، من حيث خطورته، للضرر الناجم عن إغفال تلك، رغم كل الفوارق؟".
وفي تقديمه هو للكتاب، يشير غازيت إلى أن الكتاب حصيلة "تجربة تزيد عن ستين سنة في مفاصل صنع القرارات الأمنية والسياسية في الدولة"، ثم يلفت إلى أن "أفضليّتي تنبع من حقيقة أنني لم أكن جزءا من المنظومة السياسية ـ الحزبية في أي يوم من الأيام. إنها أفضليتي الكبيرة في موقع المتفرج من الخارج".
ويوضح غازيت أن كتابه هذا "ليس كتاب سيرة ذاتية. فقد بذلت جهدا في كتابة يوميات، كتبتُ معظمها "في زمن حقيقي"، وقت حصول الحدث. وهي يوميات تعرض، بصورة أساسية، حياتي "المهنية"، في المناصب المختلفة التي أشغلتها في الأجهزة الأمنية وإلى جانبها. وآمل أن يكون فيها فائدة وعبرة لكل العاملين في مجال الأمن في إسرائيل".
وفي قراءته للكتاب الجديد، يعتبره إفرايم لبيد (صحافي إسرائيلي وباحث في التاريخ الصهيوني ـ اليهودي، أشغل في السابق منصب الناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي وضابطا كبيرا في وحدة الاستخبارات العسكرية رقم 8200، ثم مسؤولا عن إذاعة الجيش الإسرائيلي ـ غالي تساهل ـ وناطقا رسميا بلسان الوكالة اليهودية) "كتاباً هاماً لكل مهتمّ بتاريخ الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وفرصةً للنظر إلى ما وراء كواليس صناعة القرارات في مكاتب وزير الدفاع، رئيس أركان الجيش وحتى رؤساء حكومات (دافيد بن غوريون، ليفي أشكول، غولدا مئير، إسحاق رابين ومناحيم بيغن).... إنه يقدم للقارئ صورة من زاوية شخصية جدا على ما حدث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وتكمن أفضلية الكتاب في كونه مؤسسا على يوميات كتبها غازيت طوال السنوات، بما جنبه الاعتماد على ذاكرته فقط وهو في التسعين من عمره الآن".
وإلى جانب الوصف التسلسلي للأحداث يخصص المؤلف فصلا كبيرا وموسعا للمنظور الاستراتيجي الإسرائيلي وللخطوط العامة للعمل، كما بلورها خلال سنوات نشاطه. ويُركّز غازيت على مسألة معالجة "الأعمال التخريبية العدائية" والبرنامج النووي العراقي، فضلا عن الاشتغال الهوسيّ بالتحذير والإنذار من خطر هجوم يشنه جيش عربي على إسرائيل.
ولأن غازيت كان يرأس الاستخبارات العسكرية إبان المحادثات السياسية السرية مع مصر، تمهيدا لاتفاقية "كامب ديفيد" وزيارة الرئيس المصري السابق، أنور السادات إلى إسرائيل، في تشرين الثاني 1977، فهو يُفرد حيزا واسعا من كتابه لهذا الموضوع، فيعرض بصورة تفصيلية مخاوف القيادة الإسرائيلية وشكوكها حيال مبادرة السادات، منذ الإعلان عنها وحتى هبوط السادات في إسرائيل.
كما يخصص غازيت حيزا مماثلا أيضا للدور الذي لعبه، في أعقاب إنهائه الخدمة العسكرية، كأول مبعوث رسمي من إسرائيل لإجراء اتصالات ومحادثات، سرية، مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس.
وفي الحديث عن شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، يولي غازيت أهمية خاصة وكبيرة لتأسيسه "فرع المراقبة"، في أعقاب حرب تشرين 1973 وعلى ضوء ما تبين خلالها من قصورات وإخفاقات استخبارية. كما يشدد غازيت على أهمية التعاون والتشاور بين "أمان" وباحثين ومحاضرين في الأكاديميا الإسرائيلية، وخصوصا في جامعة تل أبيب ومعهد "شيلواح"، "من أجل إغناء تشكيلة الآراء والتقييمات في تقارير تقدير الوضع السنوية. وهو ما لم يرُق تماماً لضباط كثيرين في شعبة الاستخبارات"، كما يكتب غازيت!
ويذكّر إفرايم لبيد بأن غازيت كان قد قاد "بصورة خلاّقة وشجاعة"، في سبعينات القرن الماضي، جهودا كبيرة وواسعة لتشجيع تعليم اللغة العربية في دولة إسرائيل، لإصدار ونشر قاموس عربي ـ عبري وضعته شعبة الاستخبارات (أمان) وتوزيعه إلى العالم الواسع، لدمج جنود من أبناء الطائفة العربية الدرزية في شعبة الاستخبارات وإقامة أطر خاصة بين شبيبة "غدناع" (اختصار: "كتائب شبيبة عبرية" بالعبرية ـ منظمة إسرائيلية للتعليم والتحضير ما قبل تأدية الخدمة العسكرية الإلزامية) من مستشرقين وجنديات معلمات لتعليم أبناء وبنات الشبيبة اليهود اللغة العربية.
ويُلاحظ لبيد، ختاماً، أن عددا من الأحداث المركزية في تاريخ الدولة، والتي كان غازيت شاهداً حيا عليها عن كثب، لم تحظ في هذا الكتاب بأي تفسير أو تفصيل مطلوبين، وأبرزها: تفكيك وحل منظمة "بلماح" في العام 1948، من وجهة نظر عضو المنظمة وأحد قادتها، ثم "العمل المشين" (أو: "فضيحة لافون"، "عملية سوزانا" ـ عملية إرهابية إسرائيلية في مصر في العام 1954) من وجهة نظر الشخص الذي كان رئيساً لمكتب رئيس أركان الجيش آنذاك، موشيه دايان.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, يديعوت أحرونوت, باراك, الوكالة اليهودية, رئيس الحكومة