بدأ المشروع الصهيوني في فلسطين على شكل هجرات استيطانية متتابعة، بلغت ذروتها في فترة الانتداب البريطاني الذي فُرض - حسب نص صك الانتداب العام 1922 - لتنفيذ وعد بلفور (1917) لصالح إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، عبر جعل "الدولة المنتدبة مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي"، ومن ضمن سياساته تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، وقمع أي محاولات احتجاج فلسطينية على توسع الاستيطان وتعزيز قدرات الحركة الصهيونية من أجل تسلم فلسطين بعد انتهاء الانتداب.
أعادت حادثة جبل الجرمق الأخيرة التي أسفرت عن مقتل 45 إسرائيلياً من التيار الحريدي الأنظار إلى ظاهرة "لجان التحقيق الرسمية" في إسرائيل. إذ تصاعد خلال الحادثة، وأكثر بشكلٍ لاحق، الخطاب الإسرائيلي الرسمي والمجتمعي الداعي لتشكيل لجنة تقصّي حقائق حول ما جرى، وهو ما يُصطلح عليه إسرائيلياً "لجان التحقيق الرسمية"، وهي ظاهرة نجد لها امتداداً عبر تاريخ التشكّل الدولاني للمنظومة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية في فلسطين منذ مطلع القرن الماضي، وبالذات منذ العام 1948 الذي شهد ذروة هذا التشكّل، ممثلاً بالإعلان الرسمي عن ذلك، والاعتراف الدولي الذي تبعه، وما رافق هذا الإعلان من مجازر ارتكبتها العصابات الصهيونية، المنظّمة والمسيّسة، بحقّ أبناء الشعب الفلسطيني، تسبّبت بخراب الحقل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للفلسطينيين المُمتدّ على كافة الصُعد.
"المجتمع الأميركي يتغيّر، يمكنكم ملاحظة ذلك (..) أستطيع تأكيد ذلك بنفسي، فقبل عشرة أو خمسة عشر عاماً، إذا كنت سألقي محاضرة في أي جامعة عن فلسطين وإسرائيل، كان يجب أن أحظى بتأمين من الشرطة. هذا تغيّر تماماً الآن، وهو تغير مهم جداً. أعتقد أن هذا التطور سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى تغيّر ملموس في السياسة الخارجيّة الأميركيّة" (نعوم تشومسكي، مقابلة على قناة "ديموقراطيّة الآن"، نيسان 2019)
سجلت الأيام الأخيرة صعوداً في نشاط الحركات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة لتغيير "الوضع القائم" في القدس المحتلة مستمدة التشجيع من نشاط القوات الأمنية ضد أهالي المدينة. وتسبّب هذا الصعود، من ضمن أمور أخرى، بإعادة نشاط منظمة "لاهافا" إلى صدارة العناوين بالتوازي مع استعادة أجندتها المخصوصة، التي نتوقف عندها في هذا العدد من المشهد الإسرائيلي بجانب التوقف عند معاني ودلالات ما يعرف بـ"الوضع القائم" فيما يتعلق بالقدس، وعند جوهر ما تسعى إسرائيل إليه من وراء نيتها تغييره.
وبقدر ما إن هذا "الصعود" يُعتبر مرتبطاً بالتحولات التي خضعت لها إسرائيل في الأعوام الأخيرة، ولا سيما خلال أعوام عهد بنيامين نتنياهو في رئاسة الحكومة الإسرائيلية منذ أكثر من عقد، بقدر ما إنه يتغذى من حقيقة أن العنصرية في إسرائيل بنيوية.
الصفحة 210 من 859