تُظهر المعطيات أن ثلاثة من بين كل أربعة قتلى تكبدهم الجيش الإسرائيلي خلال الإنتفاضة الحالية (حوالي 75% من مجموع قتلى الجيش) ينتمون إلى المجموعات الهامشية، أو على الأدق المهمّشة، في المجتمع الإسرائيلي ويرى الأستاذ الجامعي ياغيل ليفي في تحليله لمعطيات (عسكرية إسرائيلية) رسمية حول قتلى الجيش الإسرائيلي خلال انتفاضة الأقصى والقدس أن الجيش الإسرائيلي ذاته يمر اليوم في أوج عملية مشابهة لتلك التي مرّ بها الجيش الأميركي إبان حرب فيتنام، مؤكداً أن "المسح الإجتماعي لقتلى الجيش- الإسرائيلي- منذ إندلاع انتفاضة الأقصى يعطي مؤشراً واضحاً إلى هذا الإتجاه".
كَثُرَ الحديث في الأوساط الإسرائيلية خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما منذ إندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الحالية التي تكبدت إسرائيل خلال سنواتها الأربع المنصرمة خسائر بشرية ومادية كبيرة، عن عبء الخدمة العسكرية الجسيم الواقع على كاهل قطاعات وشرائح معينة في المجتمع الإسرائيلي، واتخذ هذا الحديث المتواتر شكل النقد الصريح و"التململ" الهادىء حيناً، والتذمر والإحتجاج الصارخين وإلى حد "العصيان" و"التمرد" المحدود في أحيان أخرى.
وتطفو على هامش هذا الحديث، من حينٍ إلى آخر أسئلة، لا تخلو من صراحة في النقد وحِدة في التشكيك، من قبيل:
لماذا تتحمل فئات إجتماعية معينة دون سواها الجزء الأكبر من عبء التجنيد وخدمة الإحتياط؟
أين هو الجيش الإسرائيلي من توصيف "جيش الشعب"، حسب المقولة التي أسبغها عليه مؤسسو الدولة العبرية عند تأسيسه؟
هل حافظ الجيش على "العمود الفقري التاريخي" في تركيبته الإجتماعية والمؤلفة من النخب والطبقات الراقية والمتعلمة، الأشكنازية والعلمانية، أم أن هذه التركيبة شهدت، خلال العقود الأخيرة، تغييرات جوهرية، على غرار جيوش الدول الغربية الصناعية؟
والسؤال الأهم: من هي حقاً الفئات التي تدفع الجزء الأعظم من "فاتورة الخسائر البشرية" التي يتكبدها الجيش في حربه المستمرة ضد الفلسطينيين؟..
هذه الأسئلة وسواها أثارها أخيراً، وقدم نوعاً من الإجابات عليها، الدكتور ياغيل ليفي، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الإسرائيلية المفتوحة، ومؤلف كتاب "جيش آخر لإسرائيل" (إصدار "يديعوت أحرونوت"، 2003)، وذلك من خلال تحليل مطوّل ومعّمق له تناول فيه بالدراسة والتشريح معطيات رسمية حول قتلى الجيش الإسرائيلي خلال "إنتفاضة الأقصى والقدس" التي دخلت عامها الخامس.
وللأهمية نقدم فيما يلي قراءة لأهم الجوانب والإستنتاجات التي خلُص إليها د. ليفي في تحليله (المنشور في صحيفة "هآرتس" بتاريخ 4 شباط 2005).
يستهل د. ليفي قائلاً:
ترددت في الخطاب الشعبي الأميركي في السبعينيات مقولة مؤداها أن الجنود الفقراء هم الذين ُيقتَلون في حرب فيتنام. وكانت هذه المقولة على علاقة بالتغيير الذي طرأ على تركيبة الجيش الأميركي، والذي احتل فيه الأميركيون من أصل إفريقي بالتدريج مكان أبناء النخب.
بهذه المقاربة بدأ ياغيل ليفي تحليله لمعطيات (عسكرية إسرائيلية) رسمية حول قتلى الجيش الإسرائيلي خلال انتفاضة الأقصى والقدس، ليؤسس عليها بأن الجيش الإسرائيلي ذاته يمر اليوم في أوج عملية مشابهة لتلك التي مرّ بها الجيش الأميركي إبان حرب فيتنام، مؤكداً أن "المسح الإجتماعي لقتلى الجيش- الإسرائيلي- منذ إندلاع انتفاضة الأقصى يعطي مؤشراً واضحاً إلى هذا الإتجاه".
ويشير "ليفي" إلى أن "المسح" الذي يبني عليه تحليله يقتصر على قتلى الجيش الإسرائيلي و"حرس الحدود" الذين سقطوا في المواجهات مع الفلسطينيين منذ إندلاع الإنتفاضة (229 قتيلاً) ولا يشمل عشرات الجنود الذين قتلوا في الهجمات الإنتحارية داخل الخط الأخضر.
ويُلخِص ليفي الإستنتاج العام الأولي الذي توصل إليه في تحليله، بالقول إن المعطيات تظهر بوضوح أن "الإنتفاضة- الحالية- هي حرب الشرائح الإجتماعية المهمشة" في إسرائيل وأن "التغيير في التركيبة الإجتماعية للوحدات المقاتلة في الجيش يتجلى في خريطة- مسح- ضحاياه، وأكثر من ذلك في ردة الفعل السياسية تجاه التضحية".
ويستطرد "ليفي" مبيناً أن وزن أو نصيب "مجموعات النخبة التقليدية" من الشريحة الأشكنازية العلمانية المنتمية للطبقة الوسطى، والتي كانت تشكل "العمود الفقري التاريخي" للجيش الإسرائيلي، تراجع إلى حوالي 14% فقط، معتبراً أن ذلك يمثل "تغييراً ملموساً مقارنة مع نسب التضحية (تضحية الشريحة المذكورة المتحدرة من الطبقة المتوسطة المتمركزة في المدن والكيبوتسات القديمة) في حروب سابقة". ويضيف أن نسبة مماثلة، حوالي 12%، قائمة لدى الأشكنازيين العلمانيين المنتمين إلى الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى في مدن الضواحي، مشيراً إلى أن هذه النسبة "تعكس بدرجة كبيرة وزن المجموعات في المستوى القتالي وفي صفوف السكان اليهود"، لكن الفرق أو الإختلاف يكمن على رأي المحلل في أن "الإسهام العسكري لهذه الفئات كان في الماضي أعلى بنسبة أكبر من وزنها الديمغرافي".
ويمضي "ليفي" في تحليله لمعطيات قتلى الجيش خلال الإنتفاضة الحالية، مبيناً أن حوالي 75% من القتلى ينتمون إلى المجموعات السكانية "المهمشة" في المجتمع الإسرائيلي، والتي لم تكن تشكل في الماضي جزءاً من العمود الفقري التاريخي للجيش الإسرائيلي، فهي- والحديث عن المجموعات المهمشة ذاتها وفي مقدمتها الشرقيون والمهاجرون الروس- "لم تبرز في الماضي بين صفوف الجيش ولم تظهر في سجل إنجازاته ورموز تخليده، كما أن حضورها في الوحدات المختارة وفي سلك القيادة العليا كان دون نسبة تمثيلها بين مجموع السكان".
ولا شك أن هذه الهامشية عكست وكرست على حد سواء مكانة المجموعات في الهرم الإجتماعي في إسرائيل، سواء على الصعيد الثقافي- بالمقارنة مع الثقافة الأشكنازية الذكرية المهيمنة (مجموعات المتدينين- الوطنيين أو "ذوي القبعات المنسوجة" والنساء والمهاجرين)، أم على الصعيد الثقافي والمادي في آن معاً (خاصة المجموعات الشرقية والعربية).
الشرقيون- الحصان الأسود
وبالعودة إلى المعطيات يبين التحليل أن حوالي 37% من قتلى الجيش (خلال إنتفاضة الأقصى) ينتمون إلى الطوائف اليهودية الشرقية، وينتمي الجزء الأكبر من القتلى جغرافياً إلى مدن الضواحي وتجمعات المهاجرين، في حين ينتمي جزء قليل إلى الشريحة الأساسية في الطبقة الوسطى المدينية المتمركزة في وسط البلاد والقدس. وتصل نسبة المنتمين لتيار الصهيونية- الدينية (القبعات المنسوجة) من أصل أشكنازي بين القتلى إلى نحو 9%، حوالي 5% منهم من القاطنين داخل "الخط الأخضر" (الباقي من سكان المستوطنات في الأراضي المحتلة) وهي نسبة تقل عن وزنهم بين مجمل السكان اليهود.
أما نسبة القتلى من صفوف المهاجرين من دول الإتحاد السوفياتي السابق والفلاشا الأثيوبيين والمهاجرين الجدد من دول أخرى فتصل إلى حوالي 18% من مجموع القتلى العسكريين، وهي نسبة تقترب من درجة تمثيل مجموعات المهاجرين في الجيش ومن وزنها بين السكان اليهود.
وللمرة الأولى منذ حرب العام 1948 هناك أيضاً، حسبما تبين المعطيات، "ضحايا" في صفوف مجندات الجيش الإسرائيلي، إذ بلغت نسبة المجندات القتيلات منذ إندلاع الإنتفاضة 1,5% من مجموع قتلى الجيش. ويشار إلى أن الإناث يشكلن نسبة لا بأس بها من مجموع القوات المسلحة الإسرائيلية تصل إلى نحو نصف عدد الأفراد في الخدمة الفعلية، وتؤدي أغلبيتهن مهمات مكتبية في الغالب، لكن "ليفي" لاحظ في تقريره أن إقبال الإناث المجندات على المهام القتالية إزداد خلال السنوات الأخيرة. وتصل نسبة القتلى من المجندين العرب- البدو والدروز- إلى حوالي 8%، وهي نسبة أعلى بكثير من وزنهم الفعلي الضئيل في الجيش الإسرائيلي، ومن ناحية عملية فإنهم يكملون فجوات التمثيل لدى المجموعات اليهودية.
اتجاه في طريقه نحو التعمق
ويستدل من تحليل وتوزيع المعطيات بين القوات النظامية وقوات الإحتياط (الأخيرة غير ممثلة في قائمة القتلى) أن التغيير في تركيبة الوحدات القتالية في الجيش لجهة الإبتعاد عن "المركز" سيشهد في السنوات القليلة المقبلة مزيداً من الإتساع والتعمق، وذلك لأن الإتجاهات المطروحة تبرز أكثر لدى الجيش النظامي. فضلاً عن ذلك، فإن الإصلاحات التي يخطط الجيش لإجرائها في أنظمة الخدمة الإلزامية من شأنها فقط أن تدفع هذا الإتجاه قدماً، وذلك بمقدار ما سيكون التجنيد قائماً على أسس إنتقائية ممزوجة بحوافز مادية- اقتصادية وإلى حد إلغاء جزء من المكونات الأساسية للخدمة الإلزامية... وفي ظل هذا الوضع، من المتوقع أن تزداد نسبة الأكثر فقراً والأكثر حوافز أيديولوجية بين الملتحقين بالخدمة العسكرية، وبما تفوق بكثير نسبة أبناء الطبقة المتوسطة والمتوسطة العليا.
بناء على ذلك يخلص "ليفي" من خلال تحليله لهذه التوجهات إلى استنتاج واضح مؤداه أن مقولة "جيش الشعب"، التي ظل الزعماء والمؤسسون الصهيونيون للدولة والجيش الإسرائيلي يتفاخرون بها في العقود الماضية، أضحت مجرد وهم يهذي به الحالمون.
أزمة الدافعية وعزوف النخبة العلمانية
ويرى "ليفي" في تحليله أيضاً أن "خريطة ضحايا" الجيش تعكس "عملية تاريخية" موضحاً: منذ حرب "يوم الغفران" (تشرين الأول 1973) لوحظت بداية العزوف عن الخدمة في الجيش من جانب الشريحة العلمانية الذكرية المؤلفة من الشبان الأشكناز، الذين كانوا يشكلون "العمود الفقري التاريخي" للجيش الإسرائيلي، بمن في ذلك أبناء ما يسمى بـ "الإستيطان العامل" [القرى التعاونية والكيبوتسات]. وأضاف أن "هذه العملية بلغت الأوج في التسعينيات" وعُرِفت في الخطاب العام بما اصطلح عليه "أزمة الدافعية".
وقد نجمت هذه العملية عن تضافر عاملين رئيسيين، أولاً: تدني مكانة وسمعة الجيش الإسرائيلي، والتي عكست نفسها أيضاً على هبوط المكانة الإجتماعية لأفراده، وثانياً: احتدام التناقض بين متطلبات الخدمة وبين المتطلبات المتزايدة لسوق العمل التنافسي.
وكان الإنتعاش الإقتصادي الكبير الذي شهدته إسرائيل في منتصف التسعينيات، ولا سيما في مجال الألكترونيات، قد ساهم كما هو معروف في جذب الكثير من الكفاءات إلى القطاع الخاص سعياً وراء الرواتب الكبيرة، الأمر الذي أفقد المؤسسة العسكرية نسبة كبيرة من النخبة وأثر في تفوقها النوعي على صعيد العنصر البشري.
هذا الفراغ الناجم عن "هروب" النخبة من الجيش إلى القطاع الخاص، إمتلأ تدريجياً، كما يقول "ليفي"، بمجموعات هامشية (الشرقيين والمهاجرين الروس) رأت في ذلك فرصة لتحسين أوضاعها الإقتصادية ومكانتها الإجتماعية. وأضاف أن التغيير في تركيبة الجيش اكتسب دفعة جديدة في عقد التسعينيات عقب توقيع اتفاقيات أوسلو والإنسحاب من جنوب لبنان. ومن هنا، استطرد ليفي مبيناً: عندما إندلعت إنتفاضة الأقصى- أواخر العام 2000- كانت "التركيبة الجديدة" للجيش الإسرائيلي (وقوامها الأساسي من الفقراء أبناء الطوائف الشرقية والمهاجرين الروس والفلاشا والنساء والدروز والبدو) ولا سيما أفراد القوات البرية المقاتلة قد تبلورت نسبياً بشكل أوضح.
وتنظر المجموعات الجديدة للجيش- كما يقول ليفي- كموقع يمكن لها بواسطته تحقيق تعبير أيديولوجي وتشكيل هويتها وترك بصماتها وتأثيرها على الجيش، بما في ذلك من باب تحدي ومنافسة شخصية "الصابرا" الإسرائيلي، التاريخي، كما وسعيا منها وراء إيجاد مسارات تقدم بديلة لمسارات التقدم المدنية، التي لا تتاح للبعض منها إلا بقدر ضئيل للغاية.
تركيبة مريحة للجيش
في إستنتاج آخر على قدر كبير من الأهمية، يرى د. ليفي أن مسح "ضحايا" الجيش يساعد "ليس فقط في التعرف على التركيبة الإجتماعية للجيش (الإسرائيلي) بل ويساعد أيضاً في الوقوف على العامل الإجتماعي- السياسي للتضحية"، موضحاً أن "التضحية" بالنسبة لقسم من المجموعات المذكورة تتحول بالتدريج إلى مكوّن في نموذج جديد للإسهام القومي، يملأ فراغاً تركته مجموعات النخبة التقليدية.
بناء على ذلك- هنا يلخص ليفي جوهر استنتاجه- فإن الضحية لا تولد إحتجاجاً في صفوف الشرائح الإجتماعية المدنية وإنما نوعاً من التسليم بالأمر بل ورافعة للتعبير أو التجسيد الذاتي اجتماعياً وسياسياً.
في المقابل، فإن "الضحايا القليلة نسبياً" بين المجندين المنتمين للطبقة المتوسطة الأشكنازية العلمانية أثاروا مِراراً إحتجاجاً من جانب ذويهم وعائلاتهم والتي طعنت وشككت في منطقية ومبررات الحرب ضد الفلسطينيين.
وبنفس القدر من الأهمية، لاحظ "ليفي" مضيفاً: "على هذه الأرضية يمكن فهم لماذا لم تولد ضحايا الجيش [إبان سنوات الإنتفاضة الحالية] حركة إحتجاج من طراز (أربع أمهات)- التي لعبت دوراً مهماً في خلق رأي عام مؤيد للإنسحاب من جنوب لبنان- على الرغم من الشعور العام المتدّعم بأن تقديم الضحايا (في مواجهة الإنتفاضة) عديم الجدوى".
وعلى ذلك أيضاً، يرى "ليفي" أن ما يحرّك عملية الإنفصال عن الفلسطينيين، على الصعيد الإجتماعي- السياسي، ليس عامل "الثمن البشري" الذي تدفعه إسرائيل في المواجهة، وإنما الرابطة، أو الصلة الوثيقة بين النمو الإقتصادي وبين الهدوء العسكري.
من هنا أيضاً يأتي توجه الجيش الإسرائيلي نحو قبول التغيير في تركيبته الإجتماعية، بل وتكريسه ومأسسته عملياً عن طريق التغييرات المقررة في نموذج- نظام- التجنيد، والتي ستؤدي إلى جعل صفوفه قائمة على المجموعات التي تذّوت وتستوعب النهج العسكري بإذعان وحماس ولا تقوم بتعبئة مؤسساتها وأطرها الإجتماعية المدنية لتحدي هذا النهج أو الإحتجاج عليه مثل حركة "أربع أمهات" وغيرها من المنظمات الإحتجاجية التي إنبثقت في غالبيتها عن الطبقة المتوسطة والنخب الإجتماعية، الأشكنازية والعلمانية في معظمها.
ويختم د. ليفي تحليله مؤكداً أن للتغيير في تركيبة الجيش إنعكاسات جوهرية على قدرته على تمثيل غالبية المجموعات في المجتمع الإسرائيلي، بشكل عام، وعلى الرقابة السياسية على عمل الجيش وإدارته، بشكل خاص.
المصطلحات المستخدمة:
حرس الحدود, الخط الأخضر, يديعوت أحرونوت, هآرتس, جيش الشعب, دورا