منذ انطلاق الحركة الصهيونية قبل نحو قرن وربع القرن، سعت للترويج إلى أنها هي التي ستحول فلسطين من صحراء قاحلة، أو من بلاد متخلفة وقذرة، إلى نموذج الدولة الحديثة والمتطورة. وعبّر مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتسل عن هذه الفكرة في روايته "ألتنويلاند" (أرض قديمة جديدة) - التي ترجمها ناحوم سوكولوف إلى العبرية تحت عنوان "تل أبيب". صوّر هرتسل في روايته فلسطين قبل قيام الدولة اليهودية بأنها أشبه بزرائب الحظائر التي تفوح من شوارعها وأزقتها الروائح الكريهة، فيما صوّرها بعد قيامها بالدولة العالمية ذات الطابع الأوروبي بمبانيه المرتفعة والمصارف وشركات الشحن والمركبات المتطورة والقطارات الكهربائية، ومجتمع بمكونات راقية ونظيفة.
من الواضح أن فانتازيا هرتسل هذه كانت جزءاً من مساعيه للترويج للفكرة الصهيونية لدى الدول التي سعى للحصول على دعمها لتحقيق طموحاته خاصة في أوروبا. وهي مؤشر على مدى اهتمام هرتسل بأن تكون صورة الدولة اليهودية نموذجاً مستنسخاً عن الدول "المتحضرة" ليسوّغ لقادتها قرار دعم الحركة الصهيونية.
محاولة طرح المشروع الصهيوني على أنه النموذج المتطور في الشرق الأوسط، شغل حيزاً كبيراً في فكر وتطبيق الحركة الصهيونية، عبر الوفود التي جالت أوروبا ثم الولايات المتحدة، واستمرت إسرائيل بعد قيامها بهذا النهج تحت عدة عناوين، بدءاً من استغلال المحرقة لاستعطاف الشعوب والحكومات الغربية وإبقائهم تحت حالة دائمة من الشعور بالذنب، ولاحقاً عبر اتباع سياسة تمثيل دور الضحية المستهدفة دائما، وبموازاة ذلك تجريم النضال الفلسطيني بكافة أشكاله لتطاول تهمة الإرهاب ومعاداة السامية كل من يعمل ضد أو ينتقد إسرائيل وسياساتها كقوة احتلال. بالمقابل طرحت إسرائيل نفسها على أنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وأن جيشها الأكثر أخلاقيةً في العالم، وغيرها من الادعاءات التي تبني صورة إيجابية لإسرائيل عالمياً، للتغطية على الاحتلال بدءاً من التطهير العرقي في أراضي 1948 حتى احتلال باقي الأراضي الفلسطينية والعربية العام 1967، وما تخلل ذلك من انتهاكات وجرائم لا تزال مستمرة.
ويشكل التحالف الإسرائيلي- الغربي خاصة مع الولايات المتحدة الأميركية ركناً أساسياً في الترويج لإسرائيل وتبييض صورتها، حتى ولو كان ضحاياها من الأميركيين، فمثلا في 8 حزيران 1967 - خلال الحرب- تعرضت المدمرة الأميركية يو.إس.إس ليبرتي USS Liberty لهجوم إسرائيلي جوي وبحري في البحر المتوسط خلف 34 قتيلا و 171 من البحارة الأميركيين، وجاءت في النهاية نتيجة التحقيق الأميركي لتصف الهجوم بأنه "حادثة مأساوية بنيران صديقة"، فيما لا تزال الشكوك حتى اليوم قائمة حول دوافع الهجوم. وهناك عدد من الضحايا الأميركيين مثل الناشطة ريتشل كوري التي سحقتها جرافة عسكرية إسرائيلية العام 2003 في قطاع غزة أمام الكاميرات وبرأت المحاكم الإسرائيلية الجيش من قتلها موجهة اللوم للضحية مع صمت رسمي أميركي. ومن أبرز ضحايا إسرائيل الذين يحملون الجنسية الأميركية الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة التي اجتهدت الإدارة الأميركية في إغلاق ملف قضيتها بشكل سريع يبرئ إسرائيل عبر التدخل في التحقيق، الذي خلصت فيه الخارجية الأميركية إلى نتيجة أن "إطلاق الرصاص من المواقع التي كان الجيش الإسرائيلي فيها على الأرجح هو المسؤول عن مقتل شيرين أبو عاقلة... ولا يوجد أي سبب للاعتقاد أن ذلك كان متعمداً، بل كان نتيجة لظروف مأساوية خلال عملية عسكرية ضد الجهاد الإسلامي في جنين بعد سلسلة من العمليات الإرهابية في إسرائيل". فكانت أبو عاقلة ضحية مرتين، الأولى باستهدافها وباقي الصحافيين بعشرات الرصاصات التي تجاهلها التحقيق، وركز على رصاصة واحدة أصابت شيرين، والثانية بتبرئة واشنطن جيش الاحتلال من الجريمة. كما لم يخل بيان الخارجية الأميركية من تحميل الفلسطينيين بعض المسؤولية عبر الإشارة إلى أن العملية العسكرية الإسرائيلية التي قتلت أبو عاقلة خلالها كانت تستهدف منظمات فلسطينية نفذت عمليات "إرهابية" ضد إسرائيل.
يركز الخطاب الأميركي المحتضن لإسرائيل على القيم المشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل المتمثلة في "الحرية والديمقراطية والمساواة والتعددية". مع ذلك لم تخل السنوات العشر الأخيرة من توترات في العلاقة مع الإدارتين الأميركيتين الديمقراطيتين: إدارة باراك أوباما، حتى العام 2016، والإدارة الحالية برئاسة جو بايدن، وذلك لعدة أسباب أبرزها الملف النووي الإيراني، والانقلاب على النظام القضائي في إسرائيل، وأحيانا السياسة والإجراءات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة العام 1967 خاصة الاستيطان. وينسحب التوتر هذا على بعض الدول الأوروبية وفي موقف الاتحاد الأوروبي نفسه، وكذلك في الأمم المتحدة ووكالاتها أيضا. ويساهم الإعلام العالمي أحيانا في تعزيز سلبية صورة إسرائيل من خلال تقارير وتحقيقات ومقابلات صحافية. وتوفر الحكومة الإسرائيلية الحالية بسياساتها فرصة لتوجيه انتقادات حادة لإسرائيل في ظل سياساتها داخليا، ثم تجاه الفلسطينيين في أراضي 1948 و1967.
لبيد ومحاولة إصلاح ما أفسده نتنياهو وترامب
بعد التحالف الذي قاده رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو والرئيس الجمهوري الأميركي السابق دونالد ترامب ضد الاتفاق النووي الإيراني وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، توترت علاقة الاتحاد الأوروبي والحزب الديمقراطي مع إسرائيل، ودفع ذلك إيران إلى المضي قدما لتطوير برنامجها النووي بموازاة الانسحاب الأميركي، لتصبح إسرائيل هي المتهمة الأولى في أوروبا وفي صفوف الحزب الديمقراطي بتجديد الأزمة الدولية مع إيران. ومع تشكيل يائير لبيد ائتلافاً حكومياً بالشراكة مع نفتالي بينيت بذل لبيد جهداً كبيراً لإصلاح العلاقة مع الإدارة الأميركية الحالية، إي مع الحزب الديمقراطي وإعادة الأمور في علاقة إسرائيل إلى التوازن التقليدي والبقاء على مسافة واحدة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وهي السياسة المتبعة تاريخياً.
وأشار نفتالي بينيت الذي تولى رئاسة الحكومة في هذا الائتلاف، خلال جلسة الحصول على الثقة لحكومته أمام الكنيست، إلى العلاقات الإسرائيلية- الأميركية وأهميتها، وقال إن حكومته ستبذل جهدها لترميم علاقاتها الخارجية، ولتعميق وتطوير العلاقات مع أصدقاء إسرائيل في الحزبين (الديمقراطي والجمهوري)، وإن حدثت خلافات فسيتم التعامل معها من منطلق الثقة والاحترام المتبادل. ووجه بينيت الشكر للرئيس الأميركي جو بايدن لوقوفه إلى جانب إسرائيل خلال حربها على قطاع غزة (أيار 2021)، ولدعمه إسرائيل لسنوات طويلة.
لكن عمر الحكومة القصير (من 13 حزيران 2021 - حتى 29 كانون الأول 2022) لم يمنح يائير لبيد كوزير للخارجية وكرئيس للحكومة لاحقاً الفرصة لتحقيق ذلك، فعاد نتنياهو إلى الحكم في ائتلاف حكومي يميني شديد التطرف أضعف شخصيته بشكل كبير في ظل خضوعه لابتزاز شركائه في الصهيونية الدينية (بتسلئيل سموتريتش وايتمار بن غفير) وأمام الأحزاب الحريدية شاس ويهدوت هتوراه، وخضوعه للابتزازات السياسية والمالية من قبل هؤلاء الشركاء. وكان لسلوك الحكومة الإسرائيلية ككل وسلوك وتصريحات بعض وزرائها، وسلوك أعضاء الكنيست من المشاركين في الائتلاف الحكومي، أثر سلبي على علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة بشكل خاص والدول الأوروبية وحتى على بعض الدول العربية المطبعة، وكذلك على صورة إسرائيل عالميا.
"إسرائيل قضية تخص الحزب الجمهوري"!
في أكثر من مناسبة أشار الكاتب الأميركي توماس فريدمان إلى التوتر الشديد بين الإدارة الأميركية الحالية وحكومة نتنياهو، ففي مقابلة مع قناة 11 الإسرائيلية في شهر شباط 2023 قال فريدمان إن نتنياهو تدخل مرات ومرات في السياسات الأميركية مثل إلقائه كلمة في الكونغرس ضد الاتفاق النووي الإيراني بدعوة من الحزب الجمهوري (2015) وبدون التنسيق مع الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض.
كما حذر فريدمان من أن المضي قدما بالتعديلات القضائية في إسرائيل سيؤدي إلى المزيد من التآكل في حجم دعمها داخل الحزب الديمقراطي لإسرائيل. وأكد أن وضع إسرائيل بات سيئا جدا في صفوف الحزب الديمقراطي.
وأكد ذلك استطلاع "غالوب" في آذار 2023 الذي أظهرت نتائجه أن تعاطف مؤيدي الحزب الديمقراطي انقلب خلال عام واحد، ففي العام 2022 كانت نسبة التعاطف مع إسرائيل في صفوف الديمقراطيين تصل إلى 40 في المئة مقابل 38 لصالح الفلسطينيين، لكن في الاستطلاع الأخير تراجع تعاطف الديمقراطيين مع إسرائيل إلى 38 في المئة وصعد التعاطف مع الفلسطينيين إلى 49 في المئة، وهذه هي المرة الأولى تاريخياً.
فريدمان حذر إسرائيل في هذا السياق من أن "جو بايدن قد يكون الرئيس الديمقراطي الأخير المؤيد لإسرائيل، والسنوات الـ12 لحكم نتنياهو جعلت إسرائيل تصبح قضية تخص الحزب الجمهوري"!
وعن التغير في المزاج الأميركي تجاه نتنياهو، قال فريدمان إن نتنياهو كان قادرا على المناورة وصولاً إلى إلقاء خطاب في الكونغرس رغماً عن الإدارة الديمقراطية، لكن حالياً لو "حاول نتنياهو أن يزور جامعة ويسكونسن لإلقاء خطاب فإنه سيحتاج للحرس الوطني الأميركي" في إشارة إلى توفير الحراسة له لأنه لم يعد مرغوباً به.
في 11 تموز 2023 كتب فريدمان مقالاً في صحيفة "نيويورك تايمز" بعنوان "إعادة الولايات المتحدة تقييم علاقاتها مع إسرائيل"، جاء فيه أن إدارة بايدن ترى أن الحكومة الإسرائيلية منخرطة في سلوك متطرف غير مسبوق - تحت عباءة إصلاح القضاء- بشكل يقوِّض المصالح والقيم المشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، كما يغير تصوّر الطرفين المشترك ذا الأهمية البالغة حول وضع الضفة الغربية. واعتبر فريدمان أنه عندما تكبر الهوة بين مصالح وقيم حكومة أميركية وحكومة إسرائيلية، فإن إعادة تقييم العلاقة بين البلدين تصبح أمراً لا مفر منه".
ورغم أن الإدارة الأميركية نفت ذلك رسمياً، لكن يستشف من مقالة فريدمان أن إدارة بايدن أرادت توصيل رسالة لنتنياهو من خلال هذا الكاتب بضرورة وقف التعديلات القضائية.
بعد أسبوع كتب فريدمان مقالاً جديداً قال فيه إن البيت الأبيض طلب منه إجراء مقابلة مع بايدن وأبلغه فيها الرئيس الأميركي أنه طلب من نتنياهو في مكالمة هاتفية وقف التعديلات القضائية، وقال له "أوقف التعديلات حالاً. لا تمرر شيئاً بهذه الأهمية بدون توافق واسع، وإلا ستكسر شيئاً ما في الديمقراطية الإسرائيلية وفي العلاقات مع الولايات المتحدة، بشكل لن يعود إلى سابق عهده".
كما قال فريدمان إن بايدن أبدى احترامه الكبير للمتظاهرين الإسرائيليين الذين "يعبّرون عن الديمقراطية الإسرائيلية"، وأضاف أن الانقلاب على النظام الذي يسارع إليه نتنياهو، سيمس بشكل كبير "بقدرة المحكمة العليا الإسرائيلية على ممارسة دور رقابي على قرارات الحكومة، مع عدم وجود أي مؤشر إلى توافق بشأنها".
وسارعت الحكومة الإسرائيلية إلى نفي ما كتبه فريدمان، وقال رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي إن بايدن لم يطلب من نتنياهو وقف عملية سن قوانين الإصلاحات القضائية.
لكن الإدارة الأميركية صعّدت من خطابها ضد الرد الإسرائيلي فأكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان- بيير والمتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي صحة ما نشره فريدمان من تصريحات منسوبة للرئيس بايدن، وقالت جان- بيير إن "توم (توماس فريدمان) نقل حرفياً كلام الرئيس، لذلك سأترك اقتباس الرئيس الذي يكفي بحد ذاته".
نتنياهو يلغي حل الدولتين... وواشنطن تنتقد وتساوم مقابل التطبيع
فتح سلوك حكومة نتنياهو في قضية التعديلات القضائية، وتصريحات وزراء حكومة نتنياهو الحالية ونتنياهو نفسه قبلهم، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع الفلسطينيين، الباب لاتخاذ مواقف دولية رافضة لهذه التصريحات.
وكانت إذاعة كان "ريشت بيت" العبرية كشفت بتاريخ 24 حزيران الماضي عن تصريحات لنتنياهو خلال جلسة مغلقة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست قال فيها إنه يجب القضاء على تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولة لهم.
الرد الأميركي جاء لاحقا عبر تجديد تأكيد واشنطن على التزامها بحل الدولتين. وقالت السفارة الأميركية في تل أبيب إن المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة ليندا توماس- غرينفيلد التقت وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في مقر الأمم المتحدة في نيويورك وشددت "على أن الولايات المتحدة لا زالت تعتقد أن حل الدولتين المتفاوض عليه هو أفضل سبيل لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني".
لكن الرد الذي لمّح لتصريحات نتنياهو جاء في سياق محاولات الإدارة الأميركية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية. وقالت صحيفة "هآرتس" إن عدة مسؤولين أميركيين بينهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن أكدوا لوزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر خلال زيارته لواشنطن أواخر شهر آب 2023 على ضرورة "تقديم إسرائيل )تنازلات مهمة( للفلسطينيين ضمن أي اتفاق مستقبلي لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، وأن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين أن ذلك لن يكون مطلوبا ليست صحيحة". وهذه إشارة مباشرة إلى التصريحات التي عادة ما يدلي بها نتنياهو والتي يقول فيها إنه تمكن من تحقيق التطبيع مع بعض الدول العربية بمعزل عن التوصل لاتفاق مع الفلسطينيين.
وقد يكون تبادل الرسائل والانتقادات المباشرة وغير المباشرة بين إدارة بايدن ونتنياهو من أكثر فترات الشد والجذب في العلاقات الأميركية الإسرائيلية في ظل الحكومة الحالية.
وزراء نتنياهو يزيدون وضع إسرائيل سوءاً
لكن مشكلة نتنياهو لا تكمن في شخصه وتصريحاته فقط، ولا تنحصر في العلاقات مع الولايات المتحدة وحدها، فقد زاد وزراء في حكومته الوضع سوءاً بتصريحات وقرارات تعزز اتهام إسرائيل بالعنصرية وصولاً إلى أنها دولة فصل عنصري، وذلك بدءا من دعوة وزير المالية والوزير في وزارة الدفاع بتسلئيل سموتريتش "لمحو بلدة حوارة عن وجه الأرض"، واعتباره أنه "لا يوجد شعب فلسطيني"، ما أثار موجة انتقادات شديدة على مستوى عالمي، رسمي وإعلامي. ولم تنحصر هذه الانتقادات في سموتريتش وحده بل فتحت المجال لتسليط الضوء على سياسات حكومة نتنياهو بشكل عام.
ورغم محاولات نتنياهو التخفيف من تأثير مثل هذه التصريحات إلا أنه يجد نفسه محشورا بين استرضاء شركائه في الائتلاف الحكومي للحفاظ على هذا الائتلاف، وبين التضحية بصورة إسرائيل أمام العالم.
ودافع نتنياهو مؤخراً عن تصريحات وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير في استوديو القناة 12 التي قال فيها حرفياً: "إن حقي وحق زوجتي وحق أبنائي في التحرك بحرية في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) أهم من حق العرب في التحرك". وأضاف مخاطباً المعلق العربي في القناة: "عذرا محمد (مجادلة) ولكن هذا هو الواقع، هذه هي الحقيقة، حقي في الحياة أهم من حقك".
وشكلت هذه التصريحات التي انتشرت بشكل واسع في منصات التواصل الاجتماعي، فرصة لانتقاد إسرائيل وللتأكيد على أن سياساتها في الأراضي المحتلة هي سياسة فصل عنصري، وفتحت الجدل حول العنصرية التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين بشكل واسع.
غير أن نتنياهو وبدلاً من محاولة التخفيف من تأثير هذه التصريحات أو انتقادها دافع عنها، فنشر مكتبه تصريحاً باللغة الإنكليزية وقبيل دخول اليهود في عطلة السبت- حاول فيه توضيح تصريحات بن غفير. وأشار إلى أن بن غفير لم يكن يقصد العرب بل "الإرهابيين" حسب وصفه. وجاء في بيان مكتب نتنياهو "إسرائيل تتيح حرية الحركة في شوارع يهودا والسامرة سواء للإسرائيليين أو للفلسطينيين... إرهابيون فلسطينيون يستغلون حرية الحركة لقتل النساء والأطفال عبر كمائن في نقاط محددة على طرق مختلفة. ولمنع ذلك تقوم قوات الأمن الإسرائيلية باتخاذ إجراءات أمنية خاصة، وهذا ما قصده بن غفير عندما قال إن الحق في الحياة أهم من الحق في الحركة".
لكن هذا التوضيح الموجه للغرب لم يساعد في التخفيف من الانتقادات لإسرائيل، خاصة أن بعض المشاهير ساهموا في نشر تصريحاته مثل عارضة الأزياء الأميركية الفلسطينية الشهيرة بيلا حديد التي انتقدته عبر حسابها على انستغرام الذي يتابعه 60 مليون شخص.
وركزت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية على إدانة مسؤول في الاتحاد الأوروبي لتصريحات بن غفير بشدة، وعلى وصف الإدارة الأميركية لهذه التصريحات بأنها "خطاب عنصري". كما أشارت إلى أن الكثير من الانتقادات اعتبرت تصريحات بن غفير دليلاً على أن إسرائيل فعلا دولة فصل عنصري.
وبدل التخفيف من أثر هذه التصريحات أصر بن غفير على تكرارها، وحصل بعد دعم نتنياهو له على دعم سموتريتش أيضا الذي هاجم الولايات المتحدة وقال إنه "لا توجد دولة أكثر أخلاقية من إسرائيل، وكل من ينتقدها منافق... أنا لا أتحدث عن الأميركيين وعما فعلوه في أفغانستان والعراق، وهم لن يقدموا لنا دروساً أخلاقية في حقوق الإنسان، لا للجيش ولا لنا كمستوى سياسي، هذه قمة النفاق".
"ضربة لصورة إسرائيل"
لم تنحصر الانتقادات لبن غفير في المستوى الدولي، فنقلت القناة 13 عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن "الضرر الذي ألحقه بن غفير بصورة إسرائيل عالمياً يوازي هجوماً دبلوماسياً- إعلامياً كبيراً، وما تقوم به حركة مقاطعة إسرائيل BDS قام بن غفير بنفسه بتحقيقه". وأشارت القناة إلى أن سيلاً من الاستفسارات والأسئلة وجهت إلى المسؤولين الإسرائيليين من صحافيين أجانب ووسائل إعلام أجنبية في ظل تغطية إعلامية واسعة لهذه التصريحات في وسائل إعلام عالمية كبرى.
ونقلت القناة عن مسؤولين سياسيين إسرائيليين قولهم إن تصريحات بن غفير تشكل ضرراً خطيراً لصورة إسرائيل يضاف إلى سلسلة من الخطوات التي أقدمت عليها الحكومة - وليس فقط هذا الوزير- في الشهور الأخيرة. وذكرت القناة على سبيل المثال أن وزارة الخارجية الإسرائيلية تعمل على تنظيم مؤتمر عالمي يفترض أن يشارك فيه وزراء خارجية عدد كبير من الدول، لكن الاستجابة الدولية للدعوات الإسرائيلية قليلة... وتصريحات بن غفير - كما قال مصدر في الخارجية الإسرائيلية- لن تساعد في الحصول على موافقة المزيد من الدول على المشاركة في المؤتمر.
نتنياهو: اللهم نفسي!
بالمجمل فإن سلوك نتنياهو الحالي مقارنة بوضعه في الحكومات السابقة يؤكد ضعفه أمام شركائه في الائتلاف الحكومي بسبب حاجته لهم في تمرير قوانين قد تنقذه من المحاكمة أو السجن عبر مجاملتهم بما يفجر الوضع في إسرائيل داخلياً ويلحق ضرراً بصورتها عالمياً.
قد يقول البعض إن نتنياهو اصطدم ببن غفير عندما اعتبر قراره تحديد زيارات الأسرى بزيارة واحدة كل شهرين بأنه "أخبار زائفة"، وأعلن مجلس الأمن القومي الإسرائيلي عن إلغاء القرار عبر إصدار تعليمات لإدارة السجون بالاستمرار بالسياسة الحالية، أي زيارة كل شهر. كشف سلوك نتنياهو السياسي أنه في الحالات التي قد تؤدي إلى تفجر الوضع الأمني فإنه يتدخل بشكل مباشر لتجنب ذلك. وقد أثبتت السنوات السابقة أن نتنياهو يستعين بتوصيات الأجهزة الأمنية لتجنب أي تصعيد. وتكرر ذلك في حالة الأسرى فقد انتقد الشاباك وإدارة السجون والجيش ومجلس الأمن القومي قرار بن غفير لأنه قد يفجر الوضع داخل السجون وخارجها. وذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن موقف الجيش الإسرائيلي والشاباك تمثل في رفض قرار بن غفير، "فقبل فترة الأعياد اليهودية وفي ظل التوتر الأمني ليس من الصحيح أن يتم إجراء تغيير في السياسة (تجاه الأسرى الأمنيين) في هذا التوقيت، وقبل أن تتم مناقشة الموضوع في إطار عمل منظم يطرح على الكابينيت".
فالقرارات والتصريحات التي قد تفجر الوضع الأمني تدفع نتنياهو للتدخل، ولكن عندما يتعلق الأمر بالتصريحات التي تزيد من ورطة إسرائيل وتمس بصورتها أمام العالم، فإن نتنياهو يتجنب الصدام مع مطلقيها لتجنب الصدام مع شركائه، تماما كتجاهله لتأثير التعديلات القضائية على صورة إسرائيل عالمياً وإمكانية تحولها لدولة "ليست ديمقراطية" بحسب تحذير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون له مطلع العام الحالي، وما تمخض عن هذه التعديلات من توتر مع واشنطن أيضاً.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, بتسلئيل, يديعوت أحرونوت, هآرتس, مجلس الأمن القومي, باراك, ليبرتي, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو