المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
تظاهرة حريدية: "نموت ولا نتجند". (صحف)

لم تصل مسألة تجنيد الشبان الحريديم طلاب المدارس الدينية، على امتداد السنوات العديدة التي شكلت فيها موضع خلاف حاد، سياسي واجتماعي، بين بعض الأوساط العلمانية، من جهة، والمجتمع الحريدي من جهة أخرى، إلى ما وصلت إليه هذه الأيام من احتدام لم يعد يشكل تهديداً لمساومات وتحالفات سياسية، كما في السابق، فحسب، بل أصبح يشكل خطراً ملموساً يحدق بوحدة المجتمع الإسرائيلي ـ اليهودي، تماسكه وتعاضده بعد أن شهدت هذه كلها واحدة من أعلى ذراها في تاريخ دولة إسرائيل عقب السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وحتى الأسابيع الأخيرة، التي تكثف فيها الحديث وتصاعدت حدته بشأن الحاجة الماسة إلى قوى بشرية ترفد صفوف الجيش الإسرائيلي ووحداته المختلفة في ضوء الخسائر البشرية الكبيرة جداً التي تكبدها من بين جنوده وضباطه، بين قتلى ومصابين لم يعودوا قادرين على العودة إلى تأدية الخدمة العسكرية، جراء إصاباتهم الجسدية أو النفسية، وحيال تصاعد احتمالات اندلاع حرب محتملة وشيكة على الحدود الشمالية مع لبنان في ضوء حالة الإرهاق والغضب الشديدين اللذين يسودان بين جنود وضباط الاحتياط. وهو ما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى الإعلان عن عزمها على إجراء تعديل قانوني سريع يقضي بتمديد فترة الخدمة العسكرية في الاحتياط من جهة، وما دفع رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، الجنرال هرتسي هليفي، إلى الإعلان عن حاجة الجيش الفورية إلى بضعة آلاف من المجندين الجدد.  

في هذه الأثناء، تعكف لجنة شؤون الخارجية والأمن التابعة للكنيست على مناقشة مشروع قانون إعفاء الشبان الحريديم من واجب تأدية الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، بغية إعداده للتصويت عليه وإقراره في الهيئة العامة للكنيست بالقراءتين الأخيرتين، الثانية والثالثة، بعد أن كان قد أقرّ بالقراءة الأولى في الكنيست السابق، الـ 24، قبل أن يعتمد هذا، في 30 حزيران 2022، قانوناً لحلّ نفسه والذهاب إلى انتخابات برلمانية عامة في إسرائيل جرت في الأول من تشرين الثاني 2022. وكانت لجنة الخارجية والأمن في الكنيست اللجنة التي بدأت بمناقشة مشروع القانون هذا في الكنيست السابق.

مُطالَبات بعزل غالانت المُعارِض

أصبحت إعادة مشروع القانون إلى هذه اللجنة ممكنة الآن، لاستئناف المناقشات البرلمانية حوله سعياً إلى إقراره نهائياً، بعد أن أقرّت الهيئة العامة للكنيست، يوم 11 حزيران الجاري، تطبيق "مبدأ الاستمرارية" على مشروع القانون بعد إقراره بالقراءة الأولى في الكنيست السابق، الأمر الذي أرسى الأساس القانوني لاستئناف المداولات فيه من النقطة التي توقفت عندها في الكنيست السابق. و"مبدأ الاستمرارية" هذا هو إجراء قانوني منصوص عليه في قانون خاص من العام 1993 هدفه تقصير وتنجيع الإجراءات التشريعية، من خلال منح الكنيست الجديد استكمال تشريع مقترحات قوانين من الكنيست السابق، من النقطة التي وصلت إليها في المسار التشريعي.

 وقد أقر الكنيست تطبيق "مبدأ الاستمرارية" وسط معارضة جميع أعضاء الكنيست من جميع كتل المعارضة (57 عضواً) وتأييد جميع الأعضاء من جميع كتل الائتلاف الحكومي (63 عضواً)، باستثناء وزير الدفاع، يوآف غالانت (الليكود)، الذي كتب فور انتهاء التصويت على حسابه الخاص على منصة X (تويتر سابقاً): "شعب إسرائيل يتوق إلى التوافق. التغييرات القومية الكبيرة يتم تنفيذها بتوافق واسع. محظور علينا إجراء الحسابات الحزبية الصغيرة على ظهر مقاتلي الجيش الإسرائيلي"، مما أثار حملة واسعة وحادة ضده في داخل حزب الليكود وصلت حد مطالبة العديد من وزرائه وأعضاء الكنيست عنه بعزل غالانت عن منصبه فوراً.

من جانبه قال رئيس اللجنة البرلمانية المعنية، عضو الكنيست يولي إدلشتاين (من حزب الليكود)، إنه ينوي إدخال تعديلات على مشروع القانون تشمل، من بين ما تشمله، رفع عدد طلاب المدارس الدينية اليهودية (ييشيفوت) الذين سوف يتم إلزامهم بتأدية لخدمة العسكرية في الجيش، وهو ما تعارضه أحزاب الحريديم معارضة تامة ومطلقة. وأوضح إدلشتاين: "تقف دولة إسرائيل أمام تحديات معقدة ومن واجبنا توفير جميع الشروط اللازمة لها لتحقيق الانتصار. وسيكون الاعتبار المركزي توفير رد حقيقي ودقيق لتلبية احتياجات الجيش الإسرائيلي والاحتياجات الأمنية لدولة إسرائيل، لأن هذه تشكل نقطة تحول تاريخية بالنسبة للدولة ولا خيار آخر أمامنا. نحن جميعاً نحتاج إلى جيش كبير، فعال وقوي ومثل هذا الجيش بحاجة إلينا جميعاً".

أما رئيس المعارضة ورئيس حزب "يوجد مستقبل"، يائير لبيد، فوصف التصويت في الهيئة العامة للكنيست (يوم 11 الجاري) بأنه "إحدى لحظات العار الأكثر حقارةً التي يشهدها الكنيست الإسرائيلي عبر تاريخه كله"! وأضاف: "في أوج يوم قتال ضارٍ آخر في القطاع، تأتي حكومة الضياع وتمرر قانون التهرب والرفض. كل شيء يخضع للحسابات الحزبية ـ الشخصية وتنعدم الأخلاق تماماً".

وقال "المعسكر الرسمي"، الذي أعلن رئيسه بيني غانتس يوم 6 حزيران، أي قبل أيام قليلة من التصويت في الكنيست، انسحاب الحزب من الائتلاف الحكومي وانسحاب وزيريه غانتس وغادي أيزنكوت من "كابينيت قيادة الحرب"، إن "رئيس الحكومة والائتلاف أثبتا أنهما قد عادا إلى يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر. فخلال الحرب، وبينما يدافع جنود الجيش الإسرائيلي عن البيت، يأتي رئيس الحكومة والائتلاف ليكرسا واقع الإعفاء من تأدية الخدمة العسكرية".

وكتب رئيس حزب "إسرائيل بيتنا"، أفيغدور ليبرمان، على حسابه على منصة X: "في ساعة متأخرة من الليل، وبينما يقاتل أفضل أبنائنا وبناتنا في ساحة الحرب، أقدمت حكومة إسرائيل على خطوة أخرى إضافية في الطريق نحو إقرار قانون التهرب من الخدمة والذي يشكل طعنة في الظهر جنود الجيش والاحتياط وبصورة تتعارض مع مصالح الجهاز الأمني واحتياجاته، وكل هذا من أجل ضمان البقاء الحزبي ـ الشخصي".

وقالت منظمة "أخوة السلاح" تعقيباً على التصويت في الكنيست: "كل عضو كنيست صوّت تأييداً لقانون التهرب من تأدية الخدمة العسكرية يحمل وصمة عار جماهيرية مدى حياته. الحكومة التي تعمل بما يتعارض مع مصلحة مواطنيها عليها إعادة التخويل الذي منحها الشعب إياه. في الحياة الإسرائيلية الجديدة ليس ثمة مكان للألاعيب والصفقات السياسية ـ الحزبية على حساب من يتحملون العبء. المساواة في تحمل العبء تعني التجنيد العسكري للجميع".

سباق حكومي ـ كنيستي

لم يكن صدفة، على الإطلاق، توقيت التصويت في الكنيست على "إعادة إحياء" مشروع قانون إعفاء الشبان الحريديم من الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي ودفعه نحو محطة أخرى، تالية، على السكة التشريعية. بل هو توقيت فرضته الظروف السياسية ـ الحزبية، ظروف الائتلاف الحكومي بعد انسحاب "المعسكر الرسمي" بقيادة غانتس، وفي إطار السباق مع المسار القضائي المتوتر في المحكمة العليا الإسرائيلية، التي تنظر في الموضوع بوصفها "محكمة العدل العليا".

ولتوضيح الصورة بتفاصيلها، ينبغي التذكير بأنّ انعقاد الهيئة العامة للكنيست للتصويت على تطبيق "مبدأ الاستمرارية" جاء تحت سيف "الأمر الاحترازي" الذي سلطته المحكمة العليا على رقبة الحكومة يوم 26 شباط الماضي، وذلك في جلسة النظر الأولى في عدد من الالتماسات التي قُدّمت إليها وطالبتها بإلزام الحكومة بتجنيد الشبان الحريديم للجيش وبوقف ضخ الميزانيات الحكومية لتمويل مدارسهم الدينية طالما لم يتجندوا في صفوف الجيش ولم يقر الكنيست قانوناً يقضي بإعفائهم من ذلك، بينما قدّم "اتحاد المدارس الدينية الحريدية" في المقابل التماساً مضاداً طالب المحكمة بالمصادقة على الاعتراف بإعفاء الحريديم من واجب تأدية الخدمة العسكرية "حتى بدون قانون ينص على ذلك". وفي ختام تلك الجلسة، أوضح قضاة المحكمة العليا أنه "ليس هنالك مرجعية قانونية لمواصلة إعفاء شامل لجميع الشبان الحريديم، طالما لم يشرّع الكنيست قانوناً لهذا الغرض". ثم أصدر القضاة أمراً احترازياً أمهل الحكومة لتقديم ردها على الالتماسات حتى نهاية نيسان الماضي، قبل أن تحوّل المحكمة أمرها الاحترازي المؤقت إلى أمر دائم ومطلق يلزم الدولة بتجنيد أبناء المدارس الحريديم في صفوف الجيش بصورة تدريجية، وعلى أن تلتئم المحكمة في الثاني من حزيران بهيئة موسعة من تسعة قضاة للبحث في الالتماسات والاستماع إلى طعون الأطراف.

ثم عادت المحكمة واتخذت يوم 28 آذار قراراً دراماتيكياً تضمن أمراً مباشراً إلى الحكومة بالتوقف الفوري عن دفع أي من الأموال الحكومية لتمويل المدارس الدينية لدى الحريديم، ابتداء من نيسان وحتى البت النهائي في الالتماسات.

في ردّها على الأمر الاحترازي المذكور، أبلغت الحكومة المحكمة العليا بأنها "تتعهد بإتمام عملية سنّ القانون ـ قانون إعفاء الحريديم ـ حتى نهاية الدورة الصيفية للكنيست الحالي، في يوم 31 تموز". وقد جاء ردّ الحكومة هذا إلى المحكمة العليا معارضاً تماماً لموقف المستشارة القانونية للحكومة، غالي بهراف ـ ميارا، التي أعلنت أن "ثمة مانعاً قانونياً يحول دون التقدم في هذا المسار" وأن "مشروع القانون لا يتناسب مع الواقع الراهن ومناقض تماماً لمطالب الجهاز الأمني والجيش منذ بدء الحرب".

في ختام الجلسة المطولة التي عقدتها المحكمة العليا يوم الثاني من حزيران واستمعت فيها إلى طعون ممثلي الأطراف، بمن فيهم المحاميان من القطاع الخاص اللذان مثّلا الحكومة، بدلاً من المستشارة القانونية للحكومة التي رفضت تمثيل الحكومة مؤكدة أن الإجراء يفتقر إلى الأسانيد القانونية، كان واضحاً أن المحكمة قد خطت خطوة إضافية أخرى نحو إصدارها قراراً قضائياً نهائياً وثابتاً يتضمن أمراً يُلزم الحكومة بتجنيد الطلاب الحريديم، إذا لم تنته الحكومة من تشريع قانون يضمن إعفاءهم. وقال محاميا الحكومة في ردّهما إن "الحكومة ترى أن الطريق المثلى لحل هذه القضية المعقدة جماهيرياً هي الدفع بمسار متفق عليه للتجنيد للخدمة العسكرية وللخدمة الوطنية ـ المدنية، من أجل تجنب حدوث شرخ في نسيج الشعب".

ولهذا سارع نتنياهو وائتلافه إلى استئناف محاولات تشريع اقتراح القانون الخاص لإعفاء الشبان الحريديم، قبل أن تضطر المحكمة العليا إلى اتخاذ قرارها القضائي المرجح بشأن الالتماسات، علماً بأن اقتراح القانون المذكور هنا هو ذاته الذي بادر إليه وبلوره بيني غانتس في العام 2021 إبان إشغاله منصب وزير الدفاع في "حكومة التغيير" بقيادة نفتالي بينيت ويائير لبيد. ويقضي هذا الاقتراح بتحديد أهداف تزداد تدريجياً من أعداد الشبان الحريديم الذين سيتم تجنيدهم سنوياً، من 1,973 شاباً في العام 2024 حتى حد أقصى في العام 2036 يبلغ 4,550 شاباً في السنة، بينما هنالك ما يزيد عن 13 ألف شاب حريدي يبلغون سن التجنيد سنوياً.

تعقيباً على خطوة نتنياهو المتعجلة في محاولته تشريع اقتراح القانون إياه، قال غانتس إن نتنياهو "يقوم بهذا بلعبة سياسية ـ حزبية، لأن اقتراح القانون هذا لم يعد ذا صلة بالواقع المستجد في أعقاب السابع من أكتوبر، علماً بأنه لم يكن كافياً وقتذاك أيضاً، وإنما أعدّ لغرض التجسير السياسي ـ الحزبي المؤقت فقط إلى حين التوصل إلى توافق حول مسار مقبول وثابت".

بقي من الضروري التنويه إلى أن المحكمة العليا الإسرائيلية أصدرت في العام 2018 قراراً قضائياً أمر بإلغاء القانون الذي نظم مسألة إعفاء طلاب المدارس الحريدية من الخدمة العسكرية، نظراً لتعارضه مع مبدأ المساواة. ومنذ تلك السنة، أمهلت المحكمة الكنيست والحكومة الإسرائيليين مراراً، بصورة سنوية، لسن قانون بديل إلا إن هذه المهل جميعها انتهت في حزيران 2023. وفي الشهر ذاته، اتخذت الحكومة قراراً يسمح بعدم تجنيد الشبان الحريديم لكنّ مدة سريان القرار انتهت في نهاية آذار 2024. ولهذا، فإن الفرصة الحالية هي بمثابة الأخيرة المتاحة أمام الحكومة وائتلافها البرلماني الحالي ـ بما في ذلك الأحزاب الحريدية ـ لإتمام سنّ هذا القانون الآن قبل أن يكون المسمار الأخير في نعشها.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات