المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • ابحاث ودراسات
  • 1317

حظي "دستور بالوفاق"، الذي بادر إلى صياغته "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، ولا يزال يحظى باهتمام كبير لدى الأكاديميين ونشيطي حقوق الإنسان ناهيك عن النقاشات التي دارت حوله في الكنيست وفي لجنة الدستور بالأخص. المعضلتان الأساسيتان اللتان شكلتا لب النقاشات التي دارت حول الدستور المقترح هما علاقة الدولة بالأقلية الفلسطينية وعلاقة الدين بالدولة.
بالرغم عن أهمية القضايا المذكورة أعلاه كان لا بد من تسليط الضوء على قضية أخرى لا تقل أهمية وهي حقوق المرأة في الدستور المقترح، لكن وللأسف كما هو متوقع لم تحظ هذه القضية بالاهتمام الكافي بعد

 

حظي "دستور بالوفاق"، الذي بادر إلى صياغته "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، ولا يزال يحظى باهتمام كبير لدى الأكاديميين ونشيطي حقوق الإنسان ناهيك عن النقاشات التي دارت حوله في الكنيست وفي لجنة الدستور بالأخص. المعضلتان الأساسيتان اللتان شكلتا لب النقاشات التي دارت حول الدستور المقترح هما علاقة الدولة بالأقلية الفلسطينية وعلاقة الدين بالدولة.

بالرغم عن أهمية القضايا المذكورة أعلاه كان لا بد من تسليط الضوء على قضية أخرى لا تقل أهمية وهي حقوق المرأة في الدستور المقترح، لكن وللأسف كما هو متوقع لم تحظ هذه القضية بالاهتمام الكافي بعد. فالخوض في انعكاسات الدستور المقترح على وضعية المرأة في إسرائيل ووضعية المرأة الفلسطينية بشكل خاص يحتم علينا التطرق أولاً، ولو باقتضاب، إلى قضيّة الحماية التي يوفّرها، أو بالأحرى التي لا يوفرهّا، الدستور المقترح للأقليّة الفلسطينيّة داخل إسرائيل. إذ لا يمكن فصل المركب القومي في هوية النساء الفلسطينيات عن باقي مركبات هوياتهن. المركب القومي الفلسطيني يشكل السياق الأوسع لتحليل إسقاطات الدستور على النساء الفلسطينيات وعلى تطوّر الخطاب النّسوي الفلسطيني في الدّاخل وتطوّر آليات عمل الحركة النسويّة.
إضافة الى ذلك، فقد قرر صائغو الدستور المقترح أن التضحية بحق المرأة في المساواة في جميع مناحي الحياة هو أمر مفهوم ضمنا من أجل تقديس يهودية الدولة وما نتج عنه من مس بحقوق الأقلية الفلسطينية كأقلية وطن.

****

 

 

تطمح غالبيّة الأقليّات في العالم إلى حماية حقوقها ووجودها من خلال صياغة دستور. وتعتبر الأقلية الفلسطينيّة الدستور وسيلة لضمان حقوقها كأقليّة في البلاد. بيد أنّ الدّستور المُقترح لا يقدم للفلسطينيين، مواطني الدولة، أيّ تحديثٍ فيما يتعلق بالحماية القانونيّة لحقوقهم، بل على العكس تماما، فهو يمس ببعض الإنجازات القانونيّة التي تم تحقيقها من خلال جهاز القضاء، وسيحد مستقبلاً من أيّة محاولة لتحصيل مكاسب حقوقيّة أخرى.

عند قراءة الدستور المُقترح يشعر القارئ منذ البداية أن صائغي الدستور عملوا جاهدين لتقديس يهوديّة الدولة فجعلوا وثيقة الاستقلال في مقدمة الدستور. وبطبيعة الحال، تتحدّث وثيقة الاستقلال باسم الشعب اليهودي فقط خلافًا للدساتير الليبراليّة التي تتحدث باسم جميع المواطنين، وفي بعض الدّول المتعددة الأعراق تتحدّث الدساتير باسم جميع المجموعات العرقيّة.

ونرى، من خلال قراءة الدستور المُقترح، محاولة منهجيّة لتغييب تاريخ الأقليّة الفلسطينيّة في الدولة ، فتنحصر رموز الدولة، وفق الدستور المُقترح، على الرموز العبريّة فقط، ويعتبر صائغو الدستور اللغة العبريّة "لغة الدولة"، ويكتفي هؤلاء باعتبار اللغة العربية لغة "رسمية" في الدولة. بالمقابل، يعترف الدستور حصريًا بتاريخ الشعب اليهودي وذاكرته الجماعيّة وثقافته بينما تُصوّر الأقليّة الفلسطينيّة كأقليّة مهاجرة في أحسن حال، وليس كأقليّة وطن وجودها مرتبط بشكل أساسي بعلاقتها مع الارض. ولا يكتفي الدستور بتغييب الذاكرة والتاريخ الفلسطينيين إنما يتجاهل أيضًا الغبن التاريخي الذي عانت منه الأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل منذ عام النكبة، وذلك خلافًا لدساتير ليبرالية حديثة تم تبنيها في دول عانت من الصراعات العرقية.

وتكمن خطورة الدّستور أيضا بمحاولته إعادة صياغة حدود النضال القانوني للأقليّة الفلسطينيّة وتحجيمه والمساس بشكل واضح بإنجازات السنوات الأخيرة. إذ لا يتبنى الدستور خطاب توصيات لجنة أور المحدود أصلا والذي أشار إلى التقارب بين وضعية الأقليّة الفلسطينيّة ووضعية الأقليات الأصلانيّة. إضافة إلى ذلك، يحاول صائغو الدستور أن يقيّدوا الإنجازات القانونيّة التي تم التوّصل إليها والتي تعترف، ولو في سياق ضيق، بالحقوق الجماعيّة للأقليّة الفلسطينيّة كما حدث في قضية "عدالة" و"جمعية حقوق المواطن" ضد بلدية تل أبيب حيث أقرّ القاضي أهارون باراك أن اللغة العربية هي لغة أكبر أقلية في الدولة وأن ما يميزها هو كونها جزءًا من موروثها الثقافي. وعند مناقشة الدستور المقترح في إحدى جلسات لجنة الدستور في الكنيست كانت هناك محاولات لإدخال تعديل على صيغة الدستور الموضوعة من أجل تقييد قرار محكمة العدل العليا بصدد الالتماس الذي قدمته عائلة قعدان الفلسطينية التي مُنعت من شراء قطعة أرضٍ في كتسير لكونها عائلة عربية. وفي قرار "العليا" جاء أنه لا يجوز للدولة أن توزّع أراضيها بشكل يتنافى مع مبدأ المساواة.

 

إذًا، لا يترك لنا هذا الدّستور أي خيار سوى معارضته وبشدّة. وكما ذُكر أعلاه، للدستور المقترح إسقاطات وتأثيرات على حقوق النساء الفلسطينيّات أيضاً، فترسيخ دونيّة الأقليّة الفلسطينيّة يؤثر سلبًا على تطوير الخطاب النسوي الفلسطيني في الداخل. إن أحد أهم المعيقات أمام تحصيل المزيد من الإنجازات والحقوق للنساء الفلسطينيات هو الحاجز التقليدي الذي تضعه الدولة بين الحيّز العام والحيّز الخاص، ففي الدُول الليبراليّة، تطالب النسويّات الدولة بأن تنحرف عن الخط الليبرالي التقليدي الذي يحظر عليها بأن تتدخّل بفي لحيّز الخاص احتراما لمبدأ الخصوصية وحرية الفرد بأن يعيش حياته وفقا لقناعاته الشخصية. وتنبع مطالب النسويات للدولة بالحياد عن الخط الليبرالي التقليدي من كون الحيز الخاص، أي البيت، بؤرة أساسيّة للتمييز ضد المرأة.

عندما يشرعن الدّستور تعامل الدولة مع الاقليّة الفلسطينيّة بطريقة دونيّة تفقد الدولة أية شرعيّة تخولها التدخّل في الحيّز الخاص. تجربة النساء الفلسطينيات في سنوات ما بعد أحداث أكتوبر الدامية هي أكبر برهان على ذلك إذ تشير الإحصائيات التي بادرت إليها الجمعيات النسوية إلى انخفاض واضح في نسبة النساء اللاتي يتوجهن للشرطة للتبليغ عن تعرضهن للعنف المنزلي.

فكيف يمكن التعامل مع الشرطة وأجهزة الدولة كعنوان لحماية النساء الفلسطينيات عندما تطلق الشرطة الرصاص الحي على المتظاهرين وتقتل ثلاثة عشر منهم!

إضافة إلى ذلك تصبح أية شراكة بين الحركة النسويّة الفلسطينيّة والدولة بهدف تعزيز مكانة المرأة الفلسطينية مشبوهة وتمس بشرعيّة الحركة النسويّة داخل مجموعتها، فيصبح تلقي المنح أو الدعم المادي من صناديق تابعة للدولة بهدف المباشرة في مشاريع لرفع مكانة المرأة الفلسطينية كالمشاريع الإنمائية شبهة، مما قد يشكل مأزقا للحركات النسوية ويفقدها إلى حد ما قدرتها على تقديم الحلول للنساء الفلسطينيات بعيدا عن مؤسسات الدولة.

وأدّت محاولة صائغي الدستور تقديس يهودية الدولة من جهة، وكون اليهودية هي دين وقوميّة من جهة أخرى، إلى تبني نظام أحوال شخصيّة يمس بجمهور النساء في الدولة، اليهوديات والفلسطينيات على حد سواء.

يشكل نظام الأحوال الشخصية المعمول به اليوم في إسرائيل انتهاكًا لحق الفرد في حرية العقيدة حيث تبنّت الدولة قوانين أحوال شخصيّة دينيّة. بموجب القانون الإسرائيلي يحق لكل مجموعة دينيّة أن تطبّق قوانينها الدينيّة على الأفراد الذين ينتمون إليها. إضافة إلى ذلك أقامت الدولة محاكم دينيّة لتنظر في قضايا الأحوال الشخصيّة (ربانيّة لليهود وشرعيّة للمسلمين وكنسيّة للمسيحيين ومذهبية درزيّة للدروز). بالمقابل هناك محاكم مدنيّة مختصة بشؤون العائلة أو ما يسّمى "محاكم شؤون العائلة" وهي أيضا مُلزمة بتطبيق الأحكام الدينية على الأطراف المتنازعة.

وقد أعطيت المحاكم الدينية صلاحية مطلقة للنظر في قضايا الزواج والطلاق، وما عدا ذلك من قضايا (النفقة، الحضانة، النسب والخ) يحق للأطراف أن يختاروا بين اللجوء إلى المحاكم الدينية أو إلى محاكم شؤون العائلة.

الموقف الرسمي لإسرائيل حيال تبني نظام أحوال شخصية ديني يشرعن دونية المرأة، والمصرح به في المحافل الدولية، هو احترامها لمبدأ التعددية الدينية في إسرائيل. إلا أن موقفها هذا تعرض لانتقادات شديدة على المستوى الدولي. على سبيل المثال، وجهت لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز ضد المرأة انتقادًا لاذعًا إلى إسرائيل خلال جلسة عقدت في شهر تموز المنصرم لمعاينة التقرير الدوري لإسرائيل حول تطبيقها للمعاهدة الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة. فرفض أعضاء اللجنة إدعاء إسرائيل بشأن احترامها لمبدأ التعددية الدينية على حساب حرية الفرد وشددوا على أن هناك دولا عديدة تحترم مبدأ التعددية الدينية لكنها حاولت الموازنة بين التعددية الدينية وحقوق الفرد.

لو شاءت إسرائيل احترام مبدأ التعددية الدينية كما تدعي لما سلبت المجموعات الدينية العربية حقها في المساواة في تلقي الدعم المالي للمحافظة على معالمها الدينية التاريخية بدلا من تركها خربة عرضة للتدنيس من قبل مجموعات متطرفة. الدافع الوحيد لتبني نظام أحوال شخصية ديني هو الحفاظ على نقاء الدم اليهودي وتقديس يهودية الدولة.

مبدئيًا هناك أهمية كبيرة لإفساح المجال أمام المجموعات الدينيّة لممارسة نوع من أنواع الحكم الذاتي فيما يتعلق بالأحوال الشخصية. لكن عندما تتعارض القوانين الدينيّة هذه مع المعتقدات الشخصية لفرد من أفراد المجموعة يجب على الدولة أن تضمن له البدائل العلمانية من منطلق احترامها لحريته الشخصيّة. وعليه لا يمكننا قبول سريان نظام حكم ذاتي ديني من أي نوع كان إذا كان هذا النظام سيسري على حساب حرية الفرد. يجب ضمان حرية الاختيار للفرد، بشكل يكفل لمن يريد الاحتكام بموجب القوانين المدنيّة العلمانيّة اللجوء إلى الإجراء المدني، ويحق أيضًا لمن يريد الاحتكام بموجب الأحكام الدينية اللجوء إلى المحاكم الدينيّة. لكن دولة إسرائيل ترفض بشكل منهجي توفير البدائل العلمانية بغية الحفاظ على الطابع اليهودي للدولة.

ولا تقتصر المشكلة في الدولة فقط على إتباع نظام أحوال شخصيّة ديني، وإنما تكمن أيضًا في عدم محاولة التوفيق بين القوانين الدينيّة وحقوق الإنسان الأساسيّة. على سبيل المثال لا الحصر، يضمن قانون مساواة المرأة في الحقوق حق المرأة في المساواة في جميع نواحي الحياة. إلا أنّ هذا القانون ينص بشكل واضح أنه غير قابل للتطبيق في مجال الأحوال الشخصيّة. أي أنّ الدولة توافق مبدئيًا على تطبيق قوانين أحوال شخصية تميّز على أساس الجنس.

في الوضع الحالي، إذا حاول الكنيست تعديل قوانين أحوال شخصية قائمة أو سن قوانين جديدة ذات مضامين تتنافى مع مبادئ حقوق الإنسان الأساسيّة يمكن التوجّه للمحكمة "العليا" ومطالبتها بإلغاء التعديل أو القانون الجديد. بالإضافة يمكن الالتماس إلى المحكمة "العليا" بصفتها "محكمة عدل عليا" ضد قرارات المحاكم الدينيّة في حالة تجاوزها لصلاحيتها القضائيّة.
يحد الدستور المُقترح إلى مدى كبير من قدرة المحكمة "العليا" على التدخل في كلتا الحالتين.

بموجب الدستور المقترح تملك المحكمة "العليا" صلاحية إبطال قوانين مخالفة للدستور ما عدا القوانين التي تتعلّق بالأحوال الشخصيّة مثل الالتحاق بالدين أو الارتداد عنه، صلاحية المحاكم الدينية، الزواج أو الطلاق الديني وتطبيق قوانين الأحوال الشخصيّة المعمول بها قبل تبني الدستور. يقر الدستور بشكل واضح أن مثل هذه الأمور غير قابلة للمقاضاة الدستوريّة. وإذا اضطرت المحكمة العليا لأن تفسر قانونًا يتعلّق بالمواضيع المذكورة أعلاه، فالدستور المقترح لا يلزمها بإعطاء أفضلية لحقوق الإنسان المنصوص عليها في الدستور على محتوى القانون موضع التفسير.

لا يجب الإستهانة بتاتًا بخطورة تبني نظام أحوال شخصيّة كهذا لأن له إسقاطات سلبية على حقوق النساء ووضعيتهنّ داخل عائلاتهنّ ومجتمعهنّ. يفسح هذا النظام المجال أمام المجموعات الدينيّة لإتباع قوانين تنتهك حقوق الفرد، دون تقييد أو وجود لأجهزة مراقبة . لفهم مدى تأثير هذا النظام المقترح على حقوق النساء يجب أن نتطرّق إلى الدور الذي تلعبه قوانين الأحوال الشخصيّة في حياة الفرد والمجموعة.

فأولاً ترسم هذه القوانين حدود المجموعة (Demarcating)، أي أنها تحدّد من يستطيع أن ينتمي إلى هذه المجموعة أو كيف يخسر الفرد انتماءه للمجموعة من خلال الولادة أو الزواج. على سبيل المثال، تنص قوانين الأحوال الشخصية الخاصة بالمسلمين أن من يولد/ تولد لأبٍ مسلم فهو/ هي مسلم/ ة أما لدى اليهود فيتبع الأولاد الأم في انتمائها للمجموعة. لدى المسيحيين الولادة لأم أو لأب مسيحيين لا تكفي ويجب على المولود/ ة الجديد/ ة أن يعمّد/ تعمّد كي يصبح/ تصبح جزءًا من المجموعة. ويتم رسم حدود المجموعة أيضًا بواسطة إقرار قوانين تحدد كيف ومتى يُسمح لأعضاء وعضوات المجموعة الزواج بأفرادٍ من خارج المجموعة من دون أن يخسروا انتماءهم.
وثانيًا، تنظم قوانين الأحوال الشخصيّة بنوداً تتعلق بتوزيع أو إعادة توزيع الموارد الماليّة وغير الماليّة كالإرث أو ممتلكات الأزواج وتوزيع الحقوق والواجبات بين الأزواج كالنفقة وحضانة الأولاد أو الوصاية عليهم.

 

يفترض مؤيّدو الحكم الذاتي للمجموعات الدينيّة أن للفرد في المجموعة الدينيّة دورًا فعالا في التأثير على إعادة صياغة القوانين الدينيّة التي تسري عليه وعلى مجموعته أو تغييرها، وذلك اعتقاداً منهم أن هذه السلطة تُنقل للأفراد. وعليه يعتقد مؤيدو الحكم الذاتي أن باستطاعة الفرد حماية حقوقه ومصالحه من القوانين المجحفة. إلا أن هذا الافتراض هو مغلوط أساسًا لأن تجارب مجموعات الأقليّة والمجموعات الدينيّة في دول عديدة أثبتت أن نقل السلطة لجميع الأفراد في المجموعة يكون شكليًا فقط وهذا ينطبق بصورة أكبر على وضعية المجموعات الدينيّة في إسرائيل.

 

من النادر أن يتم طرح قوانين الأحوال الشخصيّة للنقاش في الحيّز العام خاصةً في المجتمعات المحافظة. لذلك فإن السلطة تُنقل عادةً لنخبة تدير السلطة المنقولة إليها بشكل يتلاءم ومصالحها. وتتكون عادةً هذه النخبة من رجال، وفي السياق الإسرائيلي تتكون هذه النخبة من رجال دين فقط. ويُغيّب صوت النساء تمامًا لسبب بسيط جدًا هو أنّ المحاكم الدينيّة في إسرائيل ترفض بشكل قاطع، بدعمٍ من مؤسسات الدولة، تعيين نساء كقاضيات في المحاكم الدينيّة. إضافة إلى ذلك ترفض جميع القيادات الدينية المسيطرة أو المعترف بها في إسرائيل بشكل قاطع أن تشاركهنّ النساء في سلطتهم الدينيّة.

وتتعرض النساء اللاتي يحاولن إسماع صوتهنّ ويطالبن بالمشاركة الفعالّة في صياغة الخطاب الديني المتعلق بقوانين الأحوال الشخصيّة إلى رفضٍ وهجومٍ من قبل النخب الدينيّة المسيطرة. يشكل إقصاء النساء عن صياغة الخطاب الديني بتشجيع من أجهزة الدولة وصائغي الدستور خرقًا خطيرًا لحقهنّ في المساواة و"يضمن" لهنّ مكانة متدنيّة داخل مجموعاتهنّ.

تعالج قوانين الأحوال الشخصية مسائل في غاية الخصوصيّة تتعلّق في حياة كل فرد منا كقرار الزواج وتنظم هذه القوانين العلاقات الأسريّة بما في ذلك الجانب المادي لهذه العلاقات. أثبتت تجارب الأقليات والمجموعات الدينيّة في العديد من الدول أن إبقاء هذه الأمور في أيدي النخب التقليديّة يمس بشكل كبير في وضعيّة النساء داخل مجموعاتهنّ وداخل عائلتهنّ. إذ أن هذه القوانين تُستعمل أحيانًا لغرض قمع النساء وتحديد سلوكياتهنّ بشكل يتنافى مع حقهنّ في الخصوصيّة والكرامة والحرية. على سبيل المثال، من الممكن أن تمنح هذه القوانين الحريّة الكاملة للرجال في الزواج من نساء من خارج المجموعة بينما تُحرم النساء من الحق ذاته أو تُحرم النساء من إمكانية توريث انتمائهن للمجموعة لأطفالهنّ.

وعادةً ما يُستغل الجانب التوزيعي لقوانين الأحوال الشخصية لغرض ترسيخ الأدوار النمطيّة للنساء وللسيطرة على سلوكياتهنّ أيضًا. على سبيل المثال، يُستغل نجاح المرأة في عملها وتغيّبها عن المنزل لساعات طويلة كوسيلة لحرمانها من حضانة أطفالها بينما يستعمل نجاح الرجل في عمله لدعم مطلبه في حضانة أطفاله. تُستعمل هذه القوانين أيضا لتعزيز تبعية المرأة الماديّة لزوجها مما يكرّس دونيتها داخل عائلتها وبالتالي يؤثر سلبًا على استقلاليتها. فعلى سبيل المثال تسبب تبعيّة المرأة المادية غالبًا عدم نجاح العديد من النساء المعنّفات بالخروج من حلقة العنف.

تتعلق حدّة هذه الانتهاكات إلى حد كبير باستعداد الدولة لأن تتدخل لحماية الأفراد وتقديم "العلاج" للضرر الذي ألحقته بهم مجموعاتهم. هناك عدة طرق لتقديم العون لمن انتهكت حقوقهم من قبل مجموعاتهم. فمن الممكن نقل السلطة للمجموعات الدينية بشرط أن تحترم هذه المجموعات الخطوط الحمراء التي تقرّها الدولة كحق المرأة في المساواة. من الممكن أيضا أن تضمن الدولة حق الفرد المتضرر بطلب المساعدة في محاكم خارجيّة للدولة وليس المحاكم التي تديرها مجموعته. فكلما تبنت الدولة سياسة عدم التدخل أو ما يسمى non-intervention policy في قوانين المجموعات الداخلية تزيد من إمكانية تعرض الأفراد داخل المجموعة أو بالأحرى المجموعات الضعيفة، أو المجموعات المستضعفة، داخل المجموعة كالنساء والأطفال إلى سوء معاملة أو انتهاك لحقوقهن.

****

 

 

إذا تمعّنا في النظام الذي يتبناه الدستور المُقترح نرى أته يحتوي على المركبات التالية:

أولا يتم نقل السلطة إلى المجموعات الدينيّة دون إقرار خطوط حمراء واضحة بل على العكس تماما تتم شرعنة حريّة هذه المجموعات بمخالفة الدستور والتمييز ضد النساء، ثانيا يتم سلب الفرد من حقه في التوجه إلى المحاكم الخارجية كالمحكمة "العليا"، وأخيرا يتم تبني هذا النظام بالرغم عن أن تمثيل النساء في مواقع اتخاذ القرار (فيما يتعلق بالأحوال الشخصيّة) هو معدوم لدى كل المجموعات الدينيّة في إسرائيل مما يحرمهن من الفرصة بإعادة صياغة الخطاب الديني بما يتلاءم واحتياجاتهنّ. وعليه يمكن اعتبار الدستور المُقترح بصيغته الحالية مشروعًا للتمييز ضد النساء وللمس بمكانتهنّ في العائلة وفي المجتمع. ويستغل الدُستور جمهور النساء بشكل غير أخلاقي لغرض تقديس يهوديّة الدولة.

 

(*) الكاتبة محامية ناشطة في "جمعية حقوق المواطن".

المصطلحات المستخدمة:

لجنة أور, باراك, وثيقة الاستقلال, الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات