قراءة في تقرير استراتيجي إسرائيلي جديد يتضمن تقييمًا شاملاً للمفاهيم السياسية والمنطلقات الأساسية، التي وجهت السياسة الإسرائيلية حيال الفلسطينيين خلال السنوات 2000- 2004، مقايسة مع ما كان سائدًا قبل ذلك أيضًا
صدر، في شباط 2005، عن "معهد القدس للدراسات الإسرائيلية" تقرير استراتيجي جديد يتضمن تقييمًا شاملاً للمفاهيم السياسية والمنطلقات الأساسية، التي وجهت السياسة الإسرائيلية حيال الفلسطينيين خلال السنوات 2000- 2004، مقايسة مع ما كان سائدًا قبل ذلك أيضًا (ظهرت ترجمته العربية أخيرًا ضمن سلسلة "أوراق إسرائيلية" التي يعدها المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"- رام الله).
يحمل التقرير عنوان "الانتقال من تسوية النزاع إلى إدارته"، وهو يشكل خلاصة عمل "مجموعة تفكير" تبلورت تحت كنف المعهد المذكور ضمت باحثين وخبراء في مجالات مختلفة وعقدت عدة لقاءات، ابتداء من شهر تشرين الثاني 2003.
وقد شملت هذه المجموعة شخصيات رفيعة من مجال الاستخبارات مثل: إفرايم هليفي ورؤوبين مرحاف ويوسي بن آري (من الموساد) وافرايم لافي (من أمان- شعبة الاستخبارات العسكرية) وكوبي ميخائيل (من وحدة التنسيق والارتباط)، وأكاديميين آخرين مثل: يعقوب بار سيمنطوف (رئيس الطاقم ورئيس المعهد) ودانيئيل بار- طال وروت لبيدوت ودان زكاي وعزرا سدان وتمار هيرمان ويفراح زيلبرمان ويتسحاق رايتر. وأجرت المجموعة مقابلات مع رجال استخبارات ومستشرقين ومن بينهم ماتي شتاينبرغ، المستشار البارز لرئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) في الشؤون الفلسطينية.
ومع أن التقرير ينتهي عند اعتبار "خطة الانفصال" (عن قطاع غزة وبعض المستوطنات في أقصى شمال الضفة الغربية) بمثابة "خيار تقصير"، سواء من الناحية السياسية أو الأمنية، فإنه لا يغوص على أبعاد هذه الخطة. ويكتفي من هذه الأبعاد بما يحسبه جوهريًا (ثوريًا في قراءته) منها، ومؤداه أنه "للمرة الأولى في النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، بل وحتى في النزاع الإسرائيلي- العربي، تتبنى إسرائيل إستراتيجية إدارة (للنزاع) أحادية الجانب تستند إلى انصراف يشمل انسحابًا إقليميًا وإخلاء مستوطنات دون عملية سلام ودون أي مقابل من الطرف الثاني (الفلسطيني)".
وعطفًا على ما سبق يرى التقرير أن الانفصال، رغم ما يعنيه من "إدارة أحادية الجانب" للنزاع، جنبًا إلى جنب إقامة "جدار الفصل" المندرج في إطار معنى الإدارة ذاته، ربما يؤشران إلى عملية تغيير في مفهوم إسرائيل السياسي وفي منطلقاتها الأساسية حيال النزاع مع الفلسطينيين.
ويلفت إلى أن هذا التغيير يأتي على خلفية تغييرين بنيويين، من الماضي القريب:
الأول- التغيير الذي أتاح عملية أوسلو.
والثاني- التغيير الذي طرأ بعد انتخابات شباط 2001، التي جاءت بأريئيل شارون إلى سدّة الحكم، والذي يتضاد مع الأول. وقد بدأت علائم التغيير الثاني الواضحة خلال فترة ولاية إيهود باراك في رئاسة الحكومة الإسرائيلية (1999 -2001).
غير أن أهمية هذا التقرير تبقى مستمدة من أحكامه بشأن اتزان أو معقولية عناصر المفهوم السياسي الإسرائيلي، وهي أحكام يمكن هيكلتها في نطاق جهود إماطة اللثام أو نزع الأقنعة عن المنطلقات الأساسية لذلك المفهوم.
ثمة الكثير من التفاصيل التي يكشف عنها التقرير بصورة مركّزة مستعينًا بالعديد من المراجع، وليس من المبالغة اعتبارها مفاصل جوهرية، إلى ناحية تسليط بؤرة الاهتمام نحو ما تتحمله إسرائيل من مسؤولية مباشرة عما آلت إليه الأوضاع السياسية والأمنية.
ومن هذه التفاصيل لا بدّ من الإشارة إلى ما يلي، على سبيل المثال:
(*) أولاً- يحاول التقرير أن يجيب على السؤال المفتوح: لماذا باءت مفاوضات كامب ديفيد حول التسوية الدائمة بالفشل الذريع؟. وفي سبيل ذلك يستعرض ما صدر عن طرفي المفاوضات من ادعاءات، لكنه يرجّح، في ما يشبه الاستحصال، بأن تكون الأزمة، التي انتهت إليها المفاوضات، وما تمخض عنها من انفجار عنيف "تعبيرًا ذا قوة عالية جدًا" عما يسميه "التصادم (الحتمي؟) بين الروايتين التاريخيتين القوميتين".
ويكتب في هذا الشأن: بنظرة ثانية يبدو الآن أن طلب إسرائيل الملحاح بـ"نهائية النزاع"، ضمن الشروط التي وضعتها، تمَّ تفسيره لدى الفلسطينيين باعتباره محاولة لإخضاع الرواية التاريخية الفلسطينية أمام الرواية التاريخية الإسرائيلية. "خنوع" كهذا، من ناحية الفلسطينيين، لم يكن خيارًا سياسيًا ممكنًا. زد على ذلك أن هذا الطلب الإسرائيلي نأى بالطرفين عن النقاش حول نتائج حرب 1967 إلى نقاش حول نتائج حرب 1948 - 1949.
ويتابع: يقول الفلسطينيون إنهم لا يستطيعون البتة الموافقة على كون أحداث حرب 1948- 1949 عادلة. مع ذلك فان التيار المركزي مستعد على ما يبدو، في نوع من الاضطرار، للتسليم بنتائج الحرب والتوصل إلى اتفاق حول تسوية لا تكون "عادلة"، من هنا فهي لا تكون نهائية ومطلقة. هذا التيار وقيادته يقومون بتمييز عملي بين "تسوية عادلة"، تشمل تطبيقًا جارفًا وكاملاً لحق العودة، لكنها تسوية غير عملية، وبين تسوية ممكنة، تعالج نتائج حرب 1967 وتنطوي في أكثر تقدير على إقرار بالإثم التاريخي، لكن ليس على تطبيق حق العودة على أرض الواقع. غير أن الطرف الإسرائيلي بطلبه من الفلسطينيين الإعلان عن نهائية النزاع طلب عمليًا منهم، دون أن ينتبه لذلك، الإقرار بأن حرب 1948- 1949 ونتائجها كانت عادلة، الأمر الذي لا يستطيع الفلسطينيون قبوله أبدًا.
ويتهم التقرير إيهود باراك بأنه سعى للوصول إلى نهاية النزاع ووضع حد للمطالب الفلسطينية مقابل تنازلات وإن بدا أنها بعيدة المدى إلا أنها تعكس فقط نتائج حرب الأيام الستة (حزيران 1967): إقامة دولة فلسطينية، التنازل عن معظم مناطق يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وقطاع غزة، بما في ذلك غور الأردن، اقتلاع مستوطنات وتقسيم القدس. لكن في كامب ديفيد، كما في استمرار المفاوضات بعد ذلك أيضًا، تعلم الطرف الإسرائيلي درسًا في معرفة الموقف الفلسطيني الحاسم بشأن عدم ممكنية تسوية النزاع بثمن حل نتائج حرب 1967 فقط.
(*) ثانيًا- يعتبر التقرير ما يجوز تسميته بـ"إرث باراك" واحدًا من الأعمدة الرئيسية في المفهوم السياسي إزاء النزاع الذي أدار ظهر المجن لمفهوم أوسلو، والذي تمت تبيئته فيما بعد أيضًا من قبل حكومة أريئيل شارون واليمين المتطرف في طبعتها الأولى. فإن أقطاب هذه الحكومة، على ما جاء فيه، ورثوا تقييمات باراك بالنسبة لعدم نضوج الفلسطينيين لتسوية النزاع، وبالنسبة لمسؤوليتهم عن فشل العملية السياسية وعن غياب شريك فلسطيني لائق لهذه العملية. وذلك على رغم التقييمات الإستراتيجية الرسمية التي أقرت طوال سنة 2001 أن عرفات والقيادة الفلسطينية ما زالا معنيين بإحراز غايتهما من خلال المفاوضات. غير أن شروح باراك، رغم أنها لم تتماش مع التقييمات الرسمية للاستخبارات، ناسبت تمامًا وجهات نظر شارون السياسية. فهذا الأخير عارض طوال السنوات عملية أوسلو ورأى فيها خطرًا فعليًا على وجود إسرائيل وأمنها وأيد تأييدًا جارفًا إقامة المستوطنات. وشارون وشاؤول موفاز عارضا التنازلات التي اقترحها باراك على الفلسطينيين في كامب ديفيد، كما عارضا خطة كلينتون ومحادثات طابا. وموفاز، كرئيس لهيئة أركان الجيش وقتئذ، لم يعبر عن معارضته الواضحة لتلك التنازلات فحسب وإنما اختلف أيضًا بصورة عامدة مع السياسة الرامية إلى احتواء المواجهة العنيفة فور تفجرها، التي قرر المستوى السياسي أن ينتهجها في حينه، وعمليًا فإنه لم ينفذ هذه السياسة، نصًا وروحًا.
(*) ثالثًًا- يستشف من التقرير، بصورة جليّة، أن عملية شطب الرئيس الراحل ياسر عرفات من معادلة الشراكة في "عملية السلام" تمت، في حقيقة الأمر، في منأى عن الأداء السياسي للرئيس الراحل، خصوصًا في خضم أحداث الانتفاضة، ما يفتح المجال على شسعه أمام الشك بأن هذه العملية كانت مدبّرة سلفًا، وأن كل ما جاء بعد ذلك كان مجيّرًا لخدمة غاياتها.
وإذ يشير إلى أنه عمليًا كانت هناك، خلال سنة 2001، عدة فرص حاول فيها عرفات أن يؤدي إلى التهدئة ونقل أوامر بوقف إطلاق النار إلى أجهزة الأمن وقيادة فتح، فهو يؤكد أن أصحاب القرار في إسرائيل ردوا بالتشكيك وعدم الثقة على إجراءاته كافة.
ويسجّل في هذا المجال ما يلي: في أعقاب العملية التفجيرية في "الدولفيناريوم" في تل أبيب دعا عرفات أبناء شعبه للمرة الأولى بصوته وباللغة العربية، عبر بث حي في التلفزيون والراديو، للتوصل إلى تهدئة ووقف إطلاق النار. وفي أعقاب عمليات "القاعدة" في الولايات المتحدة، في 11 أيلول 2001، حاول عرفات أن يؤدي إلى تهدئة (يدعي التقرير أن ذلك حصل لكي يتم إدراجه في عداد "معسكر الأخيار" وللانضمام إلى التحالف الذي شرعت الولايات المتحدة ببلورته في حربها على "الإرهاب العالمي"). وقد دعا عرفات إلى وقف إطلاق النار بشكل فوري وجارف وإلى الانضباط والمجالدة حتى مقابل عمليات إسرائيلية. وأمل في نشوء ضغط دولي على إسرائيل للعودة إلى المسار السياسي والتقدم بـ"خطة ميتشل" إلى الأمام. وفي 16 كانون الأول 2001 ظهر عرفات في التلفزيون الفلسطيني وفي "صوت فلسطين" وأعلن أن السلطة ستعاقب كل من يخرق أوامره بوقف إطلاق النار وكل من يقف وراء العمليات الانتحارية وإطلاق الصواريخ. وفي أعقاب ذلك بدأت عملية تهدئة جوهرية استمرت حوالي ثلاثة أسابيع. غير أن هذه العملية توقفت في أعقاب "عملية الإحباط الموضعي" (التسمية الإسرائيلية الرائجة لجرائم التصفية الجسدية) التي طاولت رائد الكرمي، والتي تم تفسيرها من قبل رؤساء تنظيم فتح بأنها عمل خياني من جانب إسرائيل، التي استغلت وقف إطلاق النار لارتكاب العملية. وقد أدى هذا الحادث إلى تطرفّ مواقف فتح حيال المواجهة وكان له تأثير بعيد المدى على استمرار المواجهة وتصعيدها، فقد أحدث انعطافًا لدى المنظمات غير الدينية (فتح والجبهات) لجهة القيام بعمليات انتحارية وأدى إلى تجنيد شرعية في أوساط الجمهور الواسع للعمليات الانتحارية وأضعف كثيرًا قدرة عرفات على الدعوة إلى التهدئة وعلى تطبيقها.
(*) رابعًا- يوسع التقرير دائرة الضوء حول مسؤولية المستوى العسكري الإسرائيلي عن الأيلولة إلى التدهور الحاصل.
يقول مؤلفو التقرير: ثمة اعتقاد الآن، سواء في الجهاز السياسي أو في الجهاز الأمني، مفاده أنه من الجائز أن رد الفعل الزائد من جانب الجيش الإسرائيلي على تفجر الانتفاضة أسهم في تصعيد المواجهة العنيفة. والجيش، الذي استعد لإمكانية انفجار عنيف، بمشاركة فاعلة من قبل قوات الأمن الفلسطينية، أدار الحرب من خلال اعتبارات عسكرية خالصة دون تطرق كاف إلى الاعتبارات السياسية. وفي غمرة ذلك تخلى الجيش عن التشديد الكامل على تطبيق سياسة الاحتواء (التضمين) بروح توجيهات المستوى السياسي وأسهم في تصعيد النزاع العنيف. وإن غاية رد الفعل الزائد من جانب الجيش لم تكن احتواء المواجهة فقط وإنما إخضاع الفلسطينيين أيضًا. وتمثل الهدف في معاقبة الفلسطينيين على تدبير العنف وتعليمهم درسًا لا ينسى بأنه ليس في وسع العنف أن يدفع إلى الأمام أهدافهم السياسية وأن يقودهم إلى مفاوضات وهم ضعفاء ومستنزفون. وكانت النتيجة المركزية فشل سياسة الاحتواء. والتعبير البارز عن ذلك هو العدد الكبير لخسائر الفلسطينيين، الأمر الذي أسهم في تصعيد غير مرغوب للعنف بسبب رغبة المنظمات الفلسطينية في معادلة "ميزان الدماء".
غير أن الأمر الأشدّ خطورة في هذا المحور يكمن، وفقما يهجس التقرير، في صيرورة استلاب المستوى السياسي للمستوى العسكري. تجدر الإشارة- يكتب معدو التقرير- إلى أن المواجهة العسكرية بين إسرائيل والفلسطينيين هي بمثابة دائرة رعب، يؤثر كل طرف فيها على نشاط الطرف الثاني. فمن جهة أثرت العمليات الإرهابية على طريقة نشاط الأمن الإسرائيلي وقوته. لكن من جهة أخرى كان لهذا النشاط ذاته تأثير على النشاط الفلسطيني العنيف. هكذا، مثلاً، فإن تصفية رائد الكرمي وأبو علي مصطفى صاعدت مستوى الإرهاب لدى الفلسطينيين. مقابل ذلك فإن عملية الإرهاب الجماعية في فندق بارك في نتانيا كان لها تأثير على بداية عملية "السوار الواقي".
بيد أن "عوارض دائرة الرعب" لا يتحمل المستوى العسكري الإسرائيلي وحده وزر الإتيان بها وإنما يمكن أن تعزى أيضًا، في حالات كثيرة، إلى تمحور المستوى السياسي في معالجة مشاكل الإرهاب الفورية- وبالأساس العمليات الانتحارية بسبب نتائجها القاسية- وتهربه من تخطيط سياسي- إستراتيجي بعيد المدى، يستوجب اتخاذ قرارات كثيرة. "ونتيجة لذلك- يؤكد التقرير- اضطر المستوى العسكري في أحيان كثيرة إلى استكمال الفراغ التفكيري للمستوى السياسي في كل ما يتعلق بالتخطيط السياسي- الإستراتيجي. وقد تفاقمت هذه الظاهرة بعد تفجر المواجهة العنيفة، وبالأساس بعد تصعيدها، عندما وصل المستوى العسكري إلى إقرار عام بأن المنظومة المصطلحية القائمة لا تنطوي على جواب لائق بشأن واقع من المواجهة المستمرة. ورأى هذا المستوى، إذًا، أن من واجبه لنفسه، قبل أي شيء، أن يطوّر منظومة مصطلحية بديلة للمنظومة المصطلحية القائمة وأكثر تحديثًا منها. وفي غياب توجيهات سياسية واضحة استأثر المستوى العسكري إلى حد كبير بوظيفة المستوى السياسي في صياغة وبلورة بيئة المواجهة، بما في ذلك مستوى العنف".
ويخلص معدو التقرير إلى القول: رغم أن دولة إسرائيل موجودة في خضم ضائقة شديدة، حيث يتضح لها أكثر فأكثر أنه ما من جواب مطلق على "التحدي الأمني" الماثل أمامها، فإن عليها الامتناع عن الوصول إلى وضع سبق أن وصفه المنظّر الإستراتيجي الإسرائيلي يهوشفاط هركابي بـ"الانغلاق النفساني"، أي التمسك بمفهوم سياسي يستند إلى منطلقات أساسية لا تعكس بالضرورة التطورات السياسية والعسكرية. ومن شأن الامتناع عن عمليات الدراسة الضرورية أن يكرس الضائقة القائمة، بل وأن يزيدها تفاقمًا على تفاقم. ورغم أن عمليات الدراسة صعبة أحيانًا من الناحية العقلية والعاطفية، لأن فيها نوعًا من الاعتراف بالفشل، فمن شأن خطوة تأجيلها أن تكون حبلى بالكوارث.
(*) أخيرًا- يُشكّك التقرير في مجرّد الاعتقاد بأن القبضة القوية والعقاب الجماعي وحدهما قادران على إخافة وردع شعب يكافح ضد الاحتلال. وهو يقرر بأن إسرائيل لم تفلح في حسم المواجهة مع الفلسطينيين من الناحية العسكرية، إلى جهة وضع حد للعنف الفلسطيني. فضلاً عن ذلك فإنه على رغم الأثمان الباهظة التي يدفعها الفلسطينيون من ناحية الخسائر البشرية والاقتصادية فقد ظلوا يرفضون "الاستسلام". كما أن "إسرائيل لم تفلح في كيّ وعي الفلسطينيين"، بشأن "أن العنف لا يخدم أهدافهم ويعرقل تقدمها إلى الأمام"، أضف إلى كل ذلك أن هذه الوثيقة تقول إن شعور الفلسطينيين بأن "ليس لديهم ما يخسرونه" قد ازداد خلال سنوات الانتفاضة وازدادت معه الدافعية للتجنّد والانضمام إلى دائرة العنف.
عندما تصدر أحكام كهذه عن خبراء إسرائيليين، فمن أولى منّا بأن يصيخ السمع إليها جيدًا.
يبقى السؤال: وماذا بعد؟.
يقول رئيس الطاقم، في كلمات التوطئة لهذا التقرير، إن الشعور بأن هناك طريقًا مسدودًا وبفشل الجهود في إنهاء المواجهة أو التقليل من حدّتها، هو الذي أدى بباحثي "معهد القدس للدراسات الإسرائيلية" إلى أن يتفحصوا من جديد طرق إدارة المواجهة من قبل إسرائيل في السنوات الأربع الأخيرة. والهدف الأبعد من وراء ذلك هو اقتراح إطار تفكيري يعرض بدائل أكثر انضباطًا لإدارة النزاع، تسهّل الانتقال من إدارته إلى تسويته. ويضيف أنه بعد الانتهاء من إعداد التقرير ساد شعور في أوساط باحثي المعهد بأن مفهوم إدارة النزاع والاستراتيجيات، التي تم انتهاجها في إدارته في السنوات الأربع الأخيرة، لا توفّر جوابًا ناجعًا لناحية معالجة المواجهة الحالية.
ومع أن هناك، حسبما أشير أعلاه، تعويلا مبطنًا على إستراتيجية إدارة أحادية الجانب للنزاع تستند إلى انسحاب، فإن هذا التعويل لا يخلو من استئناف صريح على هذه الإستراتيجية، وذلك في سياق من التوكيد على كونها غير مرغوبة، إلا إذا كان في مستطاعها تشجيع الطرف الثاني (الفلسطيني) على العودة إلى صيغة مشتركة لإدارة النزاع، أي العودة إلى جهود متبادلة ومشتركة لتقليص العنف وحتى لتجديد العملية السياسية.