المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1193

قبيل المؤتمر الصحفي التي عُرضت فيه خطة دوفرات الكاملة، وقبيل الإعلان بأن التقرير لن "يبقى على الرف"، وقَّع رئيس الحكومة أريئيل شارون على اتفاقية ائتلافية مع حزب "يهدوت هتوراة" يلتزم من خلالها بتحويل 290 مليون شاقل لتمويل جهاز التربية والتعليم الديني "الحريدي".

 

تتنافى هذه الاتفاقية مع اثنين من المباديء المركزية التي وردت في التقرير: سياسة رصد الميزانيات بموجب معايير "متكافئة وشفافة" والتزام لا مساومة فيه بقيام جهاز تربوي عام. في ذات الأسبوع صرح وزير المالية، بنيامين نتنياهو، بأن المرحلة القادمة في الثورة الاقتصادية بروح "الليبرالية" الجديدة هي خصخصة الخدمات الاجتماعية.

إحدى المزايا المركزية التي يتسم بها هذا التقرير المركب والطموح والثوري، هي قدرته على الفصل بين العالم الكلامي الذي يخلقه وبين الواقع النوعي بجوانبه السياسية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية. ينم التقرير عن إشكالية واضحة في الدمج بين المباديء الاجتماعية والتربوية السامية التي تحظى بمكانة بارزة على صفحاته، مصحوبة بحملة علاقات عامة رائعة، وبين التوصيات السياسية العملية المستترة في أعماق التقرير والمنتهكة لتلك المباديء.

إحدى حسنات التقرير الرئيسية هي استعراضه لأمراض الجهاز التربوي الإسرائيلي بطريقة صريحة وواضحة وسوداوية. ويقترح التقرير لمواجهة هذه الأمراض ثورة تؤدي إلى نشوء عالم تربوي "يستحق كل طفل فيه أكثر". إنها ثورة تطمح إلى تمليكنا جهازًا تربويًا يجد سبيلاً سويًا للتوفيق بين المثاليات والمنطقيات والمتناقضات. تعدنا الثورة بتحقيق تكافؤ الفرص مع التفوق والامتياز، وحُسن التدبير المالي مع العدل الاجتماعي، والفردانية مع المشاركة الاجتماعية، وحرية الاختيار مع الاندماج الثقافي، والحضارة القومية مع التعدد الحضاري، والوحدة مع التعددية، والمشاركة الديمقراطية مع الإدارة الهرمية، والتعاونية التعاضدية مع الخصخصة.

هل بمقدور معدي التقرير الإمساك بالحبل من طرفيه؟

نعتقد من خلال قراءتنا للتقرير أنهم يمسكون الحبل من طرف واحد، وهو طرف تسريع عملية خصخصة الجهاز التربوي. أما التصريحات بشأن العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص فهي لصرف الأنظار عن الوجهة الحقيقية التي يعتمدها التقرير.

لا يمكن التطرق إلى كافة مركبات التقرير في مقالة قصيرة، لذا آثرنا التمركز في عدد من النقاط الأساسية.

ولعل أفضل ما نستهل به الحديث هو الإشارة إلى حقيقة أن التقرير يتضمن عددًا كبيرًا من التوصيات التي نصت عليها خطة جورج بوش (No Child Left Behind) منذ سنة 2002.

فلا عجب إذًا لما تواجهه الخطتان من نقد ومعارضة. فالخطتان هما ثورتان تربويتان يظل قسم من التزاماتهما بلا رصيد لأنه لا يحظى بتمويل حكومي.

تؤكد اللجنة على وجوب الحرص الشديد على بقاء ميزانية التربية والتعليم على حجمها الفعلي على امتداد السنوات القريبة، وذلك طبقًا للصرف الفعلي من تلك الميزانية خلال العام 2003، مع إضافة العلاوات اللازمة للزيادة السكانية الطبيعية. من الجدير ذكره أن ميزانية التربية قد خُفضت خلال السنتين الأخيرتين 13 مرة بما قيمته الإجمالية 2 مليار شاقل. وأن سنة 2003، أي السنة التي تعتمد الخطة على ميزانياتها، هي السنة التي بلغ فيها الصرف الحكومي على الطالب أقل معدلاته منذ سنة 1996.

وباعتبار أن تطبيق الخطة لا يُلزم بخرق حدود الميزانية الفعلية القائمة، فما المغزى العملي من أن توصية "قلب الهرم"، أي توفير التعليم المجاني لأجيال الطفولة المبكرة والذي تبلغ تكلفته ما يقارب 10 مليار شاقل، هي شرط أساسي لنجاح خطة الإصلاحات. لكن وبما أن معدي التقرير لا يجرؤون على وضع توصيات إجبارية تلقي على الدولة "عبئًا ماليًا غير معقول"، ولأنهم يشعرون بأنهم ملزمون بـ"الحفاظ على الحجم الفعلي لميزانية التربية والتعليم"، فهكذا نجد أن هذه الخطة مثلها كمثل خطة الرئيس الأميركي، وبالمثل تبقى هذه التوصيات المركزية أشبه بالأمنيات والتطلعات المستقبلية.

من المفروض أن يتحقق الشعار الذي ينادي به التقرير- "كل طفل يستحق أكثر"- طبقًا لمبدأ تكافؤ الفرص. وسيتجلى تكافؤ الفرص هذا، حسب التقرير، من خلال التوصيات المنادية بإلغاء أنظمة التصنيف عند قبول الطلاب للمدرسة، وبمنع تسرب الطلاب من مقاعد الدراسة وبسياسة التمويل التفاضلي لصالح طلاب الطبقات الاجتماعية- الاقتصادية الدنيا. فعلاً تستحق تلك التوصيات كل الثناء والتقدير، لكن التقرير يشتمل على توصيات أخرى تُفرِغ مبدأ تكافؤ الفرص من مضمونه وتمنح شرعية للتصنيف وللفصل التربوي داخل الصف وبين التجمعات السكانية المختلفة.

توصي اللجنة بخلق ثلاثة معايير تربوية للطلاب: المستوى الأساسي والمستوى المتوسط والمستوى العالي. ستعمل هذه المعايير على تحديد التحصيل المتوقع من الطالب أثناء العملية الدراسية، لكنها لن تُستعمل لتشكيل "التجميعات". وعندما يستعمل أعضاء اللجنة مصطلح "التجميعات" فإنهم يحاولون تفادي الإيحاء بقيام مجموعات. لكن مهما بلغت البهلوانية اللغوية من مهارة فإنها لا تغير شيئًا من حقيقة وجود ثلاث مجموعات واضحة من التلاميذ يتعلمون بمستويات مختلفة في صف واحد. وبالإضافة إلى هذا التصنيف الصفي، فإن التقرير يسمح بعمليات تصنيف أخرى بين المتفوقين والموهوبين، والموهوبين جدًا، ويسمح بفتح مدارس مميزة فوق مناطقية وقطرية.

ينادي التقرير بمحاربة ظاهرة تسريب الأولاد من مقاعد الدراسة، لكن في الوقت ذاته يضع أنظمة تُسهل عملية التسريب. جميع هذه التوصيات مصحوبة بشغف معدي التقرير باقتراح أنظمة لقياس تحصيل الطلاب ومراقبته. وبحسب ما يقوله دوفرات، ليس هناك مضمون تربوي لا يمكن قياسه وحسابه، ولا ينطبق هذا الكلام فقط على التحصيل الدراسي، بل ينسحب أيضًا على مدى رسوخ القيم في نفوس التلاميذ.

لم تكتف اللجنة بإعطاء الشرعية لإنجاز المسارات والتصنيفات الداخلية، بل منحت شرعية جارفة للفصل التربوي بين التجمعات السكانية وتمثلت هذه الشرعية في التوصية المنادية بإقامة مديريات تربوية مناطقية بدلاً من الألوية التربوية القائمة. هل ستحرص وزارة التربية والتعليم على عدم قيام مديريات التربية المناطقية (والتي ستتشكل من عدد من البلدات بحيث يبلغ تعداد طلابها 15 ألفًا على الأقل) باستغلال البلدات الغنية لأفضليتها الاقتصادية النسبية لكي توفر لطلابها فرصًا تعليمية مفضلة؟ الجواب سلبي. فبحسب ما ورد في التقرير، فإن التواصل بين البلدات سيكون تطوعيًا، أي من الوارد أن تتشكل على سبيل المثال مديرية تربوية مناطقية للبلدات الغنية الثلاث (في الجنوب)- عومر ولهافيم وميتار، وتتشكل مديرية تربوية مناطقية أخرى لتشمل البلدات الفقيرة مثل سديروت وأوفاكيم ونتيفوت. وعليه، فلن يتأخر حلول اليوم الذي ستُضطر فيه محكمة العدل العليا للنظر في السابقة التاريخية المعروفة (Brown vs. The Board Of Education) حيث قررت المحكمة الأميركية أن التفريق التربوي يتناقض مع مبدأ المساواة.

لكن في حين يشجع التقرير التفريق الطبقي والعرقي داخل المجتمع اليهودي، فإنه يسلب حق العرب في إقامة مديرية تربوية مناطقية. ما سُمح به لتيار التربية الرسمية وتيار التربية الرسمية الدينية (حيث يحظى هذا التيار بحسب التقرير بمكانة فوق سيادية وكتيار خارج عن نفوذ وزارة التربية والتعليم) والتيار الحريدي الشرقي والحريدي والأشكنازي، حُرِم منه العرب.

وفي حين يصرح تقرير اللجنة بالالتزام بالتربية العامة، فإنَّ روحه وقسمًا كبيرًا من توصياته تنم عن عداء كل ما يحمل الطابع الجماعي ويقع ضمن مسؤوليات الدولة، وتشجع قيام أنظمة السوق والتنافس ونشوء التسويات التي تؤدي إلى خصخصة جهاز التربية والتعليم.

 

مدارس بإدارة أطراف خارجية

 

إحدى التوصيات التي وردت في التقرير ولم تحظ باهتمام خلال النقاش الجماهيري هي إمكانية قيام مدارس تُدار من قبل أطراف خارجية مخولة بإدارة المدرسة. وبهذه الطريقة تتبنى اللجنة النموذج التعليمي الأميركي المسمى Charter School، حيث تبين مؤخرًا أن مستوى تحصيل الطلاب في المدارس التي تُدار بهذه الطريقة أقل من مستوى تحصيل طلاب المدارس الحكومية. تتمثل تسويات الخصخصة في خلق تنافس بين المدارس من خلال سياسة الانتقاء المضبوط وفي خلق تسويات تسمح باقتناء الخدمات من القطاع الثالث وكذلك في إمكانية تلقي المدارس التي تصنف الطلاب وتسربهم من مقاعد الدراسة تمويلاً حكوميًا بنسبة 50%.

وعلى الرغم من دفع التقرير ضريبة كلامية عن العرفان بمساهمة المعلمين في الجهاز التربوي وعن النية في رفع مكانتهم، إلا أن اللجنة تشير إلى منظمات المعلمين كعدو يجب القضاء عليه. أما ما يدعو به التقرير هذه المنظمات إلى التعاون، فقد جاء بعد إقصاء هذه المنظمات بطريقة مهينة وغير ديمقراطية من عضويتها في اللجنة. يضطر معدو التقرير لا محالة إلى التسليم بحقيقة أن من الواجب الاتفاق الجماعي مع المعلمين، لكن المغزى العملي من توصياتهم هو إفراغ المفاوضات الجماعية مع مندوبي المعلمين من أي مضمون. يفصل تقرير اللجنة سلفًا وبطريقة أحادية الجانب مضمون الاتفاقية الجماعية، حيث يرد في التقرير تفصيل بالتسويات والأنظمة الهادفة إلى إضعاف قوة المعلمين المنظمة.

تحدد التوصيات شروط قبول المعلمين للعمل وظروف عملهم وطرق فصلهم من العمل. يحدد التقرير أيضًا منهج الراتب التفاضلي في المدرسة وتشغيل المعلمين وفق عقود شخصية (بما حجمه 5%) وتخويل مدراء المدارس صلاحية تجنيد المعلمين وفصلهم بإدارتهم. اللجنة التي سيؤدي تطبيق توصياتها إلى فصل آلاف المعلمين والمعلمات تناشد منظمات المعلمين للشروع في حوار مفتوح وصريح معها. وكما يبدو فإن هذا الحوار الصريح والمفتوح قد أتمته اللجنة مع موظفي المالية، حيث صرح أحد كبار هؤلاء الموظفين مؤخرًا أن أحد الإنجازات الرائعة التي حققتها سياسة المالية هو "كسر العمل المنظم"، وممثلو المعلمين مدعوون بهذا للقدوم إلى وزارة المالية للمصادقة والتوقيع.

وفي حين تشيد اللجنة بأهمية القيم الديمقراطية والمشاركة الاجتماعية والتعاون، وإشراك المعلمين والأهالي والطلاب والمجتمع القريب في الحياة التعليمية والتربوية، نجد أن النموذج التربوي المدرسي المقترح من قبل أعضاء اللجنة، والذي يحظى قطاع المال والأعمال بتمثيل زائد فيه، هو نموذج سلطوي عملي. فالمدرسة بموجب ثورة دوفرات هي منظمة هرمية صارمة، يتحكم بها حاكم واحد هو المدير. يتمتع المدير بسلطة كاملة على مجلس إدارة المدرسة. يتحكم المدير بالميزانيات وبقبول العاملين أو فصلهم، ويتحكم أيضًا بالمنهاج التدريسي وبالتقاعد مع أطراف خارجية. يخيل لمن يقرأ التقرير أن الحديث بصدد تحديد أدوار مدراء الشركات التجارية بكامل معنى الكلمة وليس تحديد أدوار مدراء المدارس الذين سيتحملون مسؤولية تطور الطلاب ثقافيًا وحضاريًا وعاطفيًا، ويتحملون المسؤولية عن المؤسسة الملتزمة بالتربية المدنية الديمقراطية.

الجهاز التربوي الإسرائيلي بحاجة حقًا إلى هزة. ليس هناك خلاف جماهيري بشأن الحاجة الملحة إلى بلورة خطة تؤدي إلى تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص ورفع مستوى التحصيل العلمي وتعزيز مكانة المعلم وتوسيع آفاق التلاميذ ورؤيتهم الحضارية وتنمية حسهم ومسؤولياتهم الاجتماعية الديمقراطية، لكننا بالرغم عن موافقتنا على بعض توصيات التقرير، نعتقد أن الحل الشامل الذي يقترحه تقرير دوفرات يفوّت الفرصة التاريخية التي سُنحت له. فتقليص مسؤولية الدولة عن تربية أولادها وخصخصة الجهاز التربوي وجعله عرضة لقوى السوق، وخلق نظام مدرسي سيادي ومركزي، والمس بمكانة المعلمين والمعلمات، وخلق نظم لتصنيف الطلاب- جميع هذه العوامل لا تفضي إلى الثورة التربوية التي ينشدها المجتمع الإسرائيلي. وليس من شأن مثل هذه التوصيات أن تؤدي إلى تعزيز التربية الأهلية العموميّة، بل ستعمل على تسريع انهيارها.

 

(*) الكاتبان محاضران في جامعة "بن غوريون" في بئر السبع

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات