المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

محاولة اخرى لتقصي ملامح ظاهرة ثقافية لافتة للنظر في منطقتنا، أخذت ملامحها تتشكل أمامنا بوضوح في العقدين الأخيرين وبوتيرة متصاعدة، وتتحول بذاتها إلى قضية ثقافية مهمة. تلك هي ظاهرة الترجمة على “خط التماس”، التي تحاول، بوضوح، “هندسة” الوعي بالآخر من خلال ما يُترجَم له وعنه من نصوص، كما بدت في التجربة الاسرائيلية - العربية بكثير من اللبس والبلبلة (الآثمة و “البريئة” على السواء)، على مدار عشرات السنين!

محمد حمزة غنايم
ورقة مقدمة الى “المؤتمر العربي الاول للترجمة” المنعقد في بيروت يومي 28 و 92 يناير الماضي، بمبادرة من “المنظمة العدبية للترجمة”، وبمشاركة نحو تسعين باحثا عربيا من مختلف اقطار الوطن العربي، وبضمنها فلسطين، بالاضافة الى عدد من المفكرين العرب المقيمين في اوروبا.

1) اشارات عامة

احب، في البداية، أن أنوّه إلى ان ما سأقدمه هنا لا يعدو كونه محاولة اخرى لتقصي ملامح ظاهرة ثقافية لافتة للنظر في منطقتنا، أخذت ملامحها تتشكل أمامنا بوضوح في العقدين الأخيرين وبوتيرة متصاعدة، وتتحول بذاتها إلى قضية ثقافية مهمة. تلك هي ظاهرة الترجمة على “خط التماس”، التي تحاول، بوضوح، “هندسة” الوعي بالآخر من خلال ما يُترجَم له وعنه من نصوص، كما بدت في التجربة الاسرائيلية - العربية بكثير من اللبس والبلبلة (الآثمة و “البريئة” على السواء)، على مدار عشرات السنين!

تشكلت هذه الظاهرة في ظل عملية اهتمام متبادل بـ “الآخر” العدو، وقد تمت على الغالب وسط حالة من “الفوضى”، نجمت عن غياب الاستراتيجية والتخطيط في ما يتم من نشاط في هذا الحقل من والى اللغتين: العبرية والعربية.

هذه تلخيصات شخصية مرحلية لجوانب مختلفة من التجربة المتبادلة، التي يخيل لي انها حُمّلت اكبر من طاقتها في نطاق الاهتمام الثقافي العربي (الاكاديمي، اساسا) بما تنتجه “خطوط التماس” المتلاحمة منذ بدايات الصراع من ادب وثقافة وابداعات، وكذلك في النطاق الاكاديمي الاستعرابي العبري، الذي لم تكن الترجمة فيه اكثر من “ضحية” للتوجهات السائدة في الصراع المزمن بين اسرائيل والفلسطينيين والعرب.

منذ البداية، حاصرت “السياسة” هذه الظاهرة التي تعكس قدرا معينا من “الفضول الثقافي”، وجعلتها عاجزة عن اداء ما انيط بها من “ادوار وهمية” فوق ساحات الصراع، وعلى الجبهة الثقافية بالتحديد، وتركتها تحت هيمنة كاملة لصالح “السياسي” على الثقافي، في احد اخطر مجالات النشاط الثقافي الانساني.

ولا بأس من الاشارة ايضا الى ان هذه التلخيصات نجمت اساسا عن تداخل شخصي في الترجمة من والى اللغتين المذكورتين، في تجربة امتدت خلال عقدين “حاسمين” من الصراع “الثقافي” بين الثقافتين، العبرية والعربية - الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. ولأن الترجمة عندي كانت خلالها شكلا متقدما من اشكال “الحوار بين الثقافات”، فإن هذه التلخيصات تعني الكثير بالنسبة لهذه التجربة، عند الربط بينها وبين تلخيصات اخرى تخص مختلف الظواهر الثقافية على ساحة الحوار الغائب بين الثقافات في بلادنا ومنطقتنا. في ذلك، برأيي، ما يفسر النتائج بالاسباب (”حوار الطرشان”، مجازا، على سبيل المثال، وإن كانت هذه الموضوعة - الحوار - تدخل في سياق ثقافي مختلف)، عندما نجد قصورا كبيرا في هذا المجال، رغم ما تحقق لنا من انجازات حتى الان.

لست هنا بصدد التأريخ للترجمة على خط التماس، فهي مهمة شمولية متشعبة يتداخل فيها السياسي والثقافي وتمس مفاصل محورية في تاريخ الصراع، ارى انها جديرة باهتمام البحث الاكاديمي العربي في “الاسرائيليات”. بدلا من ذلك، سأحاول تقديم بعض التلخيصات الاولية المتعلقة بهذا المجال، مفسرا ومعقبا، ومقدما بدائل من عندي في ترجمة وقراءة ونقد النص الابداعي العبري المترجم للعربية، بطريقة قد تفاجىء البعض، وتثير الحفيظة لدى اخرين. وهي تلخيصات تخص اساسا ما استجد على ساحة الابداع الثقافي العبري في العقدين الاخيرين، بتأثير من نظريات الحداثة وما بعد الحداثة، وتدعو للتعامل معها من منطلقات جديدة ومختلفة.

2) الترجمة عن العبرية: نظرة عامة

انتجت المؤسسة الثقافية الاسرائيلية، ذات الجذور التاريخية العائدة الى مطالع القرن الماضي، رافدا تثقيفيا مهما في عملية الاثراء والتجدد التي خاضتها بين التجمعات السكانية اليهودية في فلسطين، وبالتحديد على جبهة اللغة العبرية.

الآن، وبعد تجربة طويلة تمتد على اكثر من قرن من الصراع العربي - الصهيوني، صار بإمكاننا ان نتبين حجم الدور الحاسم الذي لعبته هذه المؤسسة بواسطة الترجمة من لغات العالم الحية والفرعية الى اللغة العبرية - في إحياء وتجديد اللغة اولا، وفي تطوير تقاليد ثقافية في القراءة والتأليف والابداع، لم تكن ابدا احادية الاتجاه، بالدرجة التالية. وهناك اتفاق واسع بين علماء الالسنية اليهود وقطاع واسع من الباحثين في الجامعات الاسرائيلية، على دور الترجمة الى العبرية الحاسم في تحديث اللغة العبرية ونقلها من جمودها التاريخي الى صيغة اكثر مرونة في التعبير والانتقاء والاخذ من اللغات الاخرى التي تترجم عنها.

تفاوتت وتيرة المشروع الثقافي العبري في “القرن الاول على الصهيونية”، واختلف حجمه من فترة لاخرى ومن شرط لآخر، ما جعل نطاق وانواع ولغات الترجمة تتغير من مرحلة لاخرى، في عملية تراكم كمي ونوعي للظاهرة، ولامتداداتها الثقافية الغنية في المجتمع الكبير. لم يُكتب الكثير في تاريخ الترجمة من لغات العالم الى العبرية، ولا في تاريخ الترجمة من العبرية الى لغات العالم، وبضمنها العربية، وسوى عدد قليل من الرسائل الجامعية المتخصصة في المجالات الادبية اساسا، لا يكاد الباحث يتوصل الى الاحاطة بمختلف جوانب العملية، ما يجعل المتابعة الشخصية لما يترجَم هنا من لغاتِ وادابِ وثقافاتِ العالم للعبرية ومنها الى لغات العالم امرا ضروريا للغاية في عملية القياس.

هناك احصائيات رسمية عبرية، يشترك اكثر من جسم ثقافي رسمي وشعبي في تنظيمها، تدل على ان عشرات العناوين المترجمة تصدر يوميا في “الدولة اليهودية”، في مختلف مجالات الثقافة والعلوم والاداب، علاوة على عشرات الكتب والصحف والمجلات الموضوعة اصلا بالعبرية. وقد تسارعت وتنظمت هذه العملية على مدار العقود التالية على النكبة (1948)، الى حد ان “ورشة الترجمة العبرية” الضخمة تحولت خلال فترة قصيرة نسبيا الى منظومة هائلة من الهيئات والمؤسسات والاوساط، تشترك مجتمعة في رسم حدود ثقافة “الاسرائيلي العادي”، وتحديد مضامينها واتجاهاتها العامة.

يوميا، تصدر في اسرائيل عشرات العناوين المترجمة في مختلف مجالات الابداع والثقافة والعلوم، ومن معظم لغات العالم الحية، وكذلك من لغات وآداب “ثانوية”، بعد ان تطورت الطريقة والمنهج في عملية الترجمة، واصبحت العملية تقاس بمدى ما تدر من ارباح مادية اولا، قبل الارباح المعنوية والثقافية، مع انها تتحقق لها عادة من خلال اختيار النصوص الممتازة لنقلها للغة العبرية. وذلك صحيح بشكل خاص في الفترة المشار اليها، بعد ان تم خصخصة الترجمة وتحويلها الى الوسط الجماهيري، وقـَلَّ تدخل الدولة في الاتجاهات والمضامين.

وبينما تركزت الترجمة الى العبرية، التي قامت بها مؤسسات وقطاعات خاصة وافراد في الاساس، وكذلك هيئات شبه رسمية تتلقى دعما ماليا من مؤسسات ووزارات رسمية ناشطة في مجال الثقافة والعلوم، في تكوين ثقافة عبرية شمولية متطورة وعصرية في بلادنا، تؤدي اللغة العبرية دور الواجهة الاساس فيها، نجد ان الترجمة من العبرية الى لغات العالم كانت تأخذ في معظم الاحيان طابعا انتقائيا، وبخاصة في الترجمة الى اللغة العربية.

يتصل تطور الترجمة، في ذات الوقت، بتطور اللغة العبرية وتجددها في السنوات الحاسمة التي سبقت وتلت نكبة العام 1948 وقيام الكيان اليهودي القومي في فلسطين. كانت تلك عملية تطور حتمي لاهتمامات الاستيطان اليهودي الثقافية والعلمية، قامت اولا على توفير متطلباته العلمية والتربوية والسياسية، باعتبارها جزءا من المشروع الاستيطاني الشامل في البلاد، الذي سعى الى بعث الثقافة والكيان القومي اليهودي فيها، ليس فقط “بقوة الذراع”!

يعود تاريخ الترجمة للعبرية الى الاف السنين (غدعون طوري: 1982)، وتدل الدراسات الاسرائيلية على ان فترة المِقـْراه المبكرة تشير الى وجود اتصالات بلغات اخرى، ساميّة بشكل خاص، تحمل مؤشرات على الترجمة الى هذه اللغة (طوري، 1982). كذلك فإن “ادب الحكماء” ينطوي على مؤشرات كثيرة كهذه، كان ابرزها في الترجمة من اللغتين الآرامية واليونانية الى اللغة العبرية. وقد شهد القرن الثاني عشر نشاطات متزايدة في ترجمة نصوص مكتملة، وبخاصة كتب الفلسفة والعلوم، جاء معظمها من العربية وفي مرحلة لاحقة من اللغة اللاتينية. “بعدها تختفي الترجمة فترة طويلة، لكن عملية النهضة اللغوية والادبية في فترة الهسكلاة كانت متصلة ايضا بيقظة الترجمة للعبرية، سواء كانت الترجمة العلمية (وبخاصة العلوم الشعبية) او الادبية منها. ومنذ منتصف القرن الثامن عشر ظهرت ترجمات في الشعر، تعززت بشكل بارز في القرن التاسع عشر، الى ان اصبحت تقليدا متطورا اليوم” (طوري، 1982).

استُبدلت الالمانية كلغة اساسيّة مفضّلة في الترجمة الى العبرية باللغة الروسية، ومن ثم استبدلت الروسية بالانجليزية، تبعا لاهتمامات المثقف العبري وتفضيلاته اللغوية، سواء كانت تلك لغات اجنبية عاش وسط الناطقين بها، او لغات حضارية اساسية في اوروبا. وكانت هناك فترة معينة من اواسط القرن الماضي احتلت فيها لغة يهودية قديمة هي لغة الايديش مكانة بارزة في الاخذ عنها للعبرية. ويكتب الاستاذ الجامعي الاسرائيلي غدعون طوري ان مشاكل خاصة في الترجمة للعبرية، ثارت عندما كفّت اللغة عن ان تكون لغة محكيّة عامية. ومنذ ان اعتمدت العبرية على مصادرها المكتوبة الاولية، تجمدت الى حد كبير ولم تعد قادرة على التعبير عن جميع الاشياء التي يتم التعبير عنها في اللغات الحية. تعمقت الهوة مع الوقت عندما تغلغلت الى الكتابة باللغات الاخرى اسس من اللغة المحكية، بينما بقيت العبرية لغة ادبية فقط، كما كان من قبل (طوري: 1982).

كـُتب القليل من الابحاث في وصف تطور ومزايا الترجمة الادبية من الادب العبري الحديث للغة العربية، ومن الادب العربي الحديث للغة العبرية. ولدينا على الاقل بحثان علميان جديدان وشاملان في هذا الحقل، هما رسالتا دكتوراة قدمتا الى الجامعة الاسرائيلية، الاولى للدكتور محمود كيال الاستاذ في جامعة تل ابيب، حول “انماط الترجمة في الترجمات من الادب العبري الحديث للغة العربية بين السنوات 1948 - 1990” (جامعة تل ابيب، اغسطس 2000)، والثانية للدكتورة حنه عميت كوخافي، تعالج اتجاها معاكسا هو “ترجمات الادب العربي للعبرية: الخلفية التاريخية - الثقافية، مزاياها ومكانتها في الثقافة الهدف” (جامعة تل ابيب، مارس 1999).

لكن بحثا علميا شاملا في الشق الاول من المعادلة المتبادلة، مُنقحا ومعدّلا، ما زال في نطاق التحدي الثقافي اللازم، الذي ارى انه كامن في جانبنا اولا، قبل ان ننزاح به - نتيجة قصور في التتبع والمعرفة - الى مدار “التطبيع” مع “الاخر” وثقافته، بموجب النظرة التقليدية السائدة حول الصراع ومحاوره المختلفة، وبضمنها الثقافي.

هذه ظاهرة تحمل الكثير من العزلة، فقد طلت النصوص المترجمة عن العبرية اولا، وعن العربية بالدرجة التالية، داخل المجال السياسي الدعائي، وتم التعامل معها على هذا النحو كل الوقت. وقد اجمل احد الباحثين الفلسطينيين حالة الترجمات المتبادلة هذه، كما اداها مترجمون فلسطينيون بالاساس، والدائرة بمعظمها في محور الصراع، بالكلمات التالية: “بوجه عام، تتم الترجمات عن العبرية عن طريق كتّاب الحزب الشيوعي واليسار، ويلاحظ كثرة المترجَم عن ادب الاطفال، كما يلاحَظ بوجه عام ان الثقافة الصهيونية ليس لديها ما تقدمه للفلسطيني المثقف، لذلك يغلب على المادة المنتقاة للترجمة طابع الشهادات المعادية للنظام الصهيوني وممارساته او طابع النقد الاجتماعي”. (د. حسام الخطيب: حركة الترجمة الفلسطينية، بيروت، 1995).

وفي الاتجاه المعاكس، تعود جذور الترجمة من العربية الى العبرية الى عهد الانتداب البريطاني، ولكن الذين قاموا بها هم باحثون اسرائيليون متخصصون وليسوا عربا. وفي خارج فلسطين، لوحظ ابتداء من الثمانينات نشاط جديد في مجال الترجمة من العبرية الى العربية في مراكز البحث العربية ومؤسسات النشر التجارية، وهذه الترجمات تنصب عادة على ناحيتين: المعلومات عن العدو، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، وفضائح ممارسات العدو الصهيوني ضد العرب في فلسطين والاراضي العربية الاخرى المحتلة، “وهذا يعني اننا لسنا ازاء حالة تبادل ثقافي بالمعنى الذي يمكن ان يوحي به الكلام على نشاط الترجمة، بل نحن ازاء حالة من حالات مبدأ إعرف عدوك، كما يظهر جليا من خلال نظرة تاريخية الى المشهد كله”. (الخطيب، 1995).

بوحي من هذا التشخيص، تبدو التلخيصات البحثية العربية في هذا الحقل محصلة طبيعية لمعرفة محدودة من جانبنا بواقع الترجمة من اللغتين، العبرية والعربية، وبخاصة تلك المتعلقة منها بحجم الكتب الصادرة في العقدين الاخيرين من القرن الماضي. وليس هناك ما هو افضل من قائمة المصادر التي اعتمد عليها الخطيب في بحثه المذكور، لنتوصل الى ان احتياطي المراجع في “الاسرائيليات” لدينا محدود للغاية، ما يجعل من مصادر الخطيب على سبيل المثال “نموذجية” في الابحاث العربية المكتوبة عن الادب العبري. كذلك هو الحال مع النصوص المترجمة من العبرية الى العربية، وبشكل عام من والى اللغتين، بحيث لا نكاد نجد بحثا عربيا - على قلة ما يكتب من ابحاث في هذا الشأن - لا يتضمن معظم مراجع ومصادر البحث هذه. وقد نوّه الخطيب الى ان اللافت للنظر في الترجمات عن العبرية، المنشورة في بلادنا، هو “ضآلة ما نشر منها، وباستثناء بعض الترجمات من الادب العبري، وبعض الترجمات الماركسية الاممية، لا نجد شيئا يذكر” (الخطيب: 1995). وفي ذلك اصاب الخطيب جوهر المشكلة، عندما توصل الى انه “اذا كان الرفض القومي هو السبب الاساسي فإن هناك سببا علميا مهما يحسن تذكره وهو الشعور بأن ما تقدمه المراجع الاسرائيلية ليس الا صدى للنتاج الغربي الذي هو ميسور قريب المنال عن طريق الانجليزية او غيرها” (الخطيب: 1995).

ان مراجعة للائحة الاصدارات المترجمة عن مختلف لغات العالم الحية، التي احتلت مائة صفحة في كتاب الخطيب المذكور، وضمت مئات العناوين التي ترجمها فلسطينيون وصدر قليلها في بلادنا وكثيرها في العالم العربي، تـُبين ان عدد الاصدارات المترجمة عن العبرية لا يتجاوز بضع عشرات من العناوين، معظمها في المجال السياسي، والقليل القليل منها في الادب. وبموجب لائحة الخطيب يتبين ان الاصدار الاول المترجم عن العبرية كان في العام 1941، قام به الفلسطيني فايز يونس الحسيني، وهو عبارة عن “مرشد الى الامهات الى العناية بالاطفال” لمؤلفه “نبو غرونفلدر”، وصدر في القدس عن “دار الصحة لجمعية هداسا الطبية”. اما الاصدار الثاني المترجم عن العبرية، فقد صدر - بموجب لائحة الخطيب - العام 1957 حول “القطن وزراعته في الحقل العربي”، وصدر في حيفا عن “جمعية القطن التعاونية”. وتدل نفس اللائحة على ان هذه الحالة - كتاب كل 15 عاما تقريبا - استمرت حتى العام 1964، حيث صدرت “يوميات انا فرانك” للعربية مترجمة عن العبرية بترجمة نفذها حبيب زيدان شويري وصدرت عن “دار النشر العربي”، وهي من مؤسسات الهستدروت الصهيونية في تل ابيب. بعد ذلك تتالى صدور كتب مترجمة في الادب والسياسة بشكل عام، ليترجم ذكي درويش قصة الجاسوس الاسرائيلي ايلي كوهن كما كتبها يشعياهو بن بورات واوري دان وصدرت عن “دار الجليل” في عكا العام .1968 وفي نفس العام ترجم محمود عباسي المجموعة القصصية “يمين الاخلاص” للاديب الاسرائيلي المُنَوبل (1966) شموئيل يوسف عغنون وصدرت عن وزارة المعارف والثقافة الاسرائيلية.

ارتفعت وتيرة هذه الترجمات في الفترة التي اعقبت عدوان الخامس من حزيران 1967، وامتدت الى منتصف الثمانينات (1985 - وهي السنة التي يختتم بها الخطيب لائحة الترجمات في كتابه، مع انه صدر في العام 1995، مغفلا عقدا مهما ومزدهرا نسبيا في هذا الحقل، تواصل مع صدور الدرورية الثقافية العبرية - العربية “لقاء”، وتتالي صدور العناوين المترجمة من والى اللغتين، في اسرائيل بالاساس، وفي بعض العواصم العربية بالدرجة التالية)، وفي ذلك ينوه الخطيب الى ان “الثمانينات بوجه خاص شهدت اقبالا شديدا على ترجمة الكتب المتعلقة بأوضاع العدو الصهيوني او ممارساته ضد حقوق الانسان، كما نشطت المؤسسات العربية الرسمية وغير الرسمية في الترجمة عن العبرية، وكثير من هذه الترجمات يوزع على نطاق محدود في الدوائر السياسية والعسكرية” (الخطيب: 1995).

يمكن الاشارة الى محورين اساسيين في الترجمة من العبرية للعربية، الاول عربي - اسرائيلي داخلي، تبادر فيه المؤسسة في اغلب الاحيان الى العملية في حالات متباعدة ومتفاوتة في المستوى والاداء، والثاني عربي - عربي، تقف فيه مصر في الصدارة في الترجمة عن العبرية، وبخاصة في مجال الابداع الادبي وكتابة الابحاث الاكاديمية في الادب والثقافة العبرية، وهناك، الى الوراء قليلا، تقف عمان، المتخصصة في الترجمات السياسية في الاساس، والتي تحتضن عددا من دور نشر القطاع الخاص التي باتت متخصصة بالاصدارات الاسرائيلية، ما يوحي بأن هناك “هجوما شاملا” على عالم الكتاب العبري، تتولاه دور النشر هذه، بطريقة غير منهجية بل عشوائية، لا تطمئنك بأن ما يترجم لديها يصور واقع الحال في الشارع الثقافي والسياسي الاسرائيلي.

يتميز المحور العربي - الاسرائيلي بتعدديته وتواصله، رغم وتائره المنخفضة على الاغلب. جاءت البدايات كالعادة في مثل هذه الاوضاع، من طرف المؤسسة، التي اعتبرت ذلك امرا ضروريا في اقامة الصلة بالعرب المتبقين داخل خطوط الهدنة من العام 1949، اي: العرب في اسرائيل، لكن نشاطها اقتصر في الاساس على المجال السياسي والتعليمي الضيق، ضمن مبادرات فردية من جانب المترجم او الموظف في المؤسسة.

تزايد عدد الترجمات المنشورة في الخمسينات والستينات، سواء ما كان مترجما مباشرة عن العبرية باقلام فلسطينيين من عرب 48 او ما كان اعادة طباعة للترجمات الصادرة في بيروت او القاهرة (الخطيب، 1995). ويثبت الخطيب قائمة باسماء المترجمين عن العبرية الذين تكررت اسماؤهم في تلك الفترة، وتشمل: محمود بيادسة، رسمي بيادسة، ميشيل حداد، جبرا نقولا، سميرة الخطيب، محمد وتد، انطون شماس، جواد سليم الجعبري، نعيم عرايدي، محمد ماضي، اميل توما، محمود عباسي، توفيق فياض وزكي درويش.

في تلك الفترة هيمن الانقطاع بين الثقافتين على مختلف النشاطات فوق الساحة، الامر الذي صنع عزلة الترجمات المنشورة عن امتدادها الجماهيري، وابقاها في دائرة الظنون. ويصف الدكتور محمود كيال في بحثه المذكور عن الترجمة من العبرية للعربية العملية المتواصلة التي ادت الى عزل وتحييد المادة المترجمة بعيدا عن الاداب المترجمة للعربية والمنظومة الثقافية العربية الام، ليتوصل الى ان ذلك نجم عن تدخل عوامل سياسية واعتبارات من خارج الادب في سياسة الترجمة، وتنفيذ معظم نشاط الترجمة بيد عدد محدود جدا من المترجمين، والناشرين والمجلات، وغياب اهتمام النقد الادبي الخ. هذه “المكانة الهامشية” نجمت على ما يبدو عن الصراع السياسي المتواصل بين اسرائيل والفلسطينيين والعالم العربي. )كيال: 2000(.

تعاملت الثقافة العربية مع الادب العبري المترجم الى لغتها وفق قوالب فكرية جاهزة، ومالت الى اعتبار اسرائيل جزءا من مشروع كولونيالي استعماري في المنطقة. الا ان حرب 1967 تسببت كما يخيل بتحولات عميقة في مفاهيم العرب عن الصراع، ما ادى الى زيادة الاهتمام بالمجتمع الاسرائيلي وثقافته التي انتصرت في الحرب على العرب.

كان الادب العبري المكتوب بعد اقامة اسرائيل احدى الوسائل للتعرف على المجتمع الاسرائيلي، وقد انعكس الاهتمام العربي المتزايد به بكتابة المزيد من الابحاث الجامعية حول الموضوع وافتتاح اقسام للغة العبرية في بعض الجامعات (المصرية في الاساس). “الا ان معظم الباحثين في الادب العبري لم يخفوا تحفظهم من هذا الادب الذي بدا لهم مجنداً وعنصريا ومفتقدا للقيم الجمالية (...) عمليا، دار معظم النشاط المتعلق بالادب العبري في مجال البحث وليس الترجمة، بحيث نجد ان الترجمات نتيجة مرافقة للنشاط البحثي. لذلك فان احد عشر كتابا فقط من بين 31 كتابا حول الادب العبري صدرت في العالم العربي، ضمت ترجمات لنصوص عبرية كاملة، بينما قدمت البقية مختارات مترجمة فقط” (كيال: 2000).

هيأت العربية للترجمات عن العبرية محورين: اسرائيلي وعربي، وهما يختلفان تماما عن بعضهما في بدايات الترجمة ودوافعها وطابعها وحجمها. وبينما جرت الترجمة عن العبرية في اسرائيل في ظل هيمنة الصراع على هذا النشاط وتجييره بالكامل تقريبا في صالح المفهوم الرسمي له، كانت الترجمة المحدودة عن العبرية في العالم العربي موجهة بالكامل نحو نقد النص العبري المترجم (للانجليزية غالبا او العربية) كجزء من نقض عالم الرموز التي صنعته، والعدو الذي يقف وراءها.

منذ البداية كانت الحالة الاجتماعية - السياسية التي جرت في ظلها الترجمة عن اللغتين مركّبة ومعقدة، فمن جهة، كانت الترجمة موجهة في الاساس الى اقلية عربية قومية تعيش في دولة ذات اغلبية يهودية، وتخوض صراعا دمويا مع الشعوب العربية وثقافاتها المختلفة. عمقت هذه الحالة من الاغتراب الذي عاشه العرب الفلسطينيون الباقون في حدود ما صار لاحقا دولة اسرائيل، تجاه ثقافة ومؤسسات الاغلبية بالاساس، والقيم التي قامت عليها. ومع الوقت، كان لا بد من ملاءمة رموز الاتصال بين ثقافة الاغلبية وثقافة الاقلية وفق التغييرات السياسية والجغرافية والديموغرافية التي شهدتها البلاد، وبخاصة بعد حرب 1967، بعد ان شهدت الاقلية الفلسطينية فيها تحولات ثقافية واجتماعية عميقة، اثرت على مجمل نشاطها الثقافي والسياسي العام.

يمكن تقسيم الدور الاسرائيلي في الترجمة الى ثلاث مراحل: الترجمات الصادرة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، والترجمات في السبعينات والثمانينات منه، والترجمات التي نشهدها منذ مطلع التسعينات، في البحث الاجتماعي والسياسي اولا، الى جانب مختارات من النصوص الابداعية بالدرجة التالية، وهي بحد ذاتها مرحلة لافتة للنظر كون نشاط الترجمة اخذ ينتقل بالتدريج الى مناطق السيادة الفلسطينية (”المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية” في رام الله مثلا، وهو مركز بحثي حديث العهد نسبيا، وإن كانت ترجماته تقتصر حاليا على الدراسات والابحاث والنصوص الاجتماعية والسياسية عن اسرائيل)، كجزء من اهتمام متزايد بـ “الاخر” وثقافته.

تختلف هذه المراحل من ناحية الحجم والعناصر المتداخلة بالنشاط وسياسة الترجمة. في السنوات الاولى على النكبة، بدت الترجمة للسلطة الاسرائيلية وسيلة اخرى لتشجيع اندماج العرب في حياة الدولة. استغلت المؤسسة الفراغ الثقافي في اوساط الجماهير الفلسطينية الناجم عن رحيل معظم المثقفين الفلسطينيين عن البلاد، وانقطاعها عن العالم العربي، لذلك كان معظم النشاط هنا ممأسسا، وضمن ادوات مؤسساتية (صحف تنطق بالعربية باسمها مثل جريدة “اليوم” ومجلة “حقيقة الامر”). وتدل الاحصائيات على ان هذه المرحلة قدمت تسعة كتب مترجمة فقط صدرت معظمها عن دار نشر مؤسساتية هستدروتية هي “دار النشر العربي”. كان المترجمون يهودا من المهاجرين من الدول العربية، اما النتاجات المختارة فاخذت من الادب الرسمي وعبرت عن الاجماع القومي الصهيوني والاسرائيلي: “امكن لمنظومة الترجمة هذه في ثقافة الهدف العربية في اسرائيل ان تكون مركزية في سنوات الخمسين المبكرة، الا ان يقظة القومية في اوساط العرب بعد صعود الناصرية في مصر وحرب 1956 ومذبحة كفر قاسم تسببت بتراجع كبير في مكانة هذه المنظومة” (كيال: 2000).

تراجع دور السلطة في الترجمات التي شهدتها المرحلة الثانية، وارتفع عدد النصوص الادبية الابداعية المترجمة، بعد ان شهد هذا الحقل نوعا من الخصخصة، وظهرت مؤسسات ثقافية مستقلة، ومدعومة حكوميا في بعض المشاريع. ولعل الاختلاف الاهم هنا كامن في ان المترجمين في هذه المرحلة كانوا من العرب الفلسطينيين الذين تعلموا في المدارس العربية وفق المنهاج الاسرائيلي وكانت العبرية منذ المرحلة الابتدائية لغة ثانية لديهم بموجب هذا المنهاج. كان تراجع دور السلطة في توجيه الترجمة سببا مباشرا في تحقيق قدر كبير من الانفتاح على المزيد من النصوص العبرية، وبضمنها تلك “المعادية للمؤسسة”. مع ذلك، تم التركيز في تلك المرحلة على اهمية الترجمة في “التفاهم والحوار بين الشعبين”. في هذه الفترة ازداد بشكل ملحوظ حجم الترجمة بالقياس بالفترة السابقة، فقد صدر فيها 26 كتابا مترجما وثلاثة ابحاث حول الادب العبري، تشمل نصوصا مترجمة. “لكن ذلك لا يعني ان مكانة الترجمة تحسنت في هذه السنوات، وفي واقع الحال فقد ازدادت عزلتها كمنظومة محيَّدة في هامش الثقافة العربية الهدف” (كيال: 2000). في هذه الفترة جرت عملية الترجمة في عدد من المنابر المحدودة، مثل مجلات “الشرق”، و “لقاء” و “الانباء” ومنشورات “دار المشرق”. وتشير تلخيصات كيال الى ان نصف الترجمات في هذين العقدين تم على ايدي ثلاثة مترجمين: انطون شماس، محمد حمزة غنايم ومحمود عباسي. في هذه الفترة ايضا كان نشاط هؤلاء المترجمين خاضعا للتأثيرات السياسية والايديولوجية، رغم الانفتاح النسبي الذي شهدته، وبطبيعة الحال، فان التوترات السياسية المحيطة بالظاهرة لم تسهم في تحسين مكانة نصوصهم المترجمة لدى جمهور الهدف العربي في اسرائيل او العالم العربي، وقد بلغ تأثير الاحداث (الانتفاضة الاولى – 1988) على هذا النشاط اوجه عندما توقفت مجلة “لقاء” العبرية - العربية عن الصدور، مع انها حققت خطوات بعيدة في “الخروج عن النص الرسمي” المراد ترجمته، وقدمت اسماء بارزة من الثقافتين، كلّ بلغة الاخر.

3) الترجمة في الاتجاه المعاكس: درويش كمثـَل

يفتح الحديث عن إبداعات الفلسطينيين في السياق الثقافي العبري مسالك ودروباً وعرة أمام الباحث، بعضها عائد إلى مجال المدرسة الإستشراقية اليهودية المهيمنة في التعامل مع “الآخر” وإبداعاته، التي رعت المؤسسة الاسرائيلية وجودها داخل الحرم الجامعي وفي معاهد الدراسات الشرقية، وغالبيتُها تـُفضي إلى مواطن الجهل السحيق بها إلى حد الرّيبة من جهة، والتجاهل القائم على سوء النيّة تجاهها، من جهة أخرى؛ وجميعها مشتركة في صنع ملامح هذا الإبداع، حسب متطلبات الاستهلاك (السوق) الحاضرة في الثقافة العبرية المعاصرة.

وفي ضوء هذا الإشتباك الثقافي المتواصل على “خطوط التماس” بين طرفي الصراع الرئيسيين، فإنني لست ممن يميلون إلى تصديق دور عامل الصدفة في تحديد مكان وزمان وحجم هذا الحضور الإبداعي - الثقافي على الساحة الثقافية الرسمية في “دولة اليهود”، ليس في ظل الهيمنة القوية للعامل القومي وللصراع بأبعاده عليها، ومؤكد أنه ليس في أوج هذا التعلل الكبير بالوهم الأكبر لدى كثيرين بأن الثقافة العبرية تقوم الآن بصنع “المصالحة التاريخية” مع ثقافة “الآخر”، بينما هي في واقع الحال مذدنبة لخطاب سياسي براغماتي وعالق بتناقضاته الداخلية، وعاجز عن مواصلة ما رسمه لنفسه من مسارات على ساحة الصراع المشتركة بين الجانبين.

اختفى الفلسطيني حتى “النكبة الثانية” في العام 1967 من الافق الثقافي الاسرائيلي، “نَصّاً وروحاً”، وإن لاح فمِن بعيد، مشوَّش الملامح ومهزوز الصورة، يحكي سياسة فيما يكتب، ولا يُبدع أدباً، وببدو كمن ُيعيد بناء مفاهيم الإلتزام في الكتابة الإبداعية والأدب على جذور سياسية “متطرفة”، يدوّنها شعراً ونثراً، في مرحلة حملت قدراً كبيراً من الحساسية في التعامل معها، هي القادمة من عند “الآخر - العدو”، خارج إطار المعركة على الوجود في محيط - عربي - مهدِّد.

منذ البداية، تركت المؤسسة الأشكنازية بجناحها الثقافي، مهمة استقراء ورسم ملامح الصورة الأدبية الفلسطينية بيد الأطر والمدارس الشرقية، التي أفرزها واقع الصراع وحمَلها الى خطوط المجابهة الأمامية مع العدو، بل ترك لها مهمة بناء قواعد واسس التعامل معه على الصعيد القومي العام. وفي موازاة ذلك، عمدت هذه المؤسسة الى بناء اسس ومفاهيم ومؤسسات الدراسات الأشكنازية الشرقية، وبضمنها الأدب، مفرِدةً لأقسام اللغة العربية في الجامعات المحلية دوراً مركزيا في التنبيه إلى ما يفرزة الواقع الثقافي العربي الى السطح، بينما كان البحث الحقيقي والقراءة الأهم يتمان خارج هذه الأطر العلمية، التي اختارت البحث في الدلالات اللفظية واللغوية للمعاني، أكثر من اهتمامها بما تحمله وتؤذن به من تحولات معنوية وسوسيوثقافية بدت مغايرة للطرح السائد، السياسي بماهيته وغاياته، ولتفاصيل الصورة التي يتم الترويج لها في عقول الناس العاديين. تلك مهمة من اختصاص معاهد الدراسات الاستراتيجية بالتأكيد!

دائماً، كان نهر الوقائع الفلسطينية قويا الى حد الإزعاج، بتدفقه فوق السطح الثقافي - السياسي الاسرائيلي، ويخيل أن ملامحه المأساوية التي عكستها إبداعات الفلسطينيين كانت على الأغلب سببا إضافيا في البحث العام عن سبل ثقافية بالضرورة في ظاهرها، للتصدي له، ولتأثيراته القوية في الوعي السوسيوثقافي العام.

حضر الفلسطيني أكثر من مرة الى الوعي القومي اليهودي العام مثقلا بالمآسي، وإن كان قد عانى من التغييب التام عن المناهج والنظم الحياتية والتربوية اليومية. وما يبدو اليوم، بعد خمسين عاما على النكبة الفلسطينية الأولى، ذكرى أليمة وبعيدة لمأساة لا تجد حلا ثقافيا أو سياسيا لها بعد، بات مادة غنية في بحث الاسرائيلي عن ذاته، وسببا كافيا للتحرك نحوه، والبحث عن صورته الأخرى، الغائبة، والطارئة على الدوام. وفي ذلك حمل الإبداع الأدبي بشائر التغيير. ولعله، ايضا، حد من تأثيراتها المجتمعية والثقافية العامة. لكنها قضية شائكة، بحاجة الى نمذجة وتوضيح، تستوجب العودة اليها في إطار أوسع.

ولا يُستثنى محمود درويش، من هذا الشرط الثقافي العبري، وإن كان الاهتمام بإبداعه الأدبي ابتدأ على أرضية مختلفة، تقع بالضرورة خارج حدود السلطة الثقافية، وهي محكومة لاعتبارات ثقافية تُمليها قوة وتأثير الاهتمام الشعبي الأوسع به، خارج دوائر الحكم وثقافته. كان النزر اليسير الذي حمله مترجمو محمود درويش الى قراء العبرية، كفيلاً بأن يدفع هؤلاء القراء إلى التماثل معه شاعراً قوميا فلسطينيا من الطراز الرفيع، يمكنه، بسهولة، أن يكون “نداً” لشاعرهم القومي الأول، حايم نحمان بياليك. لكن هؤلاء المترجمين لم يوفروا لقّرائهم، بترجماتهم أو قراءاتهم الدرويشية، الفرصة لكي يفهموه، وذلك لأسباب كثيرة، سنعرض لبعضها في هذا المقال، لعل أبرزها ما يؤدونه من خيانة للنص الدرويشي، لا تنجح اللغة العبرية الجديدة في استيعاب شحناتها وإيحاءاتها المجازية والإبداعية واللغوية.

لكنه لا أحد يميل الى رمي هؤلاء بسوء النية في ترجماتهم لأشعار درويش، بنفس القدر الذي لا يمكننا فيه اتهامهم بالعجز عن فهم ما يكتبه من شعر! وهو ما لا أجد مجالا لتفسيره في هذا المقال.

بداية، كانت نصوص درويش الشعرية جزءاً من سياق ثقافي عربي عام كان يحفر عميقا في الأرض الساخنة، يتعرف فيه قراء العبرية على نخبة من إبداعات العرب الجديدة والمعاصرة، ضمن مشروع كبير ما زالت الحاجة اليه اليوم أكبر، لم ينجح ربابنة الثقافة العبرية في تحويله الى نهج واضح ومحدد وثابت في التعامل مع الثقافة العربية المعاصرة، وبضمنها الثقافة والإبداع الفلسطيني.

جاء درويش إلى السياق الثقافي شاعرا “ندّاً” لم يكن سهلا الإعتراف بحضوره في أوج الصدام الدامي مع الشعب الفلسطيني. وبعد أن كانت المؤسسة السياسية الاسرائيلية عاجزة عن قبوله بالعربية، وجدت نفسها تتعامل معه كبطل أدبي قادم من وراء الحدود البعيدة، مَدعُوّاً لا متسللا أو هابطا من السماء، ومتربعا المساحات الأهم في الصحافة الأدبية العبرية، ومقنعا بحكايته، واسلوبه، ومؤثرا بهذا الجانب المضيء في إبداعه: عذابات الانسانية وقضيتها العادلة. جاء محمود درويش الى العبرية، في بداية المشوار، عربيا فلسطينيا يعبر بشفافية وحساسية شعرية كبيرة عن هموم شعبه وأمّته، وانتقل مع الوقت ليصير شاعرا عالميا، يمكن له أن يكون فلسطينيا أو عربيا بالصدفة، في حساب الوعي الثقافي المهيمن، الخاضع لقوانين السوق، أكثر من خضوعه لمفاهيم الإبداع الأدبي والجمال والفن، والذي يدعي - مع ذلك - ان مقاييسه “جمالية” في استثناء الأدب العربي أو الفلسطيني من دائرة ترجمات الآداب العالمية. مع الوقت، بدا درويش بنظر الكثيرين محصلة للمشروع الثقافي القومي العربي الفلسطيني، الذي يحمله ويمثله بشخصه وإبداعه الأدبي، ويتم استدعاؤه الى الشارع الثقافي العبري. لم يعد درويش استثناء خارقاً في سياق اهتمام الترجمة العبرية بالآداب الأجنبية، التي لا تضع العربية في دائرة تعريفاتها وشروطها “الجمالية” في التعامل مع الأدب الرفيع، وتغفلها في سلاسلها المترجمة من “أمهات الأدب العالمي”. إلا فيما ندر. صار درويش سياقا ثقافيا متكاملا، له حضوره وشروطه ومواصفاته الجمالية والفنية.

آذَنَ حضور محمود درويش، مترجَماً للعبرية، بميلاد رمز ثقافي جديد كانت الساحة الثقافية في الأساس بحاجة إليه، بينما هي تشهد انحدارا جارفا نحو هاوية العنصرية واستباحة حياة البشر بلا حساب، وكادت تخرج من مجزرة العصر “بلا حساب”. كتب درويش وشاركه معين بسيسو “رسالة إلى جندي إسرائيلي”، وأحيط على الفور بدفق فياض من التعاطف والتفهم والموافقة في بعض الأحيان، لكنه لم يَعْدُ كونه “حلا أدبيا” لورطة السياسيين في وحل معاداة الفلسطينيين، الذين فاجأوا بهذا الشاعر الفذ، وبقدرته على توجيه القول الشعري بذكاء كبير مشحون بمعرفة ثقافية وتاريخية واسعة لرموز وطلاسم وأساطير “الآخر”، مَن يخيل أنه كان يجد الخلاص في نصوص درويش المعذبة. عكس الاهتمام بما حملته الصحافة الثقافية العبرية من ابداع درويش الشعري المترجم شكلا من اشكال “التكفير عن الذنب”، ساد الشارع الثقافي اوائل الثمانينات، بعد مجزرة المخيمات في صبرا وشاتيلا، تواصَلَ حتى بعد أن تجاوز الإسرائيليون الانتفاضة الفلسطينية مثخنين بالجراح، وطفقوا يقنعون أنفسهم بأن مسار أوسلو الذي كان في بداياته سيحررهم من هذه العقدة الى الأبد.

احتمل الاسرائيليون من درويش “قصيدته المجازية” عن المجزرة، ولم يحتملوا كلماته المباشرة عنهم، في قصيدته الإشكالية “عابرون في كلام عابر”، التي حولته من رمز أو بطل أدبي معذب، كانت نصوصه القاسية بمثابة حل أدبي لعقدة ذنب تطورت لدى الفئات المثقفة منهم في الأساس، تجاه الفلسطينيين، الى رمز مفاجىء بهذه القدرة على الإيلام، والتحدي، وعلى أن يكون قابلا للإستفزاز، وتحويل القصيدة الى حجر ضد الجندي الاسرائيلي المحتل، ابن الجيل الجديد، الذي امسكت به عين الكاميرا قبل عين الشاعر وعيون الكلمات، يقوم بتحطيم عظام فلسطيني في مثل عمره، بالحجر !

صار هذا الرمز مفاجئا ومؤلما عندما انبثقت عبر كلمات قصيدته نبرة الاحتجاج، بعد ان عجزت قوة الصورة والوصف الشعري عن اختراق حاجز اللامبالاة تجاه ألم الإنسانية المعذبة، التي كانت، بحضورها في مركز الوعي العام، تساعده في حل عقدته التاريخية تجاه “الآخر”، بعد ان اكتفى منها بالاحتفاء بميلاد الشاعر - العدو - الإنسان، مَن لا تستطيع تجاهل هذا القدر الكبير من الطاقات الجمالية والإبداعية في انتاجه الادبي، الشعري والنثري، والقادم الى ساحة العمل الثقافي العبري بثقة واعتزاز، وهي في أوج صدامها مع الجميع: مع “العدو الخارجي”، ومع “العدو الداخلي”، ومع نفسها، وهو صدام نقلها إلى أعتاب المرحلة التالية في التعامل مع كل شيء - مرحلة “ما بعد الحداثة”، التي وصلتها معافاة قليلا، وإن طالتها لوثة الخطاب الثقافي القومي، وعلى أكثر من صعيد.

بدا ذلك القول الغاضب لإسرائيليين كثيرين “صداما لازماً” في معركة الانتفاضة، عبرت عنه قصيدة “عابرون..” بطريقة ومفردات وإيحاءات أغضبت الكثيرين، وجدها الشاعر ضرورية بهذا الشكل الذي جاءت عليه، مجافية “للأناقة في اللغة أو الإحساس أو حتى في التعايش”، على حد تعبيره في مقابلة أدبية. كان المبدعون والسياسيون مستفزين من تلك القصيدة، التي حطت في أوج مراجعة أولية للنشوة العامة المقرونة بميلاد “المعجزة الصهيونية”، التي أسرت الثقافة العبرية عدة عقود، واستغرقها طويلا الوصول الى تعامل واقعي مع المشاكل التي حملتها اليها هذه “الظاهرة - المعجزة”.

أحيا حضور درويش القوي والأنيق على الساحة الثقافية العبرية منذ مطلع الثمانينات مناطق راكدة في سطحها الخارجي، لكنها لم تدعه يتغلغل في الوعي الثقافي القومي العام والمهيمن فيها. كانت العملية محكومة لقوانين اللعب التي وضعتها المؤسسة الثقافية، الحاضرة بقوة في الصحافة الثقافية العبرية، والمتحكمة بقوة بقوانين الإنتاج والإستهلاك الثقافي. نصت تلك القوانين على استبقاء ما يحمله درويش لقرائه كشاعر فلسطيني ورمز وطني من الطراز الرفيع، “خارج المطبخ”، على حد تعبير الشاعر المغترب أنطون شماس، في سياقٍ مختلف.

لكنه لم يكن لدى درويش سوى القصيدة الجيدة، التي اعتادت مجموعات محدودة ومتميزة من قراء الشعر اليهود الجيدين “استهلاكها”؛ الا انها ظلت القصيدة المحكومة لقدرة المترجم على الوفاء لما تحمله من شحنات خارج إطار البلاغة والمجاز اللغوي، بل في صلب الموضوع السياسي المهيمن على كل شيء، وفي ضوء ما تعكسه من قدرات على تطويع اللغة في صالح الحكاية، وانتقاء اسلوب الحكي اللائق بهذه اللغة، الذي بهر الجميع.

استُبقي محمود درويش خارج مطبخ العبرية، في وقتٍ سمح فيه لأنطون شماس - كمبدع اختار الانتقال للكتابة بالعبرية - بدخوله، واستخدام أدواته، وحتى ابتكار ما هو أفضل منها مستوى، لم تشفع له بالبقاء للنوم فيه، فاضطر إلى لملمة أوراقه والإبتعاد غربا أكثر من “مائة متر”، ليس عملا بتوصية الكاتب العبري المعروف أ. ب. يهوشع، في أوج جدلهما الصاخب في مطلع الثمانينات حول قضايا الثقافة والسياسة والأدب واليهود والعرب، وهو جدل أرى أنه ساهم في “تقصير عمر التجربة العبرية” لدى كاتبنا المبدع، وربما دفعه الى البحث عن أفق جديد للرؤية، ليس فيه عنصريون كبار أو صغار! *

لكن محمود درويش بالنسبة الى الاسرائيليين، وبلغة الشاعر الاسرائيلي الطليعي اسحاق لاؤور، يشكل اكثر من مجرد شاعر فلسطيني مشرد، يحمل حكاية شعبه، ويصر على كتابتها باستمرار، بل يجعل منها مشروعا قوميا كبيرا في تدوين الحكاية الكبيرة شعرا ونثراً، حتى يضعها بين يدي الأجيال. ولهذا السبب، فإنه، بنظر كثيرين من المثقفين الاسرائيليين، شوكة في العين، ولا حاجة الى ما هو اكثر من قصيدته تلك عن الانتفاضة، ليتولى جميع من قرأوه وتماثلوا معه وربما تحالفوا ايضا، تقديم الوعظ له والتنبيه الى “المنزلق” الذي انحدر اليه خطابه الى الاسرائيليين في تلك الايام.

اصبحت كلمات تلك القصيدة مناسبة للشعور الجماعي بالإهانة، سرعان ما لبس حلة الابتزاز الشعوري “من الصنف الأكثر انحطاطاً”، على حد تعبير لاؤور، في مقال له عن درويش يعود الى العام .1995 لم تكن وراء هذا الشعور سوى قضية واحدة، هي ان الاسرائيليين - من يسار ويمين - غير مستعدين بعد لقبول الرواية الفلسطينية باعتبارها جديرة بالبحث والنقاش. بل العكس، انهم غير مستعدين لتحمل المسؤولية عن ذلك. وليس سهلا ان يتولى شاعر فلسطيني يتمتع بالمواصفات التي يحملها درويش مهمة تذكير الاسرائيليين بأن الذاكرة الفلسطينية منبثقة من النسيان الاسرائيلي، ولعل النسيان الاسرائيلي طاغٍ في الاماكن التي فيها الذاكرة الفلسطينية مطالبة بالانخراس.

ولعل أبرز مظاهر الاحتجاج على تلك الصورة الدرويشية المؤلمة، إلى جانب الضجة التي أحدثتها في البرلمان الإسرائيلي مباشرة بعد نشر ترجمتها العبرية، ما أقدمت عليه هليت يشورون، محررة مجلة “حدريم” (غـُرف) الأدبية الراقية، التي حجبت قصائد كانت ستنشرها للشاعر في عدد جديد كان في المطبعة، ونشرت في نفس المساحة المخصصة لها الكلمة التالية: “كان مفروضا للصفحات التالية ان تحمل خمس قصائد جديدة لمحمود درويش، كتبت عام 1987، وترجمها للعبرية رؤوبين سنير. لكن قصيدة درويش الأخيرة، التي تدعونا للنهوض شيبة وشبانا، حاملين موتانا وذكرياتنا، والانصراف من هنا، “من ارضنا، من بحرنا، من كل شيء”، لا تدعني اضمّن هذا العدد قصائده الاخرى. بهذه القصيدة عبر درويش الهاوية المفتوحة بين الشاعر المقاتل وبين الباحث عن الصخب الكلامي. هذه ليست قصيدة سياسية، او موقفا مهما كانت شجاعته او مرارته، وإنما خطاب كراهية وتحقير. من باريس، غربته الجميلة، يقول لنا: “يَلا ! إنصرفوا من هنا!”. لعل دولة اسرائيل كتبت هذه القصيدة القاسية طيلة واحد وعشرين عاما من الاحتلال، لكن اصداء اصوات شعرائها اليهود ترددت في داخلها، محتجة ومنددة، ولا تكفّ طيلة كل هذه السنوات، ولم ينهض بينهم احد لكتابة هذا الكلام الشرير. بهذه القصيدة، تحالف درويش العربي مع كهانا اليهودي”! (”حدريم”، العدد 7، ربيع 1988). *

اصدر الاسرائيليون حتى الان اربعة كتب من نتاج محمود درويش الشعري مترجمة الى اللغة العبرية (مختارات شعرية ترجمها الشاعر الاسرائيلي بيرتس بناي و “ذاكرة للنسيان” بترجمة سلمان مصالحة)، وفقط في العام 2000 ترجمت له مجموعتان شعريتان كاملتان (”سرير الغريبة”، و “لماذا تركت الحصان وحيدا”، وكلاهما بترجمة كاتب هذه السطور) وبدلا من ذلك ظهرت ترجمات لقصائده هنا وهناك في المجلات الثقافية العبرية، بعضها معقول ومقبول وآخر يتميز بالاهمال والقصور عن مجاراة المعنى واللغة في القصيدة الأصل. ويخيل ان السبب في ذلك عائد الى عجز العبرية عن استيعاب هذا القدر الكبير من الاستعارات المجازية والبلاغة الشعرية، ما جعل مادته غير متوقعة، تتكشف قوتها في موضوعاتها غير المتوقعة، وفي انتقالها من معالجة المادة الاسطورية الى وصف الحياة العادية في القرية المدمرة، التي لم تعد موجودة، والتي تجعل قارئها العبري يقف مندهشا عندما يصدف هذه البهجة في قصيدة درويشية مترجمة للغته: “سأرمي كثيرا من الورد، قبل الوصول الى وردة في الجليل” (من قصيدة “وما زال في الدرب درب”، في ديوان “ورد أقل”).

يأتي درويش بالحكاية الفلسطينية الى واقع اللغة الثقافي المغاير، ويتجاوز جميع الهوامش الضيقة المخصصة لإبداعات وحكايا “الآخر”، الذي لا يتنازل عن خصوصية روايته، ولا عن خصوصية تقديمها بلغة خاصة وغنية بالرموز الثقافية المستمدة من تراث الإنسانية كلها، في كل الأزمنة. هذه قوته، وهذا سر الاستنفار الثقافي الذي يسم المنابر التي تسعى لأن تقدمه، جاهدة ألا تنتقص من هذه القوة فيما تترجم له وتنشر من قصائد. وفي الضجة العامة التي نشأت بعد قرار وزير التربية والتعليم الاسرائيلي السابق يوسي سريد ادراج نصوصه في العام 2000 ضمن المنهاج الرسمي، خير برهان على ذلك.

4) كيف قرأنا الادب العبري

دائما كانت لدينا، نحن الشعب الفلسطيني، اهتمامات واسعة ومتفاوتة بـ “الإسرائيليات”، تشمل، منذ بدايات الصراع، مؤسسات ومنابر وافراداً، بعضها مولود فوق ساحته الساخنة، وبعضها ينطق باسمه، في الوطن، أو في الشتات. ويُعدّ الكاتب الشهيد غسان كنفاني، رائداً وطليعياً في اهتماماته ودراساته، عندما اختار قبل ثلاثين عاماً قراءة الإبداع الأدبي والفكري في اسرائيل في إطار نقده لـ “المشروع الثقافي الصهيوني”، تمهيداً لنقض خطابه القومي والسياسي. وقد ألتزمنا بهذه الرؤية النقدية، إلى حدٍ لم نعد فيه قادرين على إيجاد غيرها، في قراءة ونقد النتاج الأدبي والثقافي العبري - الإسرائيلي!

قرأ غسان كنفاني “الأدب الصهيوني”، بالانجليزية اساسا وبقدر محدود مترجما للعربية، وخلص الى استنتاجاته المهمة، بضرورة “إلقاء ضوء آخر على الشعار الصعب: إعرف عدوك” (غسان كنفاني، الاثار الكاملة، المجلد الرابع، ص 465). حدث ذلك في مرحلة كان فيها “أدب الرصاص والجماجم يغرق الأوراق” (والتعبير للناقد الدكتور فيصل دراج، في كتابه “بؤس الثقافة”، ص 127)، عندما تولى المشروع الثقافي الفلسطيني “ترجمة” الوعي الوطني في السياسة، الى موقف في التعامل مع “الصهيوني” وابداعاته المختلفة، وهو ما فعله غسان، جاعلاً منه “شرطاً صعباً ومعقدا كالشرط الذي يدور فيه الشعب الفلسطيني” (دراج: 140) في تكوين رؤية الناقد الادبي لنَصّ عبري يولد فوق ارضية سياسية غريبة ومجهولة، تجعل منه اشكالياً الى حد كبير.

لكننا اليوم نقرأ نصوص “الصهيونيين الجدد”، في وقت نشهد فيه وعينا الوطني يمنح “الآخر” حيزاً مهماً في فضولنا الثقافي، ويقوم بجلبه الى “ساحة الحوار” الداخلية الساخنة، ضمن شروط سياسية مستحيلة ومعقدة، وعلى رغم ذلك، فانه يرفض محاورته، لأن صورته في وعينا الوطني لا تغير ملامحها بهذه البساطة، كذلك لا اخال ان مهمة المشروع الثقافي الفلسطيني الآن شرح اصرار هذا الآخر الاشكالي على التمسك بحكايته التاريخية في نصوصه الأدبية بالأساس، وتفسيرها أو “ترجمتها” الى وعي الناس العاديين، باعتبارها “انجازا” يدفع به الى ساحة الحوار معنا.

وهكذا نظل ندور في “الحلقة الناقصة” بين تلك القراءة الطليعية التي قدمها كنفاني لعدد من الننتاجات الادبية “الصهيونية”، وما يحصل اليوم من تسطيح لها، يصل حد الوقوع في أسرها، واعتمادها نصاً واحداً ووحيداً في إضاءة “المشروع الثقافي الصهيوني” بأكمله. لكنه يخيل لنا ان كاتبا بهذه المواصفات التي تمتع بها كنفاني، ما كان لينغلق اليوم وراء حدود قراءته تلك، إزاء هذه النصوص العبرية الجديدة، التي تطرح لوناً مختلفاً ومغايراً على الساحة الثقافية الاسرائيلية، ولا تدعي أنها تنطق باسم أي “مشروع”!

كتب غسان عن “المؤسسين”، وخلص إلى جوهر وجودهم في النص الإبداعي “الصهيوني”، في إطار موقف وطني شامل، كان يؤسس على فهم خطاب “الصهيوني” في الثقافة والأدب، انسجاماً مع يقين راسخ بوجوب التصدي له، باستحداث “بُعدٍ آخر للمعادلة الصعبة: إعرف عدوك”. وبذلك كان يؤسس رؤية نقدية متكاملة في شروط محدودة ومنقوصة وضاغطة باستمرار، جعلته يعتمد كثيراً على “لغة ثالثة” في الوصول لنصوصه المطلوبة. بالنسبة له، فقد كانت تلك النصوص “وثنية صهيونية” حاضرة في مكانها وليس بالضرورة في لغتها، لتبقى اللغة عاملاً ثانوياً في التعامل مع خطابها السياسي، كمقدمة للرد عليه، ونقده.

كان ذلك في مرحلة البحث عن نص عبري يستجيب لجهدنا الوطني في البحث عن افق جديد للتبلور والعمل، على مختلف الاصعدة وبضمنها الثقافي، وفي ظل شحّة وندرة النصوص الابداعية العبرية القريبة من متناول ايدينا. لكننا نقرأ غسان كنفاني اليوم، في مرحلة من التراكمات النصية، التي حملت الينا مؤشرات تغيير كثيرة في شروط واقعها هي، ومن ثم - في رسائلها إلى هذا الواقع، كأنها تقول: “إذا تغيرت شروط الواقع، تغيرت النتائج”. من هنا، فإن نقد “المشروع الثقافي الصهيوني” لم يعد الآن بحاجة لأن “نترجم” المادة الادبية او النتاج الثقافي الاسرائيلي، الى مادة تواصل السجود لوثنية تلك “الايديولوجيا التي تخلق البشر قبل ان تلتقي بهم” (دراج: 141). تغيرت حياة هؤلاء الناس في نصوصهم الإبداعية، ولعل أبرز ما تغير في سياق النظر إليهم، ان مفاهيم الاستهلاك الثقافي لدينا تبدلت، وصار الاقتراب من اي نص لأي كاتب عبري او “ينطق بالعبرانية”، ممن يبدعون في اطار “المشروع الصهيوني الكبير”، مشروطاً باجتزائه من حاضره الثقافي المقولَب، أو سياقه “التاريخي الميثولوجي”، أو “السياسي الوثني”، لكي نفهمه وننقده.

حمل التغيير في الرؤى والمفاهيم، نصوصاً تؤسس على “إنسان جديد”، لا يأبه كثيراً بالرموز الوطنية، ولعله لا يتعامل مع هذا الوطن مشحوناً بنفس الطاقات التي انطبع عليها قسم كبير من كتّاب أجيال الأدب العبري الأولى، في “عهد الدولة” العبرية. بموجب هذه الرؤية، تحدد هذه النصوص موقعها على خريطة الصراع، إبداعاً يطرح نفوس أصحابه الشابة، المتحررة من هيمنة الخطاب الواحد، والتي لا يمكن التعامل مع نصّها الأدبي باعتباره “مادة مجندة” ضمن “مشروع كبير”، بينما تقول حقيقته الأدبية ما هو غير ذلك.

ولكن، من يأبه بالحقيقة الأدبية، ما دامت لا تعكس الحقيقة السياسية التي نبحث عنها في النص العبري، ولا تحمل القيمة المعنوية التي نرجو الحصول عليها من وراء الاشتغال بهذا النوع من “المادة المجندة”؟! ومن سيتجند لفك شيفرة أدبية لا تؤدي أي دور في اللعبة السياسية - الثقافية؟

ذهب النقد الأدبي العربي الى النص العبري عبر دروبه السياسية الوعرة، وخلص الى استنتاجاته، منسجماً الى حد كبير معها، ومع ما تحدد سلفاً من غايات، من وراء الإشتغال بهذه النصوص. وذلك طبيعي ما دامت ادوات هذا النقد تتعرض فقط لجانب واحد من الابداع الادبي العبري الحديث، بل لكل الجوانب، ما عدا جانبه الأبرز الآن - حيلته الأدبية!

ثمة جيل من الكتّاب الإسرائيليين ممن يصنعون حيلتهم الادبية باللجوء الى اللغة المباشرة والتسطيح العلني للحكي في سيرة المكان وأبطاله الصغار. اصبح ذلك ممكناً، بعد ان فقد المكان مركزيته في النص، وساهمت الانهيارات الحداثية في النص الإبداعي الجديد في تبديد مفهوم البطل من الانتاج الثقافي الاسرائيلي الراهن، واستبدال الكاتب الراوي في النص بالبطل المضاد، بعد ان جاء الى النص لخدمة حقيقته الادبية قبل كل شيء. وفي هذه النقطة بالذات، يمكن القول ان الدراسات الاكاديمية العربية، وليس النقد الادبي العربي، قطعت شوطاً طويلاً في معرفة “النص الاخر” وفهمه. وفي ذلك تسجل جامعة عين شمس دوراً متميزا في الابحاث التي تقدمها بين حين واخر لعدد من الدارسين الشباب في الادب الاسرائيلي، ممن يقومون بتطوير اتجاه فكري نقدي جديد في التعامل مع الابداع الثقافي العبري، جدير بالاهتمام.

كانت مشاركة الفلسطينيين في قراءة ونقد النصوص الابداعية العبرية الجديدة، المكتوبة بلغتها هي، او المترجمة منها، محدودة للغاية، واقتصرت على قراءة الخطاب السياسي في “ثقافة الآخر”، في الاساس. تنحصر قائمة المشاركين الفلسطينيين في قراءة وترجمة ونقد الانتاج الثقافي العبري في عدة اسماء، ابرزها وأولها، كما اسلفنا، الكاتب الشهيد غسان كنفاني، الذي كان طليعياً في سبر اغوار “الحكاية الصهيونية” من خلال الادب، لكنه لم يلتفت للقيمة الادبية فيه. وهناك مساهمات بارزة لنخبة من المثقفين والمبدعين في ترجمة ونقد وترجمة ومحاورة “الاخر” عبر ابداعه، مثل: انطون شماس، حسن خضر، انطون شلحت، رياض بيدس، حسن البطل وآخرون، يمكن القول ان انطوان شلحت أكثرهم حضوراً ونشاطاً الآن على ساحة الاهتمام الثقافي بالابداع العبري. انجز شلحت عددا من الترجمات المهمة عن العبرية، ودفع الى القراء بكتابين في قراءة ونقد وعرض الابداعات الثقافية الاسرائيلية المعاصرة والجديدة: “اسطورة التكوين: الثقافة الاسرائيلية الملفقة” (منشورات رياض الريس، لندن، 1991)، و “ثقوب في الثقافة الاخروية: متابعات عن الثقافة والواقع الثقافي الاسرائيلي” (الاسوار، عكا، 1998).

5) اشكال الاتصال الغائبة

قبل سنوات (1997) اصدر “اتحاد الكتاب الفلسطينيين في الضفة والقطاع” ترجمة لكتاب بعنوان “اضواء على المشهد الثقافي في اسرائيل” هو عبارة عن مجموعة من المقالات الأدبية، مكتوبة بأقلام اسرائيلية، ومترجمة للعربية عن ثلاث لغات هي العبرية، والالمانية والانجليزية. نقرأ في التقديم “براءة” المحرر بأن مثل هذه المحاولات والمبادرات الفردية، تتم باسم “تنوير الذات من خلال رؤية الآخر”، وتؤسس على رغبة صادقة في محاولة استجلاء الواقع الثقافي الفكري المعبر عن الحياة في اسرائيل، وفي “التعاطي المعرفي العلمي مع مقولات الآخر، في سبيل كسر العزلة المعرفية التي اصابت الذات العربية عامة والفلسطينية خاصة، حقبة ليست قصيرة من الزمن” (أضواء: 3).

حاول الكتاب تقديم مقطع بانورامي سريع عن بعض جوانب الثقافة في اسرائيل، فحمل لنا مجموعة مهمة من المقالات الصحفية الاستعراضية، التي تتولى التعريف بالثقافة الاسرائيلية الراهنة لجمهور “أجنبي”، لكنها تنحو منحى التعريف اكثر من النقد والتحليل. وخلافا لكتاب أنطوان شلحت المذكور، الذي عرض مادته في سياقها التاريخي، وتوقف برهة عند ظاهرة “المؤرخين الجدد”، باعتبارها ملمحاً بارزاً من ملامح “الحياة” في اسرائيل الآن، تركزت مقالات “اضواء” في ثقافة وإبداع السنوات العشر الاخيرة، التي شهدت انقلاباً على مفاهيمها ذاتها، بتأثير بارز من الأحداث التي كانت تتبلور في ظلها وإلى جانبها، كما كان الحال معها خلال الانتفاضة الفلسطينية و تجربة الغوص في “الوحل اللبناني”، وبالتالي المتغيرات المتلاحقة على ساحة الحوار مع الشعب الفلسطيني (أوسلو، وغيره).

في نصوص “أضواء”، لا يعود الفلسطيني مفاجئاً أو “مُرّاً” بحقائقه المؤلمة، التي فرضت نفسها بحدة على الوعي الصهيوني الراهن، وأثقلته بأسئلتها الصادقة والحقيقية. وفي مقالة شولميت هار ايفن، الكاتبة “المخضرمة” المعروفة، خير برهان على ذلك. تكتب هار إيفن عن الحياة “على بعد أربع خطوات” من مكانها، باسلوب الريبورتاج الصحفي، الذي يلجأ اليه مبدعون يهود كثيرون في الاونة الاخيرة، في ما يوحي بأنه عجز للنص الادبي الابداعي العبري الجديد عن شحن الحقيقة الادبية بطبيعتها السياسية، وتقديمها حادة ومفاجئة للمجتمع الاسرائيلي، الذي يتصرف كمن لا يعرف ان كل هذه الفظائع والاختراقات تتم “على بعد اربع خطوات” منه! وقد كان الكاتب دافيد غروسمن اول من كتب عن الحقائق المؤلمة التي فاجأت النص الابداعي العبري بقوّتها وحدّتها، فاختار تقديمها “على سجيتها” في كتابه “الزمن الاصفر” - 1988 - لكنها سرعان ما اختفت من انتاجه الابداعي الادبي الذي قدمه بعد ذلك النص!

تستنتج شولميت هار ايفن، بأداة الريبورتاج الصحفي وليس عبر نَصّها الابداعي، ان “للفلسطينيين الآن حكايتهم الكبيرة، الا انها حكاية لم تزل بعيدة عن حكايتنا، ولا تمت لها بصلة... وليس هناك من طريقة للجمع بين الحكايتين”. وتتجاوز الكاتبة استنتاجها هذا لتؤدي قدرا معينا من “نبوءة الاديب”، فتكتب: “هنا، يتوجب علينا ببساطة، ايجاد نوع من العلاقة” بين الحكايتين، واجدة في كلمات “ام مرسي”، الفلسطينية الي قابلتها في التحضير لمقالتها، أساساً تبني عليه “نبوءتها الأدبية”: “صوت ام مرسي ما زال يلاحقني، خاصة تلك الجملة التي تبعث القشعريرة في بدني: حبيبتي، لو حصلنا على شذرة من وطن، فسنلغي حتى أيام الذكرى” (أضواء: 22).

لم نصدف مثل هذه “النبوءة” في إنتاج هار إيفن الإبداعي، وليس في نصوصها وحدها، حيث يقوم النص الابداعي العبري باستبدال الحقيقة المؤلمة بالايحاءات عنها، ليظل الابداع “نظيفاً” من واقعيته المريرة، التي قد تعود بالخلل على “براءته” الأدبية، وترميه بالمبُاشرة والتسطيح! (بعد سنوات من كتابه “الزمن الأصفر”، خرج دافيد غروسمن “لاكتشاف” المليون الفلسطيني في الداخل، حاملاً قراءته الجديدة لواقعهم وآلامهم في سياقها الحياتي اليومي، وبلغتها هي. لم يخلُ هذا الجهد من تلميحات المؤلف و “موازناته” بين الحكايتين التاريخيتين المتداولتين والمتناحرتين في هذا المكان، لذلك لم يكن صدفة أن تخرج قضية الناس الذين دار حولهم كتابه هذا - “حاضرون غائبون” - في وعي الاسرائيليين الراهن، مثل اسمه لا أكثر!). ولعل هذا الاقتراب الأفقي من مادة الواقع المؤلمة، الذي يكاد يشمل جميع الاسماء البارزة في الثقافة الاسرائيلية الراهنة، يفسر حقيقة أهم في السياق الأدبي، وهي أن الإبداع لم يعد يلعب دورا فاعلاً في حياة المجتمع، وذلك صحيح في الشعر على الأقل، الذي “بات يتجاهل الموضوعات العامة، ولم يعد يلعب دوراً اجتماعياً ثقافيا، كما كان الأمر عند بداية هذا القرن” (أضواء: 40). وهكذا أصبحت “القصيدة العبرية بلا قراء”، كما يكتب رؤوفين كروتز، في تعليل هذه العزلة التي يفرضها الشاعر الاسرائيلي على موضوعاته “العامة”. وهو ماتؤكده مقالة أرئيل هيرشفيلد، عن الشعر العبري في التسعينات، التي خلص فيها الى ان “صورة هذا الجيل من شعراء التسعينات، عبارة عن قطع فسيفساء مجزأة ومفتتة” (أضواء: 43)، وأن شعراء الثمانينات يفتقدون “القوة الثقافية” المستمدة من المؤسسة، وتنقصهم الهالة الرومانسية التي احتفظ بها شعراء العقد الذي سبقه، مثل مئير فيزلتير، دافيد افيدان، يونا فولاخ وغيرهم. يشرح هيرشفيلد ما يراه “شرذمة الشعر” وتجزئته الى افعال فردية “تُماثل شرذمة المجتمع الاسرائيلي نفسه”، معتبرا ذلك مؤشراً على “عملية تحرر من شراك الشعر العبري العميق الذي بلغ نهايته في منتصف السبعينات” (أضواء: 44). ويتوقف عند “النضوج المعنوي” للشاعر الاسرائيلي، ليس فقط على صعيد اللغة الشعرية، وانما على صعيد “تحرير الشعر من براثن الحداثة، باحتوائه على عنصر الفكاهة” (أضواء: 45).

حصر النص الابداعي العبري “الصهيوني” اهتمامه بسرد سيرة المكان اليومية، متقنعا بالايديولوجيا. لكن النص الجديد لا يبدو بحاجة لايديولوجيا قدر حاجته لتفتيتها وتسطيحها في سبيل نقدها وتجاوزها. من هنا جاءت محاولة مادة “أضواء” في تبرير هذا التركيز على الايديولوجيا اكثر من الابداع في الادب، في اختيار المقالات النقدية المترجمة في الكتاب.

ويقف “الاسرائيلي الجديد”، الذي كان محور مادتين في الكتاب (هليل حركين وجرشون شكيد)، داخل “المحرقة الاسرائيلية” عاريا من هذه الايديولوجيا، بعد ان قطع شوطاً طويلا في عبادتها، بل استمد وجوده منها حتى زمن ليس ببعيد. ويخيل انه - في خضم الصراع الدائر الآن على تجاوز “حوار الطرشان” الدائر قريبا منه، وفيه يؤدي هو دور “المتسامح” فقط - لا يتوصل هذا “الانسان الجديد” الى مسؤوليته التاريخية والاخلاقية عما يحدث من تصعيد داخل هذه “المحرقة”، سواء تعلق ذلك بالقضية الفلسطينية او بالسطح الطائفي المتحرك والساخن، في داخل المجتمع الاسرائيلي نفسه. نحن هنا ازاء حالة من العزل الثقافي، ثمة في واقع اسرائيل اليوم، كمجتمع هجرات متواصلة، ما يؤذن بأنها ستتفاقم، وليس على صعيد العلاقات اليهودية - العربية بالضرورة، بل في اوساط مجتمعات المهاجرين أنفسهم بالذات.

تنجم هذه الحالة عن غياب الاشكال اللغوية للتفاهم، وبضمنها الترجمة. وفي هذا السياق يكتب بول مندس - فلور، شارحا فلسفة مارتن بوبر، الصهيوني الذي افرد حيزا معينا في الحكاية الصهيونية التاريخية “الذاتية” لحكاية “الاخر”، ويقول: “ان تاريخنا الذاتي، واخطاءنا وارباكاتنا، احزاننا وامالنا، يظل منقوصاً وغير واقعي، طالما هو ينكر قصة الاخر، ذاك الذي يمس حياتنا” (أضواء: 166). تقوم نظرة بوبر هذه على اعتبار “المسألة العربية في الواقع مسألة يهودية، اذ انها تمثل امتحانا للروح اليهودية، ليس مسموح لنا ان نفشل فيه” (اضواء: 173).

في هذا النص، يرد بوبر صراعه الى معادلة المنتصر والمهزوم، والقوي والضعيف، والإثم والجزاء. وهو ما تنبه اليه غسان كنفاني منذ البداية، عندما تحدث عن ولادة الصهيونية الادبية على صعيد المادة الفكرية أولا، التي تمثل نصوص بوبر وغيره، قاعدتها الايديولوجية.

وفي مسألة الصراع الذي يجعل من النص “مساحة لمعركة اختبارية تقتل فيها الكلمات العدو المحتمل، قبل ان يقتله الرصاص”، لا يوجد ما هو أفضل لننهي به هذا الفصل، مما كتبه الناقد فيصل دراج، عن رائد تفكيك النص الصهيوني من خطابه الايديولوجي، غسان كنفاني: “بين نص غسان والنص الصهيوني اختلاف في المعنى والمبنى والمنظور: في نص غسان يبني الانسان ذاته في زمن التجربة، وفي النص الصهيوني يهدم الصهيوني انسانا غيره في زمن التجربة. وباتلتأكيد، فإن غسان كان يحمل منظورا شاملا يتطلع الى ممارسته ادبا، فيصل ولا يصل؛ ولعل هذا ما يجعل رواية عائد الى حيفا تقع في محاكاة القوة، وهي تحاور العدو...” (دراج: 141).

هكذا كانت بداية غسان، منهجية تبني هوية شاملة تتضمن الايديولوجيا والادب والسياسة، وتؤسس لنظرة نقدية معرفية واسعة للأدب الصهيوني.فماذا نفعل نحن اليوم، تأسيساً على هذه النظرية، وتطويراً لقراءاتنا في “الثقافة الاخروية”، وحاجتنا لمحاورتها ونقدها؟ يخيل أننا لم نبرح هذه القاعدة، فيما نعرض له من نصوص وأفكار، وفيما نترجمه منها، أو نقوله ضمن هذا الاطار.

6) ترجمة الشعر الاسرائيلي

نادرا ما توفرت لنا، نحن الذين “نتذوق” الشعر العبري بلغته الأم، فرصة الإبحار في مجاهيل “ديوان الشعر العبري الحديث”، بطريقة تجعلنا نسبرها “زمَكانيا”، هنا والآن، مؤطرةً بين دفّتَي كتاب، على رغم وجود الكثير من الكتب والمختارات الشعرية التي زعمت التصدي لهذه المهمة، وجاء معظمها باللغة العبرية، بطبيعة الحال ؛

فهي - اي: الفرصة - موجودة دائما، كلما صدفنا نصاً شعرياً عبرياً نقرؤه إما بلغته أو بلغتنا؛ من هنا فانها تبدو “فرصة مباشرةً” القارىءُ صاحبُها، وليس بمقدور أحد أن يلعب دور الوسيط بينه وبين مجاهيلها، التي تكبر بقربنا وتكبر غربتنا حيالها، كلما اقتربنا من الإقتناع بأننا ملكنا المفاتيح لفهمها، ولإدراك معانيها وغاياتها المختلفة.

لكن إشكالية “الديوان المتكامل” سرعان ما تكشف نفسها، ليصير الاختيار، شاعراً وقصيدة، متوقعاً، ويظل فقط أن نتفاعل، كلٌ بطريقته، مع قصائد هذا “الديوان”.

ومن الطبيعي أن يفرض اللقاء مع نصوص إبداعية عبرية مترجمة، قادمة إلينا من ساحة الثقافة الإسرائيلية المتحركة، وليس من “ساحة الحوار” الغائب معها، انتباهة معينة على الساحة الثقافية العربية، قد تصل حدَّ الصخب، كما يحدث كثيرا في هذه الايام. فقد جرت العادة أن يكون إقبالنا على هذه النصوص برؤية مُسبقة، تُغيّب نصّ الآخر، استجابة لرغبتها في تغييب “الآخر” نفسه من افقها المتقلب. وعندما نشهد البعض يعطي هذا النص موقعاً متقدماً في دائرة اهتمامه، كما يحدث لدى فئات كثيرة من المثقفين والمبدعين العرب والفلسطينيين، يكون استهلاك هذا النوع من المادة لديها مدعاة لاستنفار الوعي الثقافي والسياسي، تنديداً بهذا النص، وتهيباً من إيحاءاته. ولعلني اشير هنا، الى انني لم اصدف ادبا قومياً في زماننا هذا، يتم التعامل معه عبر حالات من “الاستنفار الوطني العام”، كما يحدث مع الادب العبري! هذه حقيقة، نسجلها، ولا نرغب بالتعليق عليها في كل الاحوال!

ولأن هذه الهموم العربية لم تتجاوز بعدُ مقولة “البُعد الآخر في خطاب العدو الأدبي”، التي حكمتها طيلة الوقت، وما تزال، أصبحت “عدوى” تأسيس الاهتمام بالنتاج الثقافي العبري المعاصر على معرفة النص أولاً، “هاجسا ثقافيا” ملازماً لكثيرين، تعبيرا عن رغبة في البحث عن “بُعد آخر” للإبداع الثقافي الاسرائيلي، بطريقة إنتقائية أولاً، تفضي بالتالي إلى أن أفضل الطرق لمعرفة “الآخر” عبر إبداعاته المختلفة، لا بد أن تقوم على معرفة موسوعية شاملة، لم تتوفر لدينا بلغتنا العربية حتى الآن. وفي ايامنا هذه، يبدو أن هذا “الجهود الموسوعية” المتواضعة تظل “عسيرة الهضم” على عدد من المثقفين والمبدعين العرب، ممن انغلقوا على حدود النص العبري التقليدي، الذي كانوا يعثرون صُدفة عليه، في معظم الأحيان. فقد جرت العادة، كذلك، أن نستهلك نَصاً “تقدمياً” و “إنسانيا”، ومُشبَعاً بالنزعات السَّلامية الغامضة والمبلبَلة فقط، أو شوفينياً - عنصرياً ومنغلقاً، كنموذج وحيد يبدو أنه ما زال يلقى الرواج لدينا، لأنه متفق مع الصورة الجاهزة في مخيلاتنا عن “الآخر” الإشكالي. هذه رؤية مغلوطة لم تتوصل بعد إلى السطر الأخير في حكاية “الآخر المنغلق علينا” والمنغلق على نفسه، الذي يقوم بإملاء شروط “مصالحته التاريخة” علينا، معتبراً مسألة “المصالحة الثقافية” أمراً مفهوماً ضمناً لا بد أن يمضي مع “المصالحة السياسية”، وانه لا يحتاج إلى تفسير! وفيها تجنٍ على الحقيقة في الجانبين، لأن الرؤية الشمولية لقضايا الثقافة والإبداع في إسرائيل، لا تسعى أساساً لعرض أي موقف أو قول “سياسي” في مجابهة الرسالة (أو الرسائل) التي تحملها هذه الثقافة، وبخاصة، لأننا لا نزال في طور التراكمات النصية، التي نؤمن بوجوب توفرها بطريقة موسوعية بين أيدي القراء، حتى نستطيع المجادلة فيها والحكم عليها بموضوعية، وعن معرفة.

لكننا - في أول هذا الجدل، الذي اتمنى أن نفتتحه بطريقة معافاة كثيراً على ساحة الحوار الثقافي الفلسطيني - العربي ندعي ان شروط “تسوية ثقافية” الآن، غير متوفرة حتى على الصعيد الثقافي، لأسباب يتصل بعضها “بالآخر” وسلوكه تجاهنا، وبالتعقيدات الكثيرة التي تحملها بعض النفوس الفاعلة الى هذا المسار من الجانبين، عندما نجدها تلائم نصوصها عبر قوالب جاهزة، منفّرة ومستهلَكة، وتقول بالتالي، وفي أحسن الأحوال، انها لا تجد لديه ما كانت تبحث عنه أو تتوخاه.

صعب أن نتعامل اليوم مع الشعر العبري (المعاصر بالذات) عبر قصيدة واحدة أو اثنتين فقط. فـ “إشكالية الديوان” التي أشرنا اليها في البداية، تجعل من هذه النصوص الشعرية مادة تفيض عن ضفافها، التي هي ضفافنا نحن في الأساس، وتحرك فينا حنيناً مبرَّراً باستمرار لإطلاق حكم تاريخي - ثقافي واحد على ما يتم انتاجه في اسرائيل اليوم من ثقافة وإبداع: أَنَّهُ إبداع تصنعه مؤسسة ضخمة لا أفراد، وأنه يتنظم كله في خدمة “المشروع الصهيوني”.. هذه ايحاءات سياسية في أساسها، كان أتى بها كما ورد آنفاً الكاتب الشهيد غسان كنفاني، مَن كان طليعياً في توجهه نحو قراءة ونقد إبداعات المشروع الصهيوني الثقافية، جاعلاً منها أطراً عامة في التعامل الأوَّلي مع الإبداع الثقافي الصهيوني، وفي نقده.

لم تعد هذه الإشارات الريادية كافية اليوم لنؤسس عليها المزيدَ من التحليل والنقد، وذلك لسبب بسيط: أن “المؤسسة الضخمة” و “صاحبة المشروع”، تعيش حالة تفكك قيمي واجتماعي متفاقم، يحوّل السّواد الأعظم من المبدعين والشعراء الإسرائيليين إلى وحدانيين في إبداعهم، ويجعلهم يقتربون من المؤسسة بقدر حاجتهم الحياتية فقط للإعتراف بها، ويقرأون بصورة مختلفة ألِفْباء “المشروع الصهيوني”، مؤسسين على أسس مغايرة وجديدة، يصل بعضها حد رفض “المسوغات الأخلاقية” التي أسس عليها الصهيونيون الأوائل مشروعهم المذكور.

كان غسان كنفاني يحقق رؤيةً متقدمةً جداً لنقد ما اصطلحنا عليه دائماً بـ “الأدب الصهيوني”، لكنه يخيل أن حدود هذا المصطلح اليوم تتلاشى في إبداعات الشباب الراهنة أولاً، التي بدأت تنطق باسم “ثورة ما بعد الصهيونية”، وتقول إنها تحاول صياغة كل شيء من جديد. ومن المهم أن ندرك، في تعاملنا الارادي مع النصوص الإبداعية العبرية، أن قضايا الثقافة والإبداع في إسرائيل لم تعد تستهلك أي نوع من أنواع الخطاب السياسي الجاهز، والمقولة السياسية - الثقافية الواحدة، التي تصب في خدمة “المشروع الكبير”. عكست النصوص العبرية المعاصرة، شعراً ونثراً، بحضورها في هذه المرحلة المربكة (أو، بلغة الخطاب الثقافي الصهيوني: “مرحلة ما بعد الصهيونية”)، تعددية مفهومة ضمناً، لا تستعصي على الفهم أو التفسير، تستدعي نقدَها والتعامل معها بقدر كبير من الموضوعية والإنفتاح والمعرفة.

.. وعليه، وفي ضوء هذه التعددية التي تشهدها الساحة الثقافية الإسرائيلية منذ سنوات، لا يمكن للفضول الثقافي، أو الحاجة الى “معرفة العدو”، أن يظلا مدخلنا الوحيد في تفسير إصرارنا المُزمن على التعامل مع مختلف مظاهر وأشكال الإبداع الثقافي والفني الإسرائيلي، عبر هذه القوالب التقليدية المزمنة، التي يصطلح عليها البعض بـ “الستريوتيب”. يخيل أن هناك حاجة أخرى لمداخل ومخارج كثيرة، تقوم على رؤية نقدية واثقة وواضحة تجاه هذا الإبداع، وتؤسس على ما تراكم لدينا من معرفة بالجوانب المختلفة له، التي اكتسبها بعضنا عبر نصوصه المترجمة القادمة الينا من أطراف المجتمع الإسرائيلي، بينما ينتقي بعضنا الآخر بنفسه نصوصه الأصلية، بحكم معرفته اللغوية، ويأتي بها من أعماق هذا المجتمع، بين حين وآخر. وفي كلتا الحالتين، يبدو التسلح بمثل هذه الرؤية شرطا ثقافيا لازما، يجعل الوصول الى “ملف الإبداع الإسرائيلي” مهمة مضمونة ومفيدة، لأنه شرط كبير لانتهائنا من هذا “الملف” بعافية ثقافية أيضاً، نحتاجها الآن بالذات، للتخلص من إصرارنا على “الإنكشاف” أمام الثقافة التي تقوم بإنتاجه، وأمامه.. خائفين!

منذ مطلع الثمانينات، تقيدنا، نحن قراء الضاد، رغبة سحيقة لم يعد لها ما يبررها، بأن نسحب على كواهلنا أوزار هذا الفضول الثقافي المعين تجاه المؤسسة الإسرائيلية و إبداعاتها المختلفة. ومنذ اللحظة الأولى لانشغال العرب بقضايا ومخاطر “التطبيع” – (منذ اواخر السبعينات ومطلع الثمانينات وحتى اليوم) - ونحن نتطوع لهذه المهمة باسم الشعوب العربية كلها، منقادين وراء خطابها الثقافي المبلبَل في الغالب، في قراءة هذه الابداعات والتعليق عليها.

مع ذلك، فاننا ما زلنا نندهش، في كل مرة نتوقف فيها عند حدود الابداع الثقافي العبري، من هذا القدر الكبير من “الاختلاف” الذي تحمله إلينا مواقف المبدعين اليهود على الدوام، وفي أكثر من حُقبة تاريخية وزمنية، سواء المبكرة منها، التي تميزت بها نصوص إبداعية وسياسية وفكرية، مكتوبة بعد العام 1967، ام تلك المتأخرة، التي أدهشت الكثيرين منا، كما تجلت في نصوص حرب لبنان أو حرب الإنتفاضة على سبيل المثال. نندهش، ونتهيب - في الوقت ذاته - التصريح عن سر هذا الإندهاش.

وها نحن اليوم نعود لمراودة خطاب “التطبيع” عن نفسه، ونستدعيه لتخليصنا من أسر إصرارنا على جعل مخاوفنا من “الغزو الثقافي”، زوادة أيديولوجية تقدمنا بتهيب كبير الى “الآخر”، تقع في اساس خطابنا الثقافي للعالم، وتحمله إلى ألفه الثالثة، تحت لواء معاداة “التطبيع”. هكذا يفعل بعض الكتاب العرب الصاخبين بمقولة “ضد التطبيع”، في التعامل مع ما نحمله إلى لغتنا مُترجماً من نصوص إبداعية حاضرة إلى جانبنا، نقرأ منها ونترجمها، ونجتهد كثيراً في تفسير أسباب إقدامنا على “ارتكاب” هذه الخدمة الثقافية المجانية، تجنباً لهذه الفرية المريبة!

ونحن في ذلك، إنما نؤسس على الإنتقائية فقط وليس التراكم، في الاستهلاك الثقافي لإبداعات “الآخر”، ونجعل من الانتقائية موقفاً، والتأسيس على التراكم موقفاً، والقولبة موقفاً غير مبرَّر على الإطلاق. لذلك، لا يمكن لرؤيتنا المقولبة للإنتاج الثقافي الاسرائيلي، على اختلاف اتجاهاته، أن تضمن لأحد منا التوصل إلى المضامين الحقيقية لهذا الانتاج، أو لحقيقة مواقفه المجهولة، ما دمنا نصر على هذا التدخل الفظ في فك رموز وابداعات الثقافة الموجودة الى جانبنا، وتتنفس معنا هواء نفس الوطن، بهذه الآلية الفجة، التي تؤكد على أن موقفها هذا لا يعني أبدا عدم الالتقاء مع الآخر الذي يمتلك رؤيا وموقفا مماثلين، وحتى قناعة بروايتنا التاريخية العادلة، ويقرّ بحق الفلسطيني في الحياة على ارض فلسطين التاريخية، واقامة دولته المستقلة.

يظل إدراك غاية “النص - الآخر” الحقيقية، وليس الأدبية فقط، ضروري لنا لتجنب الخلط بين التقدمي والرجعي فيه، أو الانساني والشوفيني، كما يفعل اليوم أنصار التعلل بـ “معاداة التطبيع الثقافي”، ليصير بمقدورنا ان ننسب كل خطاب او قول أو إبداع، لزمانه وسياقه الصحيحين، ونقدم قراءة فاهمة للنص، ودلالاته، لنكف عن تفصيل الإنتاج الثقافي الإسرائيلي بمقاساتنا السياسية، التي بلغ شططها أن حددت غايات الأديب الإسرائيلي لنفسه، وطالبته الالتزام بها، شرطاً لمحاورته!

7) .. وماذا بعد؟

منذ مطلع الثمانينات، والثقافة الإسرائيلية الراهنة، ليست نسيجاً واحداً ومتكاملاً، وإنما تعددية ثقافية وأدبية مغايرة لما اعتدناه من قبل. تنسحب هذه الحقيقة على كل ما يتصل بهذه الثقافة من ظواهر وأنواع أدبية. وتكفي قراءة نَص من النصوص الشابة الجديدة، غير تلك التي كتبها ويكتبها “أدباء جيل الدولة” (عاموس عوز، أبراهام ب. يهوشواع، دافيد شاحر،يهودا عميحاي، وآخرون)، حتى ندرك أنه لا وجود لنص عبري منسجم مع ثقافته، بل أن معظم مبدعي “الموجة الحديثة” في الأدب الاسرائيلي العبري اليوم، ينبشون في خبايا الذاكرة الجماعية، ويحاول بعضهم إعادة صياغتها - وفق رؤية إنسانية - من جديد.

لكن تجربتنا المتواضعة - نحن أبناء الجيل الواقف بحق الضائقة بين ثقافتين، والمتفاعل معهما كل على انفراد - دلّتنا على أن أفقنا الثقافي مليء بالحفر و “المناطق الحرام”، التي تترصد كل من يدخلها بشتى التوصيفات والتسميات، أولها الإتهام “التطبيع”، وآخرها “الإحتواء”. لذلك، لا أرانا اليوم بحاجة لقول سياسي يبرر وجود مثل هذا النوع من التقاطع والتعارض بين “ثقافتينا”، اللتين لا تؤديان أي نوع من الإقتراب، الواحدة من الأخرى، فينا أو بجانبنا، على رغم أن موقعنا المشترك يجعل من التقائهما في دوائر اهتماماتنا أمراً طبيعياً وُمدركاً. تلزمنا كثيراً الآن انتباهَةٌ واعية لما يتفاعل إلى جانبنا من تيارات ثقافية وإبداعية وفكرية أيضاً، ينطق بعضها باسم الحداثة، وبعضها الآخر يتقدم منا عبر أطر وَمسمّيات “شرق أوسطية” مختلفة، ويروج لفكرة واحدة ووحيدة لا يتجاوزها في سبيل إغناء الحوار معنا، مخفياً الأسباب التي تجعل فكرة التبادل الثقافي مستعصية على الفهم والإدراك، في أوساط واسعة لدى الطرفين.

ثمة جيل واحد على الأقل من الكتاب الإسرائيليين، ممن بدأوا بين الحربين - حزيران 67، ولبنان 82 - يكتب وطنا مختلفاً ومغايراً لوطن “الآباء والأجداد” الذي كتبته أجيال الأدب العبري الأولى. انه وطن المفاهيم المختلفة، التي لا بد أن نتريث عندها ما يلزم من وقت، لكي نفهمها ونقيم هذه التحولات الكبيرة في وعي أبناء هذا الجيل من المبدعين. فهو جيل ليس مديناً لأحد، أو ملتزماً بفكر واحد، أو رؤية واحدة، وتوجهه في ذلك أسئلة من أسئلة كثيرة، حول ما يجب تقديمه من ثمن وتضحيات، لتجاوز إشكالية الواقع المأساوي، ومحنته، وبالتحديد - مع ما يتقاطع منه مع المسألة الفلسطينية. وفي ذلك بالذات ما يستدعينا لأن نذهب إلى النص العبري المعاصر، “الآخر”، للبحث عنه، لا عن أنفسنا فيه. وهو ما أحاول التأسيس عليه فيما أقرأ أو أترجم أو أنقد، من هذه النصوص.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات