المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
تظاهرة في جامعة هارفارد ضد الاحتلال الإسرائيلي. (أ.ف.ب)

في 8/04/2024 كتبت المحاضرة في جامعة تل أبيب، عنات مطر، رثاءً للأسير الشهيد وليد دقّة على صفحتها في فيسبوك. وسرعان ما حُرّضت الجامعة كي تفصل المحاضِرة، ووصل التحريض من طلاب الجامعة وجامعات أخرى وأساتذة جامعيين، إلى درجة طلب "فحص الشرطة التحقيق مع المحاضِرة"، بالإضافة لمكتوب رسميّ من وزير التربية يوآف كيش، مفاده "توقّع" الوزير أن يستخدم رئيس جامعة تل أبيب جميع سلطاته وأشدّها فعاليّةً، وبأسرع وقت، ضد المحاضِرة. في الواقع، لم تقدم رئاسة الجامعة على فعل شيء، أو استخدام أي إجراء فعّال ضد البروفسور مطر، واكتفت باستنكار المنشور. وأكثر من ذلك، أرسل رئيس الجامعة مكتوباً إلى الوزير آنف الذكر، وأرسله أيضاً إلى طلاب جامعة تل أبيب، تحت عنوان "أوقف التحريض على جامعة تل أبيب". ومفاد المكتوب أن حريّة التعبير عن الرأي في إسرائيل تسمح للمواطنين بالإدلاء بآرائهم حتى لو كانت متعارضة مع رأي الوزير، بالإضافة للتأكيد على أن الأكاديميا الإسرائيلية تعيش في أسوأ أيّامها على المستوى الدولي، وأن المؤسسات الإسرائيلية تصطدم بالمقاطعة على ضوء الحرب في أماكن كثيرة في العالم، وبالتالي يجب الانشغال في مواجهة هذه المسألة، وليس التحريض على المؤسسات الأكاديميّة 'من داخل البيت'، أو الدفع بممارسات تضرها.

يقدّم هذا التقرير مادة حول القسم الأخير في ادّعاء رئيس جامعة تل أبيب، البروفسور أرييل بورات، بيد أن القسم الأول من رسالته، الذي يتعلّق بحريّة التعبير عن الرأي في إسرائيل، لم نجد، للأسف، مادّة حقيقيّة حوله يمكن قياسها على جميع المواطنين في إسرائيل.

حقائق جديدة على ضوء الحرب

بدأ التدهور في العلاقات بين المؤسسات الأكاديميّة في إسرائيل وأوروبا والولايات المتّحدة، مع بدء تطبيق "خطّة الإصلاح القضائي" التي أعلن عنها وزير العدل ياريف ليفين بعد أسبوع من تشكيل الحكومة. في حينه، برّرت المؤسسات الأكاديميّة في أوروبا والولايات المتحدة، إلغاء دعوات جارية أو التوقّف عن دعوة محاضري جامعة وممثّلين عن الجامعات الإسرائيلية إلى مؤتمرات علميّة، أو البرامج المشتركة عموماً بين المؤسسات، بينها تجارب مختبريّة، بانخفاض درجة إسرائيل بين الدول الديمقراطيّة، إذ انخفضت درجة إسرائيل بين الدول الديمقراطيّة بست درجات في العام 2022؛ ولم يكن الإصلاح القضائي العامل الوحيد في هذا، بل الرئيس، إذ أثّرت "حريّة الصحافة" و"الضرر بحريّة التعبير عن الرأي" و"تمثيل الأقليات في البرلمان"، قبل الإعلان عن خطّة الإصلاح القضائي، على تقييم اسرائيل في جدول الدول الديمقراطية العالمي.[1]

والحقيقة، أن الأثر الناتج على ضوء هذه الحقائق يبقى محدوداً، قياساً بما تتعرّض له إسرائيل على ضوء الحرب مع الفلسطينيين 2023-2024، حيث رافق الارتفاع الكمّي داخل العوامل المؤثّرة أعلاه إلى درجات غير مسبوقة، نشوء عوامل جديدة مؤثّرة على نحو حاسم في المكانة العالميّة للمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية. على سبيل المثال، في قياس حريّة الصحافة، شددت الرقابة العسكريّة (وهي مؤسسة لا نظير لها في سائر الدول الديمقراطيّة في العالم) القيود على التقارير والمواد الصحافيّة: نحو 6715 مادّة حُظرت أو عدّلت، من أصل 312 ألف مادة صحافية خضعت للرقابة العسكريّة، في شهري تشرين الأول وكانون الأول من العام الماضي،[2] ونُفّذ قرار الحكومة في 5 أيار هذا العام بإغلاق مكاتب «قناة الجزيرة»،[3] بينما تضرّرت حرية التعبير عن الرأي على نحو جذري في إثر سلسلة تعديلات قانونيّة أو قوانين سنّت على ضوء الحرب.[4] ويشكّل مرافقة هذه الحقائق القضايا المشهورة لإسرائيل في المحاكم الدوليّة (العدل والجنائيّة)، ومظاهرات الطلاب في الجامعات الغربيّة التي تطالب بوقف تمويل المؤسسات الإسرائيلية وقطع العلاقات معها،[5] عوامل جديدة تدفع باتجاه إلقاء مزيد من القيود على المؤسسات والشخصيات الأكاديمية في إسرائيل، تتعلّق بسحب التمويل وإلغاء مختلف أنواع تبادل الخبرات العلمية، وصولاً إلى قطع العلاقات المؤسساتيّة.

في المقابل، ثمّة فارق آخر يمكن تمييزه، يتعلّق برد فعل النخب الإسرائيلية على هذه القيود؛ في الحالة الأولى، ألقت النخب المتضررة اللوم على مسعى نخب سياسيّة إسرائيلية لتغيير المنظومة القضائيّة، بينما في الحالة الأخيرة، صاغت النخب الإسرائيلية، بمجملها دون تمييز بين معسكر سياسي أو مجال تخصص، خطاباً تفسيرياً واحداً، تستخدم بواسطته مصطلح "معاداة الساميّة/ إسرائيل/ الصهيونيّة/ اليهوديّة"؛ وفي أفضل الأحوال، ادّعت المؤسسات الإسرائيلية أن هذه القيود، أداة المقاطعة العالميّة في سياق المؤسسات الأكاديميّة، تقوّض القيم الديمقراطية والليبرالية، وسيادة القانون، والموقف من 'الحل العادل للصراع' في إسرائيل،[6] وبالتالي طلبت، على سبيل المثال، لجنة الجامعات في إسرائيل من نظيرتها في إسبانيا التريّث وإعادة التفكير بنيّتها قطع العلاقات بين المؤسسات الأكاديمية، دون أن تبدي اكتراثا جدّيا بمحتوى الادعاءات المقدّمة ضدّها. وتخاف النخب هذه من استنساخ هذا الموقف إلى دولٍ أوروبيّة أخرى. وفي ندوة عبر تطبيق زوم، بادر إليها "المجمع الوطني الإسرائيلي للعلوم والآداب"[7]، ومؤسسات أخرى، يمكن تمييز إجماع تام بين النخب العلميّة على أن ما تتعرّض له إسرائيل في هذا السياق، يمكن اختصاره ضمن "معاداة السامية/ إسرائيل/ الصهيونيّة/ اليهوديّة"، دون تدقيق في محتوى "المعاداة". بهذا الأسلوب، تحوّلت النخب الإسرائيليّة من استخدام وصف "قيود" في الحالة الأولى، إلى مصطلح "المقاطعة" في الحالة الراهنة.

وعلى المستوى الضيّق، فقد أثّرت الحرب على نحو مباشر في الأكاديميا الإسرائيلية، إثر استدعاء 55 ألف طالب جامعي لجيش الاحتياط على ضوء الحرب، 18% من مجمل الطلاب، مقابل نحو 3000 عضو طاقم تعليمي وإداري في الجامعات الإسرائيلية،[8] وتقليص الفصل التعليمي الجامعي إلى 11 أسبوعاً بدلاً من 13، بالإضافة لتأجيل العام الدراسي الجامعي لنحو شهرين ونصف الشهر.

إغلاق الباب وسحب التمويل

أجرى مركز "الأكاديميا الشابّة في إسرائيل" مطلع هذا العام استطلاعاً،[9] استجوب فيه 1015 أستاذاً جامعياً إسرائيلياً- يهودياً، من مختلف الجامعات الإسرائيلية، ومن مختلف الكليّات ومجالات التخصص العلميّة. يشير الاستطلاع إلى أن 32% من المستطلعين قد ألغيت دعوات جارية لهم خارج البلاد، وأن "علاقاتهم الدوليّة قد تأثّرت" على نحو بالغ (عالية أو عالية جداً بحسب الاستطلاع)، بالإضافة لنضوب القدرة على اجتذاب طلاب دوليين، حيث أفاد 41% من المستطلعين بتضرر توظيف هذه النوعيّة من الطلاب لديهم، بينما بلغت نسبة الباحثين الذين يعتقدون أن أوراقهم البحثيّة ترفض في مؤتمرات علمية دوليّة على ضوء الحرب، نحو 26%. وظهرت النسبة الأعلى في الاستطلاع في الاتجاه المعاكِس: عدم حضور الباحثين من خارج إسرائيل إلى داخل هذه المؤسسات، كما أبلغ 64% من الباحثين عن زملائهم الدوليين. ويبقى المعطى الأكثر تأثيراً هو إبلاغ 15% من المستطلعين بالضرر اللاحق في قدرات مؤسساتهم على الحصول على تمويل ماليّ من خارج إسرائيل.

ومن دون الإشارة إلى الباحثين الذين "حافظوا على استقراريّة نسبيّة، بينما زملاؤهم قد تضرروا"، ما يفيد بارتفاع هذه النسب أثناء إجراء الاستطلاع، حيث يصعب الاستفادة على نحو دقيق من هذا الجانب، يمكننا القول إن القلق الرئيس الذي يعتري المشرفين على الاستطلاع، كامن في الاحتمالات العالية مستقبلاً بتطوّر النِسب أعلاه على نحو متطرّف، ما ينذر بوضعيّة غير مسبوقة قد تسقط إليها الأكاديميا الإسرائيلية في الساحة الدوليّة.

في ذات السياق، أجرت صحيفة هآرتس مقابلات مع 60 باحثاً إسرائيلياً، يجمعون على اختلاف التجارب التي مرّوا بها: إلغاء دعوة لمؤتمر علمي، إلغاء عضويّة في مؤسسة غربية، إبطال تبادل الخبرات العلميّة، شطب مقالات علميّة منشورة، أو رفض النشر أصلاً، رفض الإشراف على دراسات عليا لطلاب إسرائيليين، التظاهر ضد الباحث حال حضوره، وغيرها الكثير؛ يجمعون على أن ما تتعرّض له إسرائيل من مقاطعة أكاديميّة غير مسبوق، في انتشاره الأفقي وشدّة الموقف وعمقه، بينما الأكثر إثارة للقلق لديهم أن "إسرائيل ما زالت في بداية الطريق، والأسوأ كامن في المستقبل". ووقعت الأحداث التي يروونها في النرويج، بريطانيا، إيطاليا، أيرلندا، بلجيكا، الولايات المتّحدة، الدنمارك، كندا، تركيا، إسبانيا، أستراليا، أو ضمن اتّحاد دولي للباحثين، أو اتحاد للباحثين يتبادل العلاقات مع الاتحاد الأوروبي.

لكن أكثر ما يدفع إلى الانتباه في التقرير، هو ظهور تطوّر جديد في مسار المقاطعة، مع تبنّي مؤسسات لهذا الخيار وليس، كما أغلب الحالات أعلاه، اقتصاره على أفراد، حيث "فعلاً، أعلنت جامعات ومؤسسات أكاديمية في بلجيكا وإسبانيا وإيطاليا والنرويج في الأشهر الأخيرة عن مقاطعة كاملة أو تعليق العلاقات مع المؤسسات الإسرائيلية"، كما يقول رئيس جامعة تل أبيب.

بحسب الصحيفة (هآرتس)، في معرض الرفض والمقاطعة والحظر، يقول الباحثون في المؤسسات الغربيّة إنهم لا يستطيعون التعاون مع دولة ترتكب إبادة جماعيّة، وتمارس جرائم حرب؛ وأنّ ثمّة آلافاً من الباحثين وأساتذة جامعيين قد وقّعوا على وثيقة تعهّد بـ "لا-تعاون أكاديمي" مع المؤسسات الإسرائيلية، وأكثر من ذلك، لا يريد الباحثون الاشتراك في بحث يرتبط بباحث إسرائيلي بأي سياق. بينما تقول المؤسسات التي تحاول الوقوف في مساحة رماديّة، إنها لا تستطيع تجاهل رفض الطلاب في الحرم الجامعي حضور باحث إسرائيلي في حرم الجامعة، وبالتالي فإن إبطال الزيارة هو الخيار الأمثل.[10]

في هذا السياق، يدّعي المختص في القانون الدولي، عميحاي كوهن، أن الضرر اللاحق بسمعة إسرائيل الدوليّة، إثر تعيين قادة إسرائيل كمجرمي حرب بحسب المحكمة الجنائيّة الدولية، حتماً سيلقي بظلاله على "المجال الأكاديمي"، لينضم إلى موجة قلق تعتري أهل الاختصاص في إسرائيل على مستقبل الدولة في هذا المجال. يقول كوهن، بعد تعداد المجالات المختلفة (منها صادرات السلاح) التي تتعرّض للضرر، أن جامعات في هولندا وبلجيكا بدأت بخطوات قطع العلاقات مع المؤسسات الأكاديميّة، عبر التقليل من دعوة الباحثين الإسرائيليين على نحو لافت إلى المؤتمرات العلميّة.[11] ولا يختلف عنه رئيس جامعة حيفا، البروفيسور رون روبين، مشيراً إلى ارتباك كبير في العلاقات مع الجامعات المركزيّة في الولايات المتّحدة، بيد أن مستقبل هذه العلاقات، بحسب روبين، يشي بمزيد من فقدان التوازن.[12] إضافةً لهذا، يسقط المحامي روعي شيندروف الأسلوب ذاته على مجال التكنولوجيا في إسرائيل برمّته، مشيراً إلى أن إسرائيل قطعت الخطوات الأولى للسير على طريق التحوّل من "أمّة الستارتاب" إلى "الدولة المجرمة". بالنسبة للأخير، يشمل الضرر الشركات الخاصة، والشركات الدوليّة، والشركات الحكوميّة و"العالم الأكاديمي"، في سحب الاستثمارات مستقبلاً، وبالتالي تعزيز المقاطعة العالميّة لإسرائيل، إذ تلتزم هذه الشركات باتفاقيات تحمي "حقوق الإنسان". ولا يقف قلق القانونيين في إسرائيل عند هذا الحد؛ في الحرب عموماً، بغض النظر عن حقوق الإنسان، فإن المناطق الخطرة، تلك التي تقع ضمن نطاق استهداف الصواريخ في "شمال البلاد وجنوبها" لا يمكن للشركات أن تبني مصانع فيها.[13]

يبدو لافتاً على نحو مثير، القلق الإسرائيلي الناتج عن انتشار "المقاطعة الأكاديمية العالمية" على مختلف الدول في العالم، وبالتالي تعزيز العزلة الدولية التي تتعرّض لها إسرائيل. ليئور ديطال، معد التقارير في المجال التربوي في صحيفة ذي ماركر، يرى أن هذه العزلة غير منظّمة وتجري دون تنسيق بين المؤسسات في العالم. في المقابل، لا تخفِ النخب الإسرائيليّة خوفها من تنظيم خيار المقاطعة واشتداد عزلة إسرائيل دولياً، لتشكّل المؤسسات التعليمية في إسبانيا نموذجاً في هذا السياق.

وفي شيء من التراتب المنطقي، يربط رئيس معهد أبحاث الأمن القومي: العلاقات الدوليّة هي شريان حياة الأكاديمية الإسرائيلية، والأخيرة هي شريان الحياة للصناعات المتطوّرة والصناعات الأمنيّة. حال تعرّض الأولى لضربة، فإن السلسلة هذه ستتلقى ضرراً غير مسبوق. ويذهب رئيس معهد التخنيون أبعد من ذلك، مشيراً إلى أن البحث العلمي الإسرائيلي والدراسات العليا "يرتكزان على العلاقات الدولية، وتبادل الخبرات الأكاديميّة مع المؤسسات والباحثين الأجانب". هكذا، فإن الضرر اللاحق بمجمل الاقتصاد الإسرائيلي على ضوء العزلة الدولية، التي باتت معطى حقيقياً بالنسبة للأخير، تصعب السيطرة عليه أو تعويضه، ما يجر وراءه منع التطور وسوء الجودة للبحث العلمي الإسرائيلي وبالتالي للحياة المهنيّة للباحثين في إسرائيل.

في هذا السياق، كما أسلفنا، فإن العامل الأكثر تأثيراً هو سحب الاستثمار أو توقّفه، في الشركات والبحث العلمي الإسرائيلي. وفي حين أن التجارة الخارجيّة في إسرائيل تشكّل 61% من الناتج المحلي الإجمالي، ويقف الاستثمار الأجنبي على نسبة 4%، وهو أعلى بكثير من متوسط المعدل بالنسبة لأعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بحسب صحيفة العربي الجديد،[14] باع مستثمرون أجانب أسهماً وسندات إسرائيلية خلال الأشهر السبعة الأولى للحرب الراهنة بقيمة 6 مليارات دولار، وأشارت البيانات الصادرة عن بورصة تل أبيب، وفق موقع كالكاليست الاسرائيلي، إلى أن مؤشر وزن الاستثمار الأجنبي في سوق الأسهم المحليّة يسجّل هبوطاً مستمراً ومتصاعداً؛ في سوق الطاقة المحلّية ذات الطابع الدولي، على سبيل المثال، علّقت شركة BD البريطانيّة وADNOC الإماراتيّة 14.1 مليار شيكل استثمارات،[15] يضاف إلى هذه المعطيات الضغوط المتزايدة على صندوق التقاعد النرويجي، أحد أكبر صناديق الثروة في العالم، من أجل سحب استثماراته البالغة نحو 1.8 مليار دولار من 76 شركة إسرائيلية، أبرزها بنوك ومنها شركات أدوية تعتمد على البحث المختبريّ أو شركات تختص في مجال الطاقة الصديقة للبيئة، أو شركات "تكنولوجيا متطوّرة" و"شركات ذكاء اصطناعي"،[16] في حين أعلن الصندوق عن إعادة فحص العلاقات مع الشركات (إسرائيلية وغير إسرائيلية) المتورّطة بالحرب على غزة، وبالتالي خرقت القانون الدولي و"القيم الأخلاقيّة التي يلتزم بها الصندوق"، نهاية شهر آذار الماضي؛ بحسب موقع غلوبس الإسرائيلي. موازاةً لهذا، أعلن وزير المالية الأيرلندي مايكل ماكغراث مطلع نيسان الماضي عن سحب استثمارات صندوق الاستثمار الاستراتيجي  (3.2 مليون دولار) من شركات وبنوك إسرائيلية.

إن أكثر ما يخيف الاقتصاد الإسرائيلي في سياق موضوعنا هو استحالة نجاة الأكاديميا وسوق التكنولوجيا المتطوّرة في إسرائيل في حال تمدد سحب الاستثمارات من إسرائيل، وممارستها على نحو فعّال أكثر؛ على سبيل المثال، تعتمد 72% من الشركات الإسرائيلية الناشئة في مجال التقنيات العالية على الاستثمار من خارج إسرائيل.[17]

هجرة باحثين

داخل إسرائيل، ثمّة ضرر بالغ لاحق في البحث العلمي الإسرائيلي، يتعلّق بالباحثين الإسرائيليين أنفسهم. يتكوّن هذا المعطى من عنصرين أساسيين، الأول هو بقاء الباحثين الإسرائيليين خارج إسرائيل. بالنسبة لهؤلاء، شكّلت حرب "السيوف الحديديّة" دافعاً يعزز هذا الموقف لديهم، والذي تبلور مع إعلان "خطّة الإصلاح القضائي" أعلاه. بحسب مؤسسة ScienceAbroad، يشكّل هؤلاء نسبة 53% من الباحثين لديها الذين أبدوا نيّة البقاء في الخارج قبل الحرب،[18] بينما بحسب موقع واينت فإن النسبة تصل إلى 72%. وينطوي العنصر الثاني على خروج فئات من الباحثين من إسرائيل على ضوء الحرب، حيث يشير أكثر من ربع (27%) من المستطلعين أعلاه إلى تضرر عملهم البحثي بسبب خروج زملائهم في طاقم البحث إلى خارج البلاد.

        والحقيقة، أن الهجرة المعاكسة موازاةً لنضوب "الصاعدين الجدد"، باتت أمراً لا يمكن استمرار تجاهله في إسرائيل على ضوء "الوضع الأمني"، وحتّى مجمل المسافرين إلى إسرائيل تحت صيغة "العمال الأجانب" على سبيل المثال، لم يتعدّوا 7000 عامل بحسب أكثر التقارير مبالغةً. في سياق الأكاديميا، تنذر المعطيات، إذا ما استمرّت الحرب، بضرر حقيقي يصعب توقّع تداعياته في المنظور القريب، تحديداً في ظل غياب استراتيجية حكوميّة في هذا السياق، كما تفيد صحيفة ذي ماركر، لاستيعاب الباحثين الإسرائيليين في الخارج.[19] في حين قدّمت الحكومة نهاية شهر أيار من هذا العام، خطّة يتيمة (ومتواضعة) لاجتذاب 150 باحثاً على امتداد سبع سنوات.[20] وتلخّص هذا الجانب مديرة مؤسسة ScienceAbroad البروفسور ريفكا كرمي، بعدم نشوء تيّار داخل الباحثين الإسرائيليين في الخارج يريد العودة إلى إسرائيل، بسبب الأوضاع الأمنيّة في الدولة، وبسبب المقاطعة العالمية الأكاديميّة لإسرائيل؛ يلحق هذا بنضوب الاستثمار الأجنبي، ما يدفع بهم إلى تفضيل دول أخرى (أوروبا تحديداً) على إسرائيل.[21]

إجمال      

ما زال من المبكّر الحسم في تحديد مدى الضرر اللاحق بالمستوى الأكاديمي في إسرائيل على ضوء خيار المقاطعة، حيث ما زالت الأغلبيّة الساحقة من الجامعات والدول لم تتبنّ هذا الخيار، في مقابل تبنّيه الواسع عبر أفراد بعينهم. لكن يمكن القول إن الضرر قد وقع بالفعل، ولا يجوز الاستهانة به بأي حال من الأحوال، بينما لا ينذر أهل الاختصاص في إسرائيل إلا بأمر واحد: المزيد من اتّساع الضرر، تحديداً في ظل تدهور سمعة إسرائيل الدوليّة، مع استمرار الحرب في غزة من دون قدرة الجيش الإسرائيلي على الحسم أمام الحركات الفلسطينيّة المسَلحة، وبالتالي استمراره في ارتكاب المجازر بحق الشعب الفلسطيني.       

   

[1] إيكونوميست وهآرتس، "مؤشر "الإيكونوميست" للديمقراطية للعام 2022: إسرائيل في تراجع وتبقى "ديمقراطية معتلّة"، هآرتس، 02/02/2023، شوهد في 06/06/2024، في: https://www.haaretz.co.il/news/world/2023-02-02/ty-article/.highlight/00000186-1174-d840-a78e-7bfc87ab0000

أنظر أيضاً: ميخائيل هاوزر طوف، "إسرائيل فقدت تصنيفها كدولة ديمقراطية ليبرالية في مؤشر رائد لتقييم الديمقراطيات"، هآرتس، 20/03/2024، شوهد في 06/06/2024، في:

https://www.haaretz.co.il/news/politi/2024-03-20/ty-article/.premium/0000018e-5aa2-d9a8-a5ae-feef7a390000

[2] إلعاد مِن، "جرائم الرقابة العسكريّة"، العين السابعة، 06/12/2023، شوهد في 09/06/2024 (بالعبريّة): https://www.the7eye.org.il/504739

أنظر أيضاً:

Haggai Matar, +972 Magazine, 20/05/2024, accessed on 06/06/2024, at:

 https://www.972mag.com/israeli-military-censor-media-2023/

[3]  عرب 48، "وقف بث قناة الجزيرة في إسرائيل"، 05/05/2024، شوهد في 05/06/2024، في:

https://bit.ly/4aQJRo4

[4] أحمد أمارة، "الفلسطينيون في إسرائيل: حكم عسكري غير معلن"، تقرير مدار الاستراتيجي 2024: المشهد الإسرائيلي 2023، صـ 176. انظر أيضاً: عوفر ليفات، عرض وتحليل لقوانين الطوارئ التي مررتها الحكومة الإسرائيلية في الفترة الأخيرة وتنتهك حقوق الإنسان والفرد، ترجمة هشام نفاع، مركز مدار- المشهد الإسرائيلي، 13/05/2024، شوهد في 06/06/2024، في:

https://bit.ly/3RkYEAw

[5] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، "الاحتجاجات الطلابية الجامعية الأميركية: خلفياتها وتداعياتها وآفاقها"، تقدير موقف، 12/05/2024، شوهد في 06/06/2024، في:

https://www.dohainstitute.org/ar/PoliticalStudies/Pages/us-campus-protest-movement-background-and-implications.aspx

[6] شيره قادري-عوفاديا، "رؤساء الجامعات في رسالة إلى عمداء الجامعات في إسبانيا: المقاطعة الأكاديمية سوف تضعف الليبرالية في إسرائيل"، هآرتس، 21/05/2024، شوهد في 06/06/2024، في:

https://www.haaretz.co.il/news/education/2024-05-21/ty-article/.premium/0000018f-9b60-d35f-a1df-dfe9f24f0000

[7] المجمع الوطني الإسرائيلي للعلوم والآداب، ندوة "أكاديمية في الحرب: التقاء الباحثين مع رؤساء المؤسسات الأكاديميّة"، (تسجيل تطبيق زوم)، 21/11/2023، شوهد في 09/06/2023، في:

https://www.academy.ac.il/news/newsitem.aspx?nodeid=658&id=2722

[8] شيره قادري-عوفاديا، السنة التعليميّة الأكاديميّة تفتتح أبوابها غداً من دون جنود الاحتياط، هآرتس، 30/12/2023، شوهد في 06/06/2024، في: 

https://www.haaretz.co.il/news/education/2023-12-30/ty-article/0000018c-bbbe-db94-afbd-bbff07e80000

[9] الأكاديميا الشابة الإسرائيلية، "استطلاع هيئة التدريس في الجامعات: التأقلم في الساحة الأكاديميّة العالميّة في زمن الحرب"، 28/01/2024، شوهد في 05/06/2024، في:

https://young.academy.ac.il/SystemFiles/Academic%20staff%20survey%2022%20Jan_%202024_.pdf

أنظر أيضاً: ليئور ديطال، أكثر من نصف الباحثين في الأكاديميا يبلغون عن ضرر في تبادل الخبرات على المستوى الدولي، صحيفة ذي ماركر (الموقع الإلكتروني)، 30/02/2024، شوهد في 05/06/2024، في:

https://www.themarker.com/news/education/2024-01-30/ty-article/.premium/0000018d-5ab8-d6b0-adcd-7ebae0020000

[10] أور كشتي، "ليس هذا الزمن المناسب لدعوة محاضرين من إسرائيل": في الأكاديميا يواجهون مقاطعة غير مسبوقة، هآرتس، 11/04/2024، شوهد في 10/06/2024، في:

https://www.haaretz.co.il/magazine/2024-04-11/ty-article-magazine/.highlight/0000018e-c768-dfe9-a19f-f76d8bea0000

[11] نيتسان شفير، "في نفس الدرجة مع روسيا والسودان: التداعيات الاقتصاديّة في إسرائيل حال صدور أوامر اعتقال"، موقع غلوبس، 21/05/2024، شوهد في 09/06/2024، في:

https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001479245

[12] ليئور ديطال، "اشتداد المقاطعة الأكاديميّة ستضر في البحث والاقتصاد، لكن من دون برنامج عمل حكومي"، صحيفة ذي ماركر (الموقع الإلكتروني)، 29/04/2024، شوهد في 09/06/2024، في: https://www.themarker.com/news/education/2024-04-29/ty-article/.premium/0000018f-2ac7-d502-a5bf-eae7fa6b0000

[13] مصدر سابق.

[14] العربي الجديد، "إسرائيل منبوذة اقتصادياً: قلق من سحب الصندوق النرويجي استثماراته"، 28/05/2028، شوهد في 10/06/2024، في:

https://bit.ly/3RocemK

[15] كالكاليست، هكذا ضربت الحرب سوق الطاقة المحلّية، 24/03/2024، شوهد في 10/06/2024، في:

https://www.calcalist.co.il/local_news/article/sk4d21rc6

[16] أساف أون، "كشف استثمار صندوق الثروة النرويجي. من بقي بالخارج؟"، موقع غلوبس، 16/02/2024، شوهد في 09/06/2024، في:

https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001438545

[17] مصدر سابق

[18] مصدر سابق.

[19] مصدر سابق.

[20] ليئور ديطال، 730 مليون شيكل في سبع سنوات: الموافقة على خطّة استعادة الباحثين الإسرائيليين من الخارج، صحيفة ذي ماركر، 26/05/2024، شوهد في 10/06/2024، في:

https://www.themarker.com/news/education/2024-05-26/ty-article/.premium/0000018f-b5b6-d390-ab8f-f5bee80a0000

[21] مصدر سابق.

المصطلحات المستخدمة:

يوآف كيش, هآرتس, التخنيون

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات