(*) أصدر "مركز أدفا- معلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل" بيانًا أشار فيه إلى أن لجنة تراختنبرغ التي عينها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لتقديم توصيات بشأن تغيير السياسة الاقتصادية- الاجتماعية للحكومة لم تملك صلاحية تحدي المفهوم الاقتصادي- الاجتماعي المعمول به في إسرائيل منذ العام 1985، والذي من دون تغييره لا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية.
وجاء في هذا البيان:
في 7 آب 2011 عيّنت الحكومة لجنة تراختنبرغ وكلّفتها بما يلي:
1. تقديم اقتراحات لتغيير سلّم الأولويّات من أجل تخفيف العبء الاقتصادي عن الإسرائيليين؛
2. اقتراح تغيير في النظام الضريبيّ؛
3. تقديم توصيات لتوسيع مناليّة الخدمات الاجتماعية؛
4. التوصية بطرق لزيادة المنافسة من أجل خفض الأسعار؛
5. اقتراح طرق لتطبيق خُطط إسكان تمّ إطلاقها قبل ذلك.
وهذه كلّها قضايا مهمّة لكنّها لا تصل إلى حدّ أن تشكّل معًا نقدًا صريحًا متحدّيًا للمفهوم الاجتماعي والاقتصادي الموسّع، أو حتّى لإعادة التفكير فيه من جديد؛ والمقصود ذلك المفهوم المسيطر والمعمول به في البلاد منذ أن بدأ العمل بخُطة الطوارئ لموازنة الاقتصاد واستقراره في العام 1985. وتكمن المشكلة في أنّ المؤسّسة الاقتصادية المسيطرة، سواء أكان ذلك في الأكاديميا أم في أروقة السلطة، بما في ذلك لجنة تراختنبرغ، ترعرعت على "مذهب العام 1985".
جوهر هذا المذهب عرضه آفي بِن باسات، المدير العام لوزارة المالية الأسبق، في الكتاب الذي أعدّه احتفاء بذكرى الخبير الاقتصادي ميخائيل برونو، الذي صاغ المضامين الأساسية لخُطة الطوارئ لموازنة الاقتصاد واستقراره العام 1985، ويتضمن ما يلي:
(أ) تقليص دور الحكومة في عجلة الاقتصاد؛
(ب) جعل النموّ الهدف الرئيس للسياسة الاقتصادية؛
(ج) نقل المسؤولية عن النموّ من يد الحكومة إلى القطاع التجاريّ الخاص.
كان الهدف من خُطة الطوارئ لموازنة الاقتصاد واستقراره هو وضع قاعدة لما اعتُبر في حينه الطريق المستقيم (الصحيح والسريع) نحو الازدهار الاقتصاديّ: استمتاع طبقة أصحاب رؤوس أموال بعيدة عن طاولة الحكومة باعتماد تجاريّ رخيص وكبير، يمكنها من منافسة السوق العالمية، بحيث تقوم - من خلال ذلك - بتطوير الاقتصاد الإسرائيليّ لتصل فيه إلى المستوى الاقتصاديّ في الدول الغربية. فإذا كان المعمول به - حتى ذلك الوقت - سياسة تطوير اقتصادية واجتماعية تقودها الدولة؛ فإنه منذ ذلك الحين، باتت التقليعة أو السلوك المُتّبع هو تقليص دور الدولة، تقليص ميزانيتها وتسليم زِمام الأمور إلى القطاع التجاريّ الخاصّ. وإذا كانت الدولة - حتى ذلك الوقت - مسيطرة على تيارات رأس المال، فمنذ ذلك الحين يسيطر عليها من يُدعَون بالـ "تايكونات" (الحيتان أصحاب رؤوس الأموال). وإذا كان التركيز - حتى ذلك الوقت- على التطوير الاجتماعيّ، التعليميّ والاقتصاديّ، فمنذ ذلك الحين ينصبّ التركيز على النموّ، وذلك كما هو معروف يُمكن تحقيقه، أيضًا، من خلال ضخّ موارد واعتمادات مالية إلى فرع أو اثنين، من قبيل فرع التكنولوجيا العالية (الـ "هاي- تك").
إن مذهب العام 1985 ليس اختراعًا إسرائيليًّا خاصًّا؛ بل تمّ استيراده إلى هنا من إنكلترا والولايات المتحدة، حيث أطلِق عليه هناك مصطلح "الإجماع الواشنطُنيّ". ومن الجدير بالذكر أنّ "الإجماع الواشنطُنيّ" لم يكن توافقيًّا، قَطّ؛ ويبرز ذلك أكثر في هذه الأيام التي يشهد فيها الغرب أزمة اقتصادية حادّة، حيث أن القطاع التجاريّ الخاصّ الذي تظاهر بقيادة الاقتصاد، اضطُرّ إلى التوسّل من أجل حياته لدى مؤسّسات الدولة؛ حيث يتّضح أنّ التركيز الحصريّ الاستحواذيّ على تسريع النموّ، وسّع الفوارق وعمّقها وأضعف المناطق النائية (الأطراف)؛ وأنّ سياسة التقليص الوظيفيّ والخاصّ بالميزانية للدولة، أضعفت أجهزة كانت مهيّأة لتشجيع النموّ الشامل للمدى البعيد. ومع مزيد الأسف، لم تُعيَّن لجنة تراختنبرغ لتتعمّق في "مذهب العام 1985" وفي نقد مضامينه الأساسية وتحدّيها.
يمكن لأنصار مذهب العام 1985 أن يفتخروا بشيء: مثلاً، فرع التكنولوجيا العالية (الـ"هاي- تك")، الذي يُعتبر "قاطرة" الاقتصاد، وهو شعار المبادرة، المنافسة، الربحية، والنموّ. لكن ما يُثير السخرية هو أنّ هذا الفرع مَدين بوجوده ونموّه إلى تخصيص ميزانية مكثفة من الدولة للمجموعة العسكرية الصناعية في سبعينيّات وثمانينيّات القرن المنصرم. ومع تمدين عدد من الصناعات العسكرية في نهاية ثمانينيّات القرن المنصرم، تحوّلت استثمارات الدولة الرسمية إلى استثمارات بيع خاصّة دسمة لجني الأرباح الكبيرة والسريعة ("إكزيتانات"). المجموعة الصناعية العسكرية، فرع التكنولوجيا العالية (الـ"هاي- تك")، والفروع التي نمت معهما، مثل قطاع الأموال، تُمكّن عُشرًا إسرائيليًّا واحدًا أو عُشرين على الأكثر من تحقيق مستوى حياة طبقة وُسطى عالية غربية. وتكمن المشكلة في أنّ التكنولوجيا العالية (الـ"هاي- تك") وقطاع الأموال، معًا، يُعيلان ما لا يزيد عن 13% من الأجيرين في إسرائيل. ومن جرّاء ذلك، كان العُشر الوحيد في الأعوام العشرة الأخيرة الذي زادت فيه مدخولات المرافق البيتية هو العُشر الأعلى؛ أمّا مدخولات كلّ البقيّة فقد تقلّصت أو تجمّدت. وهؤلاء الأخيرون، يُمكن أن يحقّقوا مستوى حياة أدنى، ليس بسبب أجرهم المتدنّي، بل بسبب الأجر الأكثر تدنّيًا للعمّال الصينيين الذين يُنتجون مُنتَجات استهلاكية رخيصة.
مذهب العام 1985 أفرز النتائج التالية: تركيز كبير للثروة؛ تآكل الطبقة الوسطى - من ثلث المرافق البيتية العام 1988 إلى نحو ربعها العام 2009؛ مضاعفة دائرة الفقر - من أكثر بقليل من 10% العام 1980 إلى أكثر بقليل من 20% الآن. ونحو ثلثي الأجيرين في إسرائيل يتقاضون أقلّ من 6 آلاف شيكل في الشهر. ويتزامن كلّ ذلك مع تراجع قوة نقابة العاملين (الـ "هستدروت") وتشغيل مئات ألوف العاملات والعاملين - الإسرائيليين، الفلسطينيين، ومهاجري العمل - بأجر متدنٍّ ومن دون حماية مهْنية.
وفي الوقت نفسه، فإنّ سياسة التقليص في الميزانية أدّت إلى تآكل التمويل العامّ لأجهزة التعليم، الصحّة، الإسكان، والرفاه؛ رحيل ألوف "العقول" إلى خارج البلاد؛ أزمة مستمرّة في كثير من السلطات المحلية؛ ذبول الأطراف (الأماكن النائية) في أعقاب توجيه غالبية الاستثمارات التجارية إلى مركَز البلاد، وليس أقلّ خطورة من ذلك - التحيّز الماليّ للنشاط الاتّحاديّ.
ما الذي يجب القيام به؟
1. البدء بإجراء متعدّد الأعوام من أجل توزيع النموّ (اللا- مركَزية)، لئلاّ يتلخّص بعدد من القطاعات النشِطة في مركَز البلاد وتستند إلى طبقة رقيقة، نسبيًّا، من قوة العمل المتعلّمة التي تنعم بأجر عالٍ. وتوزيع النموّ هذا يُمكن أن يكون مُمكنًا من خلال إعادة قسم كبير من الاعتماد، وخصوصًا ذلك الموجود في صناديق التوفير التقاعديّ، إلى السيطرة العامّة، وهو ما سيُتيح فرض وممارسة معايير، ومنها الاستثمار في إسرائيل والاستثمار في تطوير الأطراف.
2. البدء بإجراء متعدّد الأعوام لرفع مستوى الأجر في إسرائيل، وهو إجراء سيُدمج تطوير جهاز التعليم والتعليم العالي، تشجيع العاملين على التكتّل، والعمل الحثيث على رفع الأجور في مؤسّسات الدولة إلى مستوى يضمن العيش الكريم، حيث تشمل مؤسّسات الدولة المشغَّلين في أجهزة الدولة مباشرة، وكذلك المشغَّلين في المصانع وفي السلطات التي تقيم معها الدولة علاقات مالية.
3. البدء بإجراء متعدّد الأعوام لرفع مستوى التعليم والتعليم العالي لأولئك الثلاثة أرباع، تقريبًا، من الشباب في إسرائيل الذين لا ينجحون في الوصول إلى التعليم العالي.
4. إجراء متعدّد الأعوام لتعزيز أجهزة الدولة، التي ضعفت، وتمّت حتى خصخصة قسم منها في ربع القرن المنصرم، منذ تبنّي مذهب العام 1985. التنظيم الحكوميّ الفعّال ضروريّ لمنع تركيز الثروة، الأداء الفقير لجهاز التعليم، عدم تطبيق قوانين العمل، والتملّص من دفع الضريبة الحقيقية، وغيرها.
إن النقاش الجماهيريّ حول طلبات الاحتجاج الاجتماعيّ ركّز - أكثر من اللازم، حتى الآن - على قضايا ضيّقة، ومنها: هل يُمكن "اختراق إطار الميزانية"؟ وإذا كان الجواب: نعم، فبكم؟ لكنّ المشاكل التي أدّت إلى الاحتجاج لا تتلخّص بإضافة ميزانية كهذه أو أخرى، بل تعكس المشاكل سياسة اقتصادية واجتماعية عُليا، دفعت إلى الأمام بقسم صغير من المجتمع الإسرائيليّ وأبقت الأغلبية من الخلف. وبُغية التعامل مع هكذا وضع هناك حاجة إلى إستراتيجية عُليا متعدّدة الأعوام تسعى للشمولية، المساواة، والعدالة الاجتماعية.