المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يتعرض التوجه النسبي الذي يميّز البحث الما بعد الصهيوني إلى هجوم شرس في النقد الذي كتبه المؤرخ بيني موريس، المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط، حول الكتاب الجديد لـ إيلان بابه "تاريخ فلسطين المعاصر: أرض واحدة، شعبان".

مقال موريس الإنتقادي نشر في عدد مجلة "نيو ريبوبليك" الأسبوعية الصادر في 22 آذار/ مارس 2004، تحت عنوان "سياسة بوسائل أخرى"، ويهاجم فيه موريس بشدة كتاب بابه، بدعوى خضوعه للأيديولوجية السياسية للمؤلف. وقد ختم موريس مقاله النقدي بقوله عن الكتاب "إنه حقاً كتاب مرّوع... وإذا كان هناك من هو مهتم بالتاريخ الحقيقي لـ فلسطين/إسرائيل وبالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، فإن من الجدير به أن يهرول مسرعاً في الإتجاه المعاكس".

ويسوق موريس قائمة بالأخطاء والمغالطات التي قال إنه وجدها في الكتاب، والتي تنبع في جانب منها، حسب رأيه، من "إهمال وكسل وتقاعس"، فيما ينبع الجزء الأكبر من "تلك الفلسفة –النظرية- النسبية التي لاتعطي قيمة للوقائع والحقائق التاريخية". ولم يتأخر بابه في الرد على موريس، حيث نشر مقالاً لاذعاً جداً في الثلاثين من آذار/ مارس 2004، في موقع "الإنتفاضة الإلكترونية" على شبكة الإنترنت وذلك إثر رفض مجلة "نيو ريبوبليك" نشر رده على نقد موريس لكتابه.

وقال موريس لصحيفة "هآرتس"، في سياق إعداد هذا التقرير، إن أسبوعية "نيو ريبوبليك" لاتنشر، حسب سياستها وتوجهها، ردوداً مطّولة على مقالات تنشر فيها، وإنه أقترح على "بابه" أن يرسل للمجلة رداً مقتضباً. ويدل السجال والتشاحن بين المؤرخين وما يثيره ذلك من اهتمام بالغ على شبكة الإنترنت (حيث وردت الكثير من الردود والتعليقات) على أن تيار "ما بعد الصهيونية"، حتى وإن كان في حالة تجمد كما يعتقد بعض ممثليه، قد أضحى قطعاً جزءاً من الخطاب العام في إسرائيل كما يقول آخرون.

نقد أم تهجم؟

نقد مورس لايخلو من نبرة شخصية، حيث يقول "لقد مشينا معاً، أنا وإيلان بابه، درباً طويلاً، لكننا افترقنا ليسير كل منا في طريق مختلف". ويضيف "كان ثمة بيننا على الدوام عدم توافق ميثودولوجي - منهجي ... فقد توجه كلانا لداسة وكتابة التاريخ من منطلقات ورؤى متعارضة.

فـ "بابه" نظر إلى التاريخ من منظور السياسة الراهنة وكتب التاريخ عن وعي وفق نظرة مسخرة لخدمة أهداف سياسية. أما وجهة نظري فقد انطلقت من مفهوم أن للمؤرخين كمواطنين وجهات نظر وأهدافًا سياسية، لكن مهمتهم البحثية هي محاولة الوصول إلىالحقيقة في شأن حدث أو عملية تاريخية ما، وإضاءة الماضي بصورة موضوعية ودقيقة قدر المستطاع.

لقد إعتقدت، ولا زلت أعتقد، أن هناك شيئاً كالحقيقة التاريخية، يقوم في شكل مستقل ومعزول عن ذاتية الباحثين ... وأن على المؤرخ، عندما يكتب في التاريخ، أن يتجاهل السياسة الراهنة، وأن يقاوم ميوله السياسية عند محاولته شق عتمة الماضي".

هنا يبدأ موريس هجومه على بابه، بقوله: لقد سمح بابه منذ البداية لسياسته بحرف التاريخ الذي يكتبه. إنه – بابه- لايعدو كونه نصيرًا متبجحًا لتيار "ما بعد الحداثة" يعتقد "أنه ما من شيء يضاهي الحقيقة التاريخية سوى مجموعة من الروايات، لايزيد عددها عن عدد المشاركين في أي حدث أو عملية راهنة، وأن كل رواية، وكل وجهة نظر، نافذتان وشرعيتان تماماً كحال ما سيتلوهما".

ويمضي موريس في هجومه الكاسح على بابه مدعياً أن الأخير "غير ملم بالحقائق الأساسية للصراع الإسرائيلي – العربي" وأن مؤلفه (كتاب بابه الأخير) "حافل من حيث الكم والنوع بأخطاء ومغالطات لانظير لها في أي هستوريوغرافيا (تأريخ) جادة".

ويوسع "موريس" نقده (أوهجومه ...) قائلاً: إن بابه يعتقد، مثل معلمه الروحي إدوارد سعيد، أن الحل الوحيد للصراع الإسرائيلي – العربي يتمثل في قيام دولة واحدة ثنائية القومية في كل فلسطين ... لكن إندلاع الإنتفاضة الثانية – يكمل موريس – التي "طوّحت بالمؤرخين الجدد، كما لو كانت إعصاراً عاتياً، في زوايا واتجاهات متناقضة من العالم السياسي" دفعت ببابه نحو الإصطفاف في جبهة الصراع، جنباً إلى جنب مع الأكاديميين المناصرين للقضية الفلسطينية في الغرب، من أجل مقاطعة الأكاديمية الإسرائيلية وحرمانها من الإستفادة من صناديق البحث والإستثمار على الرغم من أن بابه نفسه "لم يرفض قبض مرتبه من جامعة مدعومة من قبل الحكومة الإسرائيلية (يعمل بابه محاضراً في جامعة حيفا) التي يرى أن سياستها مرفوضة كل الرفض".

ويرى موريس أن كتاب بابه الجديد يشكل "شاهداً على تطور بابه كمؤرخ" ذلك لأنه يركز في الكتاب على "ضحايا الإجتياحات والغزو والإحتلال والطرد والتمييز والعنصرية" والذين هم بالدرجة الأولى (أي الضحايا) عرب فلسطين، واصفاً اليهود الصهيونيين بأنهم "غزاة ومستعمرون" ... فالفسطينيون – حسب بابه- هم الضحايا دائماً وأبداً، أما الصهيونيون فهم دائماً "مستعمرون همجيون". ويستطرد موريس معتبراً أن الكثير مما يحاول بابه تسويقه ما هو إلا "فرية من صنع خياله" تنبع من اعتبارات الإستقامة السياسية (كمحاولة بابه إثبات وجود مشاركة متزايدة للنساء في النضال الفلسطيني أو قوله بان الأطفال – الفلسطينيين – أثروا على تطور النضال الفلسطيني).

ويشير موريس إلى أن كتاب بابه يحتوي في الحقيقة على أخطاء ناتجة عن إهمال مردّه سخرية واستهزاء بالحقائق، لكن الكتاب مع ذلك حافل – كما يقول موريس – بمغالطات ناتجة عن الميول الأيديولوجية للكاتب "المعني بوصم وتلطيخ صورة الصهيونيين وتبييض صفحة الفلسطينيين"، على حد قول موريس.

وعن تأييد بابه لقيام دولة ثنائية القومية واحدة في فلسطين، كتب موريس في مقاله النقدي "إنه – بابه – أحمق كبير ... فعليه أولاً أن يدرك كيف ستبدو مثل هذه الدولة" التي "لن يتمكن ولدا بابه، عيدو ويونتان، اللذان يكرس لهما بابه كتابه، من العيش فيها" متمنياً لهما أن يعيشا "ليس فقط في فلسطين المعاصرة وإنما في فلسطين التي يعمها السلام".

بابه: إنه عنصري ... "عاهر"

في مستهل رده على نقد موريس لكتابه، أنشأ بابه قائلاً " نقد موريس يقوم على سلسلة تهجمات وتخرصات شخصية وتشويه تام للوقائع". وحمل بابه بشدة في البداية على ما ادعاه موريس بشأن المشوار الطويل الذي قطعاه معاً كمؤرخين جدد وقال "هذا تحريف للتاريخ، ذلك لأنني لم استطع أن أكون شريكاً لشخص أصبح منذ العام 1988 يتبنى وجهات نظر وجدت أنها غير مقبولة من ناحية أخلاقية". ويضيف بابه أن موريس أطلعه خلال لقائهما الأول في أواخر الثمانينيات، على وجهات نظره الحقيقية التي وصفها بابه بأنها "وجهات نظر عنصرية بغيضة تجاه العرب عامة والفلسطينيين على وجه الخصوص". لهذا السبب تجد "بابه" يستشيط غضباً إزاء إدعاء موريس "كلانا – أنا وبابه – من أنصار اليسار"، رغم الإختلاف في المنهج والسياسة. ويتهم بابه موريس بأنه "إنتهازي"، مضيفاً أن موريس أصدر أخيراً باللغة الإنجليزية طبعه جديدة لكتابه عن المشكلة الفلسطينية ليس بسبب توفر مادة جديدة دفعته إلى ذلك، كما كتب موريس في تقديمه للكتاب، وإنما لأن "هذا العاهر" - والمقصود موريس – لاحظ عقب إندلاع الإنتفاضة الثانية بأن " الإتجاه في إسرائيل إنزاح نحو اليمين". ويستطرد بابه مشيراً إلى أن كتاب موريس الأصلي عن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين "كتب تمشياً مع الإتجاه الذي هبت فيه الريح إبان تلك الفترة، وكانت وجهة نظره وقتئذٍ حول التاريخ، بأن التطهير العرقي في فلسطين لم يتم نتيجة لخطة رئيسة".

ولكن - أردف بابه – بعد فوز اليميني بنيامين نتنياهو في انتخابات 1996، "كان من الصعب الحصول على درجة البروفيسورية في جامعة إسرائيلية. من هنا بدأ التحول، حيث وجد – موريس – أنه سيكون من السهل أكثر الحصول على عقد عمل ثابت ودرجة البروفيسور إذا ما قام بتهوية وتلميع وجهات نظره التي آمن بها أصلاً". وتابع بابه: في الطبعة الجديدة (الإنجليزية) لكتاب موريس "تحول التطهير العرقي إلى خطة رئيسة، انتقدها موريس لأنها لم تكن ناجعة بدرجة كافية!".

كذلك يستند موريس إلى أرشيف الجيش الإسرائيلي على الرغم من معرفته أن "ضباط الجيش الإسرائيلي مارسوا الكذب في الماضي ولازالوا يمارسونه في الحاضر". ويزيد بابه بقوله إن الصورة التي رسمها موريس عن حرب 1948 "لن تكتمل أبداً" لأنه – أي موريس – لايستطيع استخدام الوثائق العربية والفلسطينية الوفيرة عن تلك الفترة لأنه لايفقه اللغة العربية.

لعل هجوم بابه يستند أيضاً إلى الحديث الذي أدلى به بيني موريس لصحيفة "هآرتس" في كانون الثاني من هذا العام (2004) والذي اعترف فيه بأنه كان "صهيونياً على الدوام" وأن الناس "أخطأوا عندما صنّفوه بـ " ما بعد صهيوني"، وقوله أيضاً إن "بن غوريون كان داعية ترانسفير وأنه كان محقاً في سياسة الطرد التي اتبعها – ضد الفلسطينيين – لكنه ارتكب خطأ تاريخياً فادحاً في العام 1948 بعدم طرده لجميع الفلسطينيين من أرض إسرائيل" ... واعترف موريس أيضاً، في نفس المقابلة، بأن تحولاً قد طرأ لديه في أعقاب فشل مؤتمر كامب ديفيد الثلاثي (تموز 2000) و "رفض الفلسطينيين" للإقتراحات التي قدمها ايهود باراك خلال المؤتمر المذكور.

ويقول بابه إن موريس ليس مؤرخاً يمتلك قدرة تحليل وإنما هو "كرونولوجي" فحسب (ميقاتي أو مرتب للأحداث حسب تسلسلها الزمني) وأنه – أي موريس – هو بالذات الذي يستبدل الحقائق بـ "أيديولوجياته اليمينية"، ويضيف بابه إن "مؤرخاً إسرائيلياً يسوّغ التطهير العرقي – مثل موريس – لايحق له أن يزعم بأنه مؤرخ محايد".

ويبرر بابه التوجه الذاتي في التاريخ بقوله "عندما نكتب التاريخ فإننا نبني جسوراً فوق فترة زمنية طويلة، ونبني رواية أو سرداً تاريخياً من المواد الموجودة بين أيدينا. ونحن نعتقد ونأمل في أن تكون هذه الرواية إعادة بناء أمينة ودقيقة لما حدث، هذا على الرغم من ملاحظة المؤرخين، الذين لم يكلف موريس نفسه أبداً عناء قراءة أعمالهم، بأننا لا نستطيع أن نسافر بالقطار إلى الوراء للتحقق من ذلك".

وإذا كان موريس قد أشار إلى عدم دقة وإلى مغالطات في كتاب بابه، فإن الأخير يؤكد بدوره أن موريس أخطأ في تهجئة جميع الأسماء العربية والفلسطينية تقريباً، التي أوردها في كتابه الأول، ومع ذلك فإن الأمر لايعيق فهم ما قيل.

ويقر بابه أن كتابه يحتوي على أخطاء في بعض التواريخ والأسماء والأرقام، لكنه يقول بأن الشيء نفسه حصل أيضاً في كتب موريس. وأضاف "يتعين علينا الإقلال من هذه الأخطاء ... ولكنه لايجوز الإشارة إليها كما لوكانت جزءاً من أيديولوجية أو استغلالها كأساس ومنطلق لتهجمات شخصية. والأسوأ من ذلك، فإنه ليس من حق الناقد ممارسة الكذب علناً تجاه هذه الأمور، كما فعل موريس".

عموماً فقد آثر موريس عدم التعليق على رد بابه، مكتفياً بالقول بأنه لم يقصد التهجم شخصياً على "بابه" وإنما تبيان المنهج التأريخي الذي يتبعه في كتابه. وأضاف إن بابه "يعطي لآرائه السياسية حرية تامة في السيطرة والتحكم بالوقائع ... وأنا أقول بأنه ليس هناك شيء إسمه وقائع وحقائق ... فمن حق الكاتب أن يكتب ما يشاء".

وهكذا فإن الجدل حول "ما بعد الصهيونية" لم ينته، بل على العكس يحتدم بكامل عنفوانه وزخمه.

ترجمة "مدار"
عن صحيفة "هآرتس"

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات