المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • المشهد الاقتصادي
  • 2723

سألني أحد رجال الأعمال: "لماذا لم تقل لي إنك أصبحت اشتراكيا؟". وكان سؤاله على خلفية نشري مقالا متحمسا إلى درجة تثير الشبهات، عن بيرني ساندرس، الذي ينافس في الحزب الديمقراطي، على منصب مرشح الحزب للرئاسة الأميركية.

وقد أجبته "كلا، أنا لست اشتراكيا، وأيضا لست واثقا أيضا من أن بيرني ساندرس هو اشتراكي، ولكن إذا أردت أن تدعوني هكذا، بسبب حماستي له، فهذا من ناحيتي سيكون على ما يرام".

قسم كبير من الجدل الاقتصادي في إسرائيل، كما هو في الولايات المتحدة الأميركية، يتم قولبته بسرعة، ضمن خانات معروفة: اشتراكية، رأسمالية، نيو ليبرالية، أو شيوعية. وحينما يكون هناك اقتصادي أو رجل أعمال أو صحافي ذو توجهات يمينية، فإن الادعاءات تتوقف، ليسحب سلاح يوم الحسم، ويتهم محاوره بأنه "شيوعي"، وفورا يضيف عبارة: "لقد رأينا كيف هذا انتهى".

كذلك فإن ذوي التوجهات اليسارية يتبعون في أحيان كثيرة استراتيجية مشابهة، فحينما لا يكون لديهم تفسير جيد، يوجهون لمحاوريهم أوصافا مثيل: "نيو ليبرالية: و"رأسمالية خنازيزية". إلا أن الواقع الاقتصادي معقد أكثر بطبيعة الحال، فلدى أصحاب التوجهات اليمينية، وأصحاب التوجهات اليسارية، ثغرات كثيرة، وعلامات سؤال على وجهات نظرهم، مهما كانت مثيرة للحماسة أو تبدو أنها ضرورية.

والخلاف الأساس بين اليمين واليسار في المجال الاقتصادي يتركز في مسألة: بمن يثقون، هل بالحكومة أم بالسوق؟. إذ يرى اليمين أن الحكومة هي جذر غالبية المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، في حين يرى اليسار أن السوق وثقافة الاستهلاك هما مصدر غالبية أمراض الاقتصاد والمجتمع. ومن المتبع القول إن الحقيقة تكمن في الوسط، ولكن في الموضوع الذي نطرحه للنقاش، فهذا ليس صحيحا بمدى كبير، فالحقيقة لربما تكمن في نقطة ما، ولكن ما يميزها أنها صحيحة في وقت ما، ولمرحلة ما، وبالأساس للوضعية التي يجري الحديث عنها، وهذا ما يقودنا إلى بيرني ساندرس.

فالاقتصاد المبني على المبادرة الفردية ليس بإمكانه الازدهار لفترة طويلة، من دون أن تقدم الحكومة الخدمات الاجتماعية، وشبكات الأمان الاجتماعي، وأن تفرض أصول لعبة واضحة، يتم فرضها دون لف أو دوران. وفهم اقتصاديون ليبراليون كثيرون أن للحكومة دورا حاسما في تزويد الخدمات الاجتماعية المناسبة، ودعوا الحكومة بشكل دائم إلى تقليص حالة اللا مساواة. وفي المقابل، فإن كبارا من ذوي التوجهات الاشتراكية، لن يتنازلوا عادة عن المبادرة الفردية. ففي خطاب ساندرس الشهير في الكونغرس الأميركي في العام 2010، الذي استمر على مدى ثماني ساعات ونصف الساعة، قال: "حينما تكون أربع شركات مسيطرة على سوق القروض الإسكانية، وعلى ثلثي بطاقات الاعتماد، فإن هذا لا يعد سوقا حرة، بل هذا تركيز ضخم، يكون فيه عدد قليل جدا من الأشخاص مسيطرين بالقوة الضخمة على الاقتصاد وعلى الحياة السياسية".

إذن على الرغم من هذا، لماذا يتجه ساندرس يسارا، ويطالب بتدخل حكومي أكبر بالاقتصاد؟. الجواب يكمن في العامل الزمني. فالولايات المتحدة مثل الكثير من الدول المتطورة أو في طريق التطور، تمر في العقود الأخيرة في مسار سيطرة الطغمة المالية، ونحو النظام غير الديمقراطي الواقع تحت سيطرة المال "بلوتوس كراتوس" وفقط الخبيث أو الأحمق من لا يرى هذا.

غالبية أصحاب المليارات والأثرياء المسيطرين على الحكم (بلوتوس كراتوس)، يعترفون بهذا الواقع في المحادثات المغلقة، ومنهم من يجاهر أيضا أمام الرأي العام. فقد قال عضو الحزب الديمقراطي وورن بافت في مقابلة لصحيفة "ذي ماركر"، إن الولايات المتحدة تتجه نحو الـ "بلوتوس كراتوس"، بينما قال الملياردير الجمهوري بيل غروس، إن الحكومة الأميركية عالقة بيد 1% من الجمهور. فإن كنتم مؤمنين بقوة السوق، وبأعاجيب الرأسمالية، أو مؤيدين للحكومات الكبيرة (بقصد المسيطرة على القطاع العام)، عليكم وقف عملية التوجه نحو نظام "بلوتوس كارتوس".

وساندرس هو السياسي الوحيد الذي وصل في العقدين الأخيرين إلى المناصب الشعبية المنتخبة في الولايات المتحدة الأميركية، دون أن يكون قد نشأ في دوائر المال الضخمة، ولدى أصحاب المصالح الكبيرة. ومن أصابه الذهول من خطابه "الاشتراكي"، أضاع على نفسه رؤية صورته الشاملة. فالاعتقاد السائد والراسخ في المجتمع الأميركي هو المؤيد للمبادرة الفردية، ولتدخل حكومي أقل في الحياة الاقتصادية، وساندرس لا يشكل تهديدا لهذا التوجه. كما أن إصرار ساندرس على رفع الضرائب في السوق الأميركية لا يشكل تهديدا، لأن اقتصاديين يمينيين كبارا يعترفون أن الجهاز الضريبي الأميركي يخدم أصحاب مصالح كبرى، وليس الاقتصاد الوطني.

وماذا عن إسرائيل؟ هل نحن بحاجة إلى بيرني ساندرس؟. نحن بحاجة إلى بيرني ساندرس مختلف قليلا، لأنه في إسرائيل، بخلاف عن الولايات المتحدة الأميركية، مراكز القوة مختلفة، ولأن القوة السياسية لدينا تعطي قوة مساوية للمجموعات الاقتصادية في القطاع العام، وتلك التي في القطاع الخاص. ففي إسرائيل لدينا ما أسميناه في حينه: "مسار نوحي دانكنر- عوفر عيني" (الثري دانكنر ومن كان رئيسا لاتحاد النقابات عوفر عيني). واليوم لدينا مسار "يتسحاق تشوفا (الثري)- ونيسانكورن (النقابات) ووزارة الدفاع".

وليس صدفة أن الوظيفة التي حصل عليها رئيس اتحاد النقابات العامة السابق عوفر عيني كان في احتكار الغاز الذي يملكه يتسحاق تشوفا، وشريكه رئيس اتحاد الصناعيين شرغا بروش. ففي إسرائيل يوجد تحالف استراتيجي بين الاحتكارات في القطاع الخاص واحتكارات القطاع العام.

ولهذا فإن إسرائيل بحاجة إلى سياسي قادر على أن يهجم ليس فقط على الاحتكارات في القطاع الاقتصادي الخاص، ويعزز شبكات الأمان الاجتماعي مثل ساندرس، بل أيضا يهاجم التبذير والفساد في ميزانية وزارة الدفاع، وفي المجالس البلدية والقروية، وفي الاحتكارات الحكومية، ويقود انقلابا في السوق وفي سوق العمل.

إننا بحاجة إلى نقابات قوية جديدة لا تخدم شريحة ضئيلة، ثرية وفاسدة، وإنما تخدم كافة العاملين. إننا بحاجة إلى ساندرس إسرائيلي ليس على علاقة بمراكز القوة والمال، لا في القطاع العام ولا في القطاع الخاص. أو كما قال أحد المؤيدين الكبار لساندرس، الاقتصادي البروفسور روبرت رايخ: إن السؤال المطروح منذ زمن طويل ليس مدى سيطرة الحكومة على الاقتصاد وإنما من تخدم؟.

المصطلحات المستخدمة:

دورا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات