المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

نزعة القوة في المجتمع الإسرائيلي ليست وليدة الأمس، فهي ترجع إلى "زوايا الماضي المعتمة" قبل تجسيد الفكرة الصهيونية. وليس سرًا أن الصهيونية بدأت أو شقت طريقها عبر نشاطات وأعمال غير منتظمة، بعضها جرى سراً خشية من السلطة (في شرق أوروبا)، وبعضها الآخر خوفاً من الشارع (في غرب أوروبا)، فيما جرى جزء ثالث بصورة مكشوفة وعلنية، وعلى الأقل ضمن سيرورة تاريخية استمرت عدة سنوات.

ويمكن القول دون الانزلاق إلى لغة التعميم، إن الأساس الصهيوني أقيم- من حيث التجسيد العملي- على أرض الشرق الأوسط بواسطة العناصر والنشطاء الصهيونيين الأوروبيين الشرقيين، ودُعِّم بحلول أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين بالنظريات الصهيونية الأوروبية الغربية.

وكانت نواة الجمهور الصهيوني الأوروبي الشرقي، التي دقت الأوتاد في أرض الشرق الأوسط، مغروسة في أربع دوائر هي: الدائرة الصهيونية الأيديولوجية؛ دائرة التقاليد الروسية؛ دائرة التقاليد اليهودية والدائرة الملتهبة. وقد أدى دمج أو تضافر هذه الدوائر الأربع على ما يبدو إلى خلق مناخ يقوم ويشجع على القوة. وفي اللحظة التي تبين فيها لتلك النواة أن مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" هي مقولة كاذبة وزائفة، تحولت نزعة القوة إلى عنف أوجد بدوره لنفسه مسوغاً مشتقاً من نظرية داروين حول "حرب الغاب المشروعة".

كانت الدائرة الصهيونية- الأيديولوجية حافلة بالأساطير والهرطقات التي تتحدث عن المجتمع المثالي، وإعادة التنظيم الاجتماعي والفكري وغيرها من السفسطات الكاذبة والخيالية، لكن هذه الأيديولوجية كانت تُبطن في أعماقها رسالة واضحة مؤداها "هذه الأرض لنا".

الدائرة الروسية، التي استمد الشبان الصهيونيون من "أنهارها وجداولها" عزمهم وإلهامهم العملي، طورت بدورها مبدأ "ما لا يؤخذ بالقوة، يؤخذ بمزيد من القوة". فالمجتمع الروسي كان في ذلك الوقت (أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين) بعيداً عن الليبرالية والديمقراطية، وبالتالي فقد أتت مجموعة "الهجرة الأولى" من مناخ اجتماعي وسلوكي معين. ولكم أن تتصوروا بعد ذلك كيف يمكن أن ينتهي اللقاء بين الصهيوني من أوكراينا أو ليتوانيا وبين موسى أو مصطفى المحلي (العربي).

الدائرة الثالثة، وربما الأكثر ديناميكية بين الدوائر الأربع، كانت الدائرة التقليدية اليهودية. وكان أبناء "الهجرة الأولى" مرتبطين برباط وثيق بالدين اليهودي وبتقاليده التاريخية والتوراتية قطعاً. وقد آمن هؤلاء إيماناً مطلقاً ليس بصحة طريقتهم الصهيونية وحسب، بل وبطريقتهم الدينية أيضاً، والمكان الذي تكون فيه الراية مصبوغة بألوان العقيدة الدينية لن تنبت فيه أبداً أزهار الربيع.

الدائرة الرابعة أطلقت عليها اسم "الدائرة الملتهبة". فقد شهدت تلك الفترة سلسلة من حوادث الشغب والمجازر التي أحاطت بالجمهور اليهودي وأدت إلى تعجيل نزوح (هجرة) اليهود من روسيا والذين اتجه قسم منهم صوب الشرق الأوسط. وكان المتضررون من حوادث الشغب والاعتداءات هذه الذين توجهوا إلى بلاد العم سام قد ذابوا في القارة الأميركية (الكبيرة) كأقلية هامشية، فيما كان المهاجرون الصهيونيون الذين وصلوا إلى الشرق الأوسط مهيئين ومستعدين لكيل صنوف المعاناة التي لاقوها بأنفسهم لـ"الآخر".

من هنا كان من الطبيعي أن ينبثق الانغلاق بين هذه الدوائر الأربع عن إفراز جمهور من المهاجرين (الـ"عوليم") الذين لا يبدون أي استعداد للمساومة على أي شيء، فقد أتى هؤلاء مهانين إلى "أرضهم الموعودة" من مجتمع غير ديمقراطي وهم يرفعون راية الأيديولوجية الصهيونية. إذن كيف يمكن أن يتعامل هؤلاء المهاجرون مع السكان الحقيقيين الطبيعيين في المنطقة؟! نعتقد أن التكهن بذلك ليس بالأمر الصعب. أما ورثة هؤلاء شبه الاشتراكيين فسوف يتحدثون عن مجتمع مثالي ليس فيه لـ "الأقلية" العربية أي مكان على الإطلاق، وقد يكون لهم في أحسن الأحوال مكان الحطابين وسقائي الماء.

في المقابل فقد انبثقت وتطورت في وسط أوروبا، وإلى حد ما في غربها، الصهيونية السياسية، الدبلوماسية، صهيونية هرتسل وأتباعه. هذه الصهيونية لم تترك تقريباً بصماتها على الصهيونية التي ظهرت على أرض الشرق الأوسط، على الأقل ليس قبل العقد الأول من القرن العشرين، وأنا أقصد بذلك بداية الصهيونية المصطنعة. وقد رسخت الصهيونية الهرتسلية السياسية الدبلوماسية جيداً في إطار مفاهيم كولونيالية واضحة ولعبت الكولونيالية دوراً هاماً للغاية في خلق الأجواء الأوروبية الرسمية وغير الرسمية في أواخر القرن التاسع عشر، وهو ما عبر عن نفسه ليس فقط في الجوانب السياسية الدبلوماسية وإنما أيضاً في الشعر والأدب والرسم والنحت وحتى في الأحاديث التي كانت تدور في مقاهي باريس ولندن وبرلين وفيينا وأمستردام وغيرها من عواصم أوروبا الغربية. واحتلت أسطورة "الإنسان الأبيض" أوروبا وسط عاصفةٍ صاخبةٍ انتقلت خلالها عدواها إلى الكثيرين من مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي وبضمنهم هرتسل ورفاقه.

التيار الذي اتجه نحو الشرق الأوسط وبضمنه منطقة الساحل الغربي، من لبنان وحتى مصر، أذكى لدى الصهيونية السياسية كل قناديل النوستالجيا الرومانسية الكولونيالية الممكنة. واعتبر المحليّون أي العرب جزءاً من بيئة المشهد الطبيعي "الصحراوي"، وهي الأجواء التي ترمز لها رواية هرتسل الخيالية "ألطنويلاند" (الأرض القديمة الجديدة).

من الصعب معرفة، والأهم من الصعب الفصل بين الموقف الكولونيالي لهرتسل، الموقف الحقيقي، وبين موقفه المطروح كوسيلةٍ لركوب الموجة الاستشراقية، التي ميّزت دول أوروبا الكبرى وذلك سعياً وراء جني أرباح إقليمية قومية. على أية حال فقد لعبت الكولونيالية دوراً مهماً في الأيديولوجية الصهيونية الأوروبية الغربية المركزية، وانطوت على ما من شأنه أن ينعكس، على الأقل منذ العقد الثاني من القرن العشرين، على السياسة الصهيونية أيضاً تجاه مشروع الاستيطان في "أرض إسرائيل".

هذا الموضوع يطل برأسه أحياناً على امتداد فترة الانتداب البريطاني، ذلك لأن بريطانيا تعاملت مع منطقة نفوذها الانتدابية على فلسطين- أرض إسرائيل كمستعمرة (وليس صدفة أن الانتداب انتقل في أوائل العشرينيات من مسؤولية وزارة الخارجية البريطانية إلى مسؤولية وزارة المستعمرات). بدورها لم تكن الزعامة الصهيونية في البلاد غبية بل أدركت الاتجاه الذي تهب فيه رياح السياسة البريطانية حتى بعد الحرب العالمية الثانية، فاتخذت تلك الزعامة موقفاً مؤيدًا لبريطانيا بشكل واضح. لقد انتهجت الزعامة الصهيونية إذن موقفاً كولونيالياً "مفهوماً" للغاية.

وأضيفت إلى كل ما تقدم من حديث أساطير القوة التي اتسقت واندمجت كلياً في النهضة القومية الصهيونية، تماماً كما هو مألوف في الحركات القومية الأوروبية، كتلك الأساطير التي تبرز في خطاب ماكس نورداو الشهير حول " يهودية العضلات" التي تصب بشكل أساسي في البلطجية اليهودية الصهيونية.

إذا أضيفت إلى ذلك الثقافة المجندة التي ظهرت إبان تلك السنوات (في أيام الانتداب وبداية الدولة)، كتلك التي برزت في نطاق التعليم الرسمي وغير الرسمي، فإن من الطبيعي أن ينال كل ذلك جرعات منشطة من البلطجة والقوة.

فقد تجندت كتب التعليم من جهة وبرامج العمل من جهة أخرى، لصالح تحسين وتنمية الـ "نحن"، وتحطيم الـ"هم"، أو شرعنة الـ"نحن" وشيطنة الـ"هم" (الفلسطينيون والعرب).

إذا كانت الحال كذلك لماذا لا نفهم إذن بذور البلطجة الكامنة داخلنا وبين ظهرانينا؟!

وإذا أضفنا إلى كل ذلك تدخل الصهيونية الدينية في السياسة وهي التي تقدس العمل الصهيوني، فإن الأمر يعني تلقائياً إعطاء مبرر لكل عملية سلب أرض ومكان عمل، وتسويغ كل عدوانية واستعلاء تجاه البيئة المحيطة.

ألا يكفي كل ذلك؟ّ

(ترجمة "مدار")

(*) الكاتب مؤرخ محاضر في "كلية بيت بيرل".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات