منذ انطلاق الحركة الصهيونية قبل نحو قرن وربع القرن، سعت للترويج إلى أنها هي التي ستحول فلسطين من صحراء قاحلة، أو من بلاد متخلفة وقذرة، إلى نموذج الدولة الحديثة والمتطورة. وعبّر مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتسل عن هذه الفكرة في روايته "ألتنويلاند" (أرض قديمة جديدة) - التي ترجمها ناحوم سوكولوف إلى العبرية تحت عنوان "تل أبيب". صوّر هرتسل في روايته فلسطين قبل قيام الدولة اليهودية بأنها أشبه بزرائب الحظائر التي تفوح من شوارعها وأزقتها الروائح الكريهة، فيما صوّرها بعد قيامها بالدولة العالمية ذات الطابع الأوروبي بمبانيه المرتفعة والمصارف وشركات الشحن والمركبات المتطورة والقطارات الكهربائية، ومجتمع بمكونات راقية ونظيفة.
تشير سلسلة من التقارير والمعطيات الاقتصادية التي تظهر تباعا، إلى أن الأزمة الاقتصادية الإسرائيلية تتفاقم، وتضرب تقريبا كافة مناحي الحياة، فقد أشار تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، الذي صدر في الأسبوع الماضي، إلى أن إسرائيل حلّت في المرتبة الأولى في قائمة دول المنظمة، بشأن غلاء المعيشة في العام الماضي 2022؛ وحتى تراجعها في منتصف العام الجاري 2023، إلى المركز الرابع، لا يلغي استفحال الغلاء فيها، في حين أن قيمة الشيكل في تراجع ما يمهد لموجة غلاء جديدة، كما تشير تقارير أخرى إلى ارتفاع طفيف في البطالة، وخروج استثمارات مالية كبير إلى الخارج، وفي ظل كل هذا بدأت أحاديث عن اتساع دائرة هجرة الإسرائيليين، أو زاد التفكير بالهجرة.
أصبح واضحاً أن إسرائيل تدفع ثمناً باهظاً لقاء تشكيلة حكومتها الحالية ومساعيها الحثيثة للانقلاب على نظام الحكم بما ينطوي عليه من إحداث تغييرات جوهرية بعيدة المدى، سواء في نظام الحكم والعلاقات بين سلطاته المختلفة أو في جهاز القضاء بشكل خاص مما قد يفتح الطريق واسعةً أمام الانتقال السريع والسلس نحو الحكم الاستبدادي. وتدفع إسرائيل هذا الثمن في الدول الغربية الليبرالية بشكل خاص إذ خرج كثيرون فيها، سواء رؤساء دول، مشرّعين، حقوقيين، اقتصاديين وشخصيات عامة أخرى مختلفة، بصورة علنية وصريحة ضد نهج هذه الحكومة عموماً وضد محاولاتها الانقلاب على الحكم خصوصاً، ناهيك عن مؤسسات وقيادات مختلفة بين الجاليات اليهودية في أنحاء العالم المختلفة. وحيال ذلك، تراجعت إسرائيل في جميع مؤشرات الديمقراطية الدولية، إضافة إلى تراجع تدريجها في مجال الاعتمادات المالية. وإضافة إلى ذلك، يجد رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزراء حكومته الحالية صعوبات جمة في زيارة العواصم الدولية إلى جانب إعلان المقاطعة والرفض الصريحين لاستقبال بعض الوزراء في عدد من الدول الصديقة لإسرائيل. كما يجري "استقبال" ممثلي الحكومة الإسرائيلية بمظاهرات ونشاطات احتجاجية مختلفة لدى زياراتهم في الدول الغربية وبانتقادات متصاعدة من جانب مضيفيهم.
الصفحة 106 من 883