المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • منوعات
  • 4499
  • هشام نفاع

يروي صحافيون إسرائيليون أن الوزيرة ميري ريغف كانت حضّرت تصريحًا صاخبًا لمقابلة أعدّت لإجرائها معها صحيفة "يسرائيل هيوم"، شبه لسان حال رئيس حكومتها (أيلول 2015). وحتى اللحظة الأخيرة خططت لقول ما يلي: "أنا، ميري ريغف سيبوني من كريات غات، ابنة فيليكس ومرسيل سيبوني، لم أقرأ دوستويفسكي في حياتي" ولكنها استبدلت اسم هذا الكاتب الروسي الكبير بآخر لا يقل عنه فصار التصريح كالتالي: ""أنا، ميري ريغف (...) لم أقرأ تشيخوف في حياتي". وسبب التغيير في اسم الكاتب الكبير الذي تفتخر بعدم قراءته، كما أشار المعلقون، لم يكن من باب التدقيق في المعلومات، بل لأنها اعتقدت أن اسم تشيخوف أسهل وأسرع للالتقاط والهضم الشعبيين. ووفقًا لانتشار هذا التصريح والإكثار من تكرار اقتباسه بل تحوله إلى ما يشبه اللازمة المرافقة لكل حديث إعلامي/ ثقافي عن الوزيرة، فقد أصابت وحاشيتها في الرهان على قوة انتشاره كنار في هشيم.

هذه الحادثة مع الأدباء، أو بالأحرى مع نفي الأدباء، ليست حادثة فردية لدى هذه الوزيرة الليكودية. فهي آتية من عالم عسكري عملت فيه بوظيفة إشكالية لدى كل من يدّعي علاقة ما بالثقافة، مهما اتسمت آراؤه بالمحافظة. كانت تحتل منصب الرقيبة الرئيسة؛ المسؤولة عن الشطب والحصر والحظر وإعادة صياغة المعلومات والمعطيات بما يتناسب مع نوايا ومصالح المؤسسة التي تخدمها – الجيش. ومع انتقالها إلى عالم السياسة، ككثيرين من أصحاب القطع المعدنية البرّاقة على الأكتاف، وجدت ريغف الطريق إلى السياسة معبّدة وجاهزة. ولديها معطيات لافتة: امرأة، شرقية، عسكرية ويمينية. وهكذا، مع تشكيل الحكومة الأخيرة اختار لها زعيمها بنيامين نتنياهو حقيبة الثقافة والرياضة تحديدًا. يمكن قول الكثير عن نتنياهو ما عدا إنه ساذج. وربما اختار لها هذه الحقيبة لتقديره مسبقًا أنه تعيين سيوفر الكثير من الصخب الذي يغطي كساتر دخاني على سائر سياساته السيئة في شتى القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وربما تقوم بعمل أشياء لصالحه دون أن يتلطّخ بدور محاربة النّخب الثقافية الإسرائيلية، التي يكنّ لها نتنياهو الكثير من الضغينة بل العداء الصريح أحيانًا.

ومع مراكمتها تجربة تعادل السنة ونصف السنة تقريبًا، يمكن القول إن ميري ريغف شكّلت منصبها الوزاري وصاغته، جزئيًا على الأقل، بروح آخر الوظائف التي شغلتها في "العسكر": الرقيبة. ومقولتها عن تشيخوف كانت المعنى المبطّن لما ستفعله لاحقًا بأديب آخر هو: محمود درويش. وإذا كان الإعلان عن رفض قراءة الأديب الروسي فعلا من الرقابة الذاتية "السالبة"، فإن الحرب متعددة المعارك التي ستشنها على الأديب الفلسطيني ستكون رقابة فاعلة مغالية.

فخلال الحفل الأخير لتوزيع جوائز الأكاديمية الإسرائيلية للسينما على اسم شايكه أوفير، أطلقت "الرقيبة" رصاص كلامها على محمود درويش، والذي دمج مغني الراب الفلسطيني تامر النفار كلمات له من قصيدة "سجّل أنا عربي" في أغنية مشتركة أعدّها مع فنان يهودي عربي الأصول (اليمن) اسمه يوسي تسباري. وقبل أن يصعد الفنانان لتقديم فقرتهما غادرتِ القاعة بشكل تظاهري، قبل أن تعود لاحقًا وتصعد إلى المنصة موبخة الحاضرات والحاضرين وهي تقدم تفسيرًا ديماغوغيا شعبويا لقصيدة درويش. فركّزت على الأبيات:


"أنا لا أكره الناس
ولا أسطو على أحد
ولكني إذا ما جعت
آكل لحم مغتصبي
حذار حذار من جوعي
ومن غضبي"

لكنها قالت إن درويش يقول في نهاية القصيدة "سيأكل لحمنا جميعاً، لحم الشعب اليهودي، ويجب ألا نوافق على ذلك. وهذا ما حارب من أجله رئيس الحكومة في خطابه (في إشارة إلى خطاب بنيامين نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة في حينه) وهذا كذب، وسيبقى كذباً، حتى لو كتبه شاعر موهوب".

ريغف رقصت طربًا أيضًا على حادثة أخرى متعلقة بمحمود درويش.

فقد قام أفيغدور ليبرمان، وزير الدفاع المتطرف بدرجات فاشية وزعيم حزب "يسرئيل بيتينو" اليميني القومجي، بتوبيخ مدير إذاعة الجيش المسماة "غالي تساهل"، لأنه سمح ببث حلقة إذاعية معلوماتية الطابع عن الشاعر الفلسطيني الكبير. السياسي القومجي رأى الغنائم المترتبة على عملة الشعبويّة في صفوف جمهور يسهُل للأسف تسميم غرائزه ومن ثم اقتياده بلجام التعصّب، فأعلن بمفردات عدوانية: "انها مسألة خطيرة تتعلق بشخص كتب نصوصا ضد الصهيونية ويتم استخدامها حتى الآن لتشجيع الأعمال الارهابية ضد دولة إسرائيل". وهنا اعتلت ريغف الموجة نفسها لتعلن أن "إذاعة الجيش انزلقت إلى الهاوية. يجب على الإذاعة أن لا تسمح لنفسها بتشجيع التيار المعادي للإسرائيليين. أشعار درويش تتناقض مع قيم مركزية في المجتمع الإسرائيلي". عقلية الرقيب لا تتغيّر بسهولة كما يظهر ويتبيّن.

هذا التفسير المجتزأ، الشعبوي والديماغوغي، لقصيدة شاعر بقامة درويش، لا يقول طبعًا عنه شيئًا من مفردات أمثال هؤلاء السياسيين الإسرائيليين وريغف أولهم، لأن الاقتراب من شعره يحتاج إلى أدوات العقل والحسّ والذائقة وليس حراب "الأمن" ولا مقصات "الرقيب". لكنه بكل تأكيد تفسير يقول الكثير عن تلك السياسيّة وأسلوبها وتقنيات ممارساتها السياسية. فهي تمثل ما يمكن اعتباره جيلا كاملا من الليكوديين، بل اليمينيين الإسرائيليين عموما، الذين صبغوا توجههم بشعبوية تغطي على ضحالتهم العامة، حتى فيما يخص أيديولوجية أسلافهم. ورغم أن الأخيرين كانوا أكثر تشددًا في طروحاتهم (الهادئة نسبيًا) وأكثر تشددًا في ممارساتهم – وهو الأهم - فإن الجيل الراهن يبدو اكثر صخبًا وأقلّ فعلا. ويمكن ملاحظة سلوك زملاء ريغف الذين يرفعون أسهمهم وشهرتهم عادة على أجنحة الزعيق والمقاطعة الفظة عديمة التهذيب واللياقة لكل خطابات النواب العرب في الكنيست. وفي عصر يطغى على السياسة فيه توزيع وتبادل الفيديوهات القصيرة والتصريحات الخاطفة عن "إنجازات" هؤلاء السياسيين الكلامية، تصبح هذه المواد أفضل سلعة لمراكمة الشعبية واكتساب النجومية.

ريغف تفوقت ضمن هذا الرهط بكونها مؤتمنة حكوميًا على فروع الثقافة المختلفة. ولمعرفتها بالشروخ الحساسة التي تقطّع المجتمع الإسرائيلي، راحت ترتب سياستها ببنود واضحة: معاداة كل من يتحدى أو يعارض بل حتى يختلف بهدوء عن الخطاب الرسمي الصهيوني، ومحاباة ومنافقة مجموعات يهودية إسرائيلية تشعر بالغبن الحقيقي بفعل سياسات التفرقة التاريخية والحقيقية بحقها، وأبرز هؤلاء هم الشرقيون. لذلك، لم تختر ريغف تصريحها الافتتاحي أعلاه صدفة بل لعبت من خلاله على شتى العواطف والغرائز والمصالح. فاستعادة الاسم الأصلي لعائلتها "سيبوني" الذي طالما اخفته في السابق هي إشهار شبه تسويقي بمزاد علني لهويتها الشرقية. وكي تدفع بهذا الاستعراض اكثر وأعلى، أعلنت عن اتساع المسافة التي تفصلها عن أدباء النخبة وجاءت بتشيخوف رمزًا. وربما ذهبنا أكثر قليلا وقلنا إنها كمن تعرف التوترات الخاصة بين شريحتي الشرقيين والروس في المجتمع اليهودي الإسرائيلي، احتارت بين روسيين اثنين تحديدًا! هذا مجرد تخمين.

محاربة من يخالف الخطاب المهيمن!

في الباب الشرقي- اليهودي ولمناطحة إدارات مؤسسات المسرح والسينما وسائر مجالات الثقافة التي تتلقى تمويلا من الخزينة العامة، رفعت ريغف لواء تغيير الأولويات والتوزيعة العادلة للمال العام. هذا أمر يفترَض أن يؤيده كل رافض لجهاز التمييز بصبغته "البيضاء" والمتوارثة في إسرائيل. ويدعمه كل من يرى أن الاستفراد بالمضامين كما بالأموال ضمن حلقة ضيقة أحادية الذائقة، هو أمر يقلّل من مديات وحقوق التعبير والابداع. لكن ما جاهرت به ريغف من طرح قيمي، لم يتحل أبدًا بمضمون مماثل. فهي عمليًا سعت لمحاربة من يخالف الخطاب المهيمن ومن يجرؤ على انتقاد الأفعال والأفكار التي تتدفأ حول موقد إجماع إسرائيلي شبه- قبلي، بينما أبقت كل الهيمنة لمن تعوّد القول "نعم سيدي"، لا فرق في أصوله، في وقت الحرب كما في فترة السلم، وخلال الأزمات كما في الأحيان الاعتيادية. فهل ستقترب "الرقيبة" من ممالك مَن ينتج مضامين تمجّد العسكرتارية على المنصات والشاشات الإسرائيلية؟ الجواب سلبي. وهل ستختار العدالة التوزيعية بمعنى إعادة الاعتبار للثقافة الشرقية- اليهودية بعمقها وموروثها وحاملها الحضاري، أي العربي بالضرورة؟ هذا مستحيل. لأنه وفقًا لمنهجها، كل المشروع "الانقلابي" للوزيرة الليكودية يجب ان يمشي بالتوازي التام والتماهي الخالص مع خدمة المشروع السياسي لليمين الذي ينص على رص صفوف جمهوره بواسطة توجيه النقمة والغضب والعداء نحو العرب ونحو أولئك اليهود "المتهمين" بأنهم "محبون للعرب".

المثقف والناشط البروفسور يوسي دهان، رأى في مقال بعنوان "العدالة الثقافية لدى ميري ريغف جزئيّة لا غير" (يديعوت أحرونوت، آب 2016) أنه من الطبيعي التعاطف مع دعوة الوزيرة للعدالة الثقافية، لكن "التمعّن في المضمون يثير المخاوف، وليس الأمل". وهو يشير إلى عنصرين مركزيين في ذلك، فيكتب: "من الأجدر بمن يؤيد موقفها أن ينتبه إلى التفسير الذي تعطيه وزيرة الثقافة لمصطلح "العدالة الثقافية"، وهو ما يجعلها أحد أخطر أعداء هذا المفهوم القيمي. فمثلا، تنحصر راية العدالة التوزيعية لديها في التوزيع المنصف للموارد في اطار السكان اليهود فقط. اما التمييز المتواصل ضد السكان العرب في مجال الثقافة فليس لدى الوزيرة أية نية لتصحيحه".

التعاطف الذي يشير اليه الكاتب سبق أن وصفته بدقة (وبنقديّة) الناشطة والكاتبة الشرقية أورلي نوي في مقال على موقع "سيحا مكوميت" (أيار 2015)، إذ كتبت: "ليس لديّ أية كلمة طيبة لقولها عن ميري ريغف، ولا حاجة للبحث عن كلمة كهذه أصلا، فهي نموذج للعنصرية العنيفة والمنفلتة، قومجية بدرجة كاريكاتورية، تنضح بالعسكرتارية بأكثر اشكالها المنفرة وتفوح بالكراهية العميقة والخطيرة للأجانب. مع ذلك، أعتقد أن النار والسموم الموجهة اليها لم تكن لتصل هكذا درجات لو تم تعيينها في وزارة تتعلق بشكل مباشر بالجمهور الذي تتحدث باسمه علانية".


وتفسّر الكاتبة: "انطباعي هو أن عوالم الكثيرين ممن يهاجمونها كانت ستهتزّ بدرجات أقل لو عينوها (ريغف) مسؤولة عن السجل السكاني والهجرة مثلا حيث ستكون لطروحاتها هناك عواقب فورية ومدمرة. والتفسير برأيي كامن في مفردة واحدة: روح الجماعة. فاليسار الإسرائيلي ينزع إلى اطلاق العويل أكثر حين تتعرض روح الجماعة التي يتمسك بها للمساس، وليس حين المساس بالقيم نفسها. فالصورة الذاتية لدى اليسار الإسرائيلي لا تتقاطع مع الادارة المدنية، وهي جسم قامع وعنيف، وبالتالي فالسؤال عمّن يترأسه، رغم العواقب الخطيرة للأمر، تشغل اليسار بدرجة أقل في جدالاته الداخلية. أما "الثقافة" الإسرائيلية بالمقابل، فيبدو أنها مسجلة في الطابو على اسم اليسار، وبالتالي فدخول ريغف اليها، وهي المضاد الذي يتحدى الصورة الذاتية لليسار، يثير العواصف في صفوف النخبة".

يوسي دهان يشير إلى ما يتجاوز ميكانيكية طروحات ممثلة حكومة نتنياهو، فيقول: من المهم الإشارة أيضًا إلى أن مصطلح "العدالة الثقافية" لا ينحصر في توزيع لائق للموارد فقط، بل يتضمن أيضًا حق الأفراد والجماعات الثقافية بإنتاج الثقافة والتمتع بها في ظروف حرّة. العدالة الثقافية تشتمل أيضًا على حق الأفراد والجماعات في حرية تعبير فنية، وهي الحرية التي داستها ريغف حين عملت على سلب كامل ميزانية مسرح الميدان العربي في حيفا لأنه عرض مسرحية طرحت قضية لم تعجب الوزيرة (قضية الأسرى عبر مسرحية "الزمن الموازي"). كذلك فالعدالة الثقافية يجب ألا تُشتَرَط باستيفاء امتحان "الولاء الثقافي" الذي تطرحه الوزيرة، وهو امتحان تُشطَب بموجبه ميزانيات ثقافية بذريعة المساس بدولة إسرائيل ورموزها. إن "الولاء للسلطة" و"الثقافة" معًا، عبارة عن تناقض". وهو يصل في النهاية إلى الاستنتاج بأن "تفسير الوزيرة مصطلح العدالة الثقافية ينتج واقعًا معاديًا للديمقراطية ويفتقر للحرية والعدالة، ويقود إلى ثقافة خانعة ومتدنية".

إن الطرح الشعبوي- القومجي، على خطورته، لدى ريغف، إنما يغطي على أركان ودهاليز أخطر لمؤسسة الحكم اليمينية الراهنة، في سياق الثقافة أيضًا ولكن ليس وحدها. أقصد مثلا، ورئيسيًا ربما، ما يطرحه ويمارسه ويكرّسه زعيم حزب المستوطنين المركزي نفتالي بينيت في وزارة التعليم. بمفهوم ما، يمكن القول إن لوبي المستوطنين هو الجوزة الأيديولوجية الصلبة في ائتلاف اليمين، وتتسم ممارساته بالاستراتيجية والتخطيط، ومن هنا خطورتها الأكبر من شعبويي اليمين، لكن هذا موضوع لمقال قادم.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات