بعد شهرين على انتهاء الحرب على غزة، أو عملية الرصاص المصبوب" العسكرية في قطاع غزة، بدأت تنكشف في إسرائيل فظائع الحرب وجرائم الجيش الإسرائيلي. وتجدر الإشارة إلى أنه خلال الحرب، فرضت الرقابة العسكرية الإسرائيلية تعتيما رهيبا على مجريات الحرب ومنعت وسائل الإعلام، حتى الإسرائيلية، من الدخول إلى المناطق التي اجتاحتها القوات الإسرائيلية. لكن أعداد القتلى الفلسطينيين الذين سقطوا في هذه الحرب أظهرت حجم الجرائم الإسرائيلية من دون أن تكون هناك حاجة للإطلاع على هذه الجرائم مباشرة. والآن بدأ الجنود يكشفون عن جرائمهم. فقد دلت شهادات أدلى بها جنود إسرائيليين مؤخرا حول ممارساتهم خلال الحرب على غزة على قيامهم بقتل مدنيين فلسطينيين وإطلاق النار بدون قيود وتدمير ممتلكات الفلسطينيين بشكل متعمد.
ونشرت صحيفة هآرتس، اليوم الخميس – 19.3.2009، قسما من هذه الشهادات وأشارت إلى أن الجنود أدلوا بشهاداتهم خلال مؤتمر عقدته المدرسة التحضيرية العسكرية التي تحمل اسم "رابين" في كلية "أورانيم" في شمال إسرائيل في 13 شباط الماضي. وشارك في المؤتمر عشرات خريجي المدرسة العسكرية، الذين يخدمون في الوحدات القتالية في الجيش الإسرائيلي، وشاركوا "بصورة فعالة" في عملية "الرصاص المصبوب" العسكرية في قطاع غزة بين 27 كانون الأول و18 كانون الثاني الماضي وخلفت أكثر من 1400 قتيلا فلسطينيا ونحو 5500 جريحا ودمارا هائلا.
وأفادت هآرتس بأنه "تحدث في المؤتمر طيارون مقاتلون ومقاتلون في ألوية سلاح المشاة. وكانت شهاداتهم من ميدان القتال بعيدة كل البعد عن ادعاءات الجيش الإسرائيلي، وكأن القوات حرصت خلال العملية العسكرية على أخلاقيات قتالية عالية في جميع الجبهات". وقد تم نشر ملخص للمؤتمر في نشرة خريجي المدرسة العسكرية التي صدرت الأسبوع الحالي.
وبين الشهادات القاسية التي قيلت خلال المؤتمر يظهر في النشرة وصفا أدلى به قائد وحدة تابعة للواء في سلاح المشاة حول مقتل سيدة فلسطينية وولديها جراء تعرضها لنيران مدفع رشاش إسرائيلي. وقال قائد الوحدة في شهادته إنه "كان هناك بيتا وبداخله عائلة... واحتجزناهم في غرفة، وبعد ذلك غادرنا البيت ودخله فصيل آخر. وبعد مرور عدة أيام على دخولنا صدر أمر بإخلاء سبيل العائلة. ونصبوا في أعلى البيت موقعا (عسكريا) لمدفع رشاش. وأخلى قائد الفصيل سبيل العائلة وقال لهم أن يتجهوا لناحية اليمين. ولم تفهم إحدى الأمهات وولديها وساروا لناحية اليسار. وقد نسوا إبلاغ الجندي عند المدفع الرشاش الذي على السطح بأنهم أخلوا سبيلهم وأن الأمر سليم وينبغي وقف إطلاق النيران... وبالإمكان القول إنه تصرف كما يتوجب ووفقا للأوامر التي صدرت له. ورأى الجندي عند المدفع الرشاش امرأة وولدين يقتربان منه وتجاوزا الخط الذي قالوا له إنه يحظر على أي كان الاقتراب منه. وهو أطلق النار مباشرة عليهم. وعلى كل حال فإن ما جرى هو أنه ببساطة قتلهم".
وأضاف قائد الوحدة العسكرية "لقد تقدموا وفجأة رآهم. أناس يتجولون في منطقة يحظر عليهم التواجد فيها. وأنا لا أعتقد أنه كان لديه شعور سيء مع ما جرى لأنه بالنسبة له هو قام بعمله بموجب الأوامر التي صدرت له. والأجواء السائدة بين جنودي كانت بصورة عامة... لا أعرف كيف أقول ذلك... أن حياة الفلسطينيين، دعوني أقول، هو أمر اقل أهمية كثيرا كثيرا من حياة جنودنا، وهم يبررون ذلك على هذا النحو".
ووصف قائد وحدة عسكرية إسرائيلية آخر حدثا، أصدر خلاله قائد سرية أمرا بإطلاق النار وقتل امرأة فلسطينية مسنة كانت تسير في الشارع على بعد مائة متر من البيت الذي احتلته السرية. وأضاف أنه اضطر إلى مناقشة قادته حول تعليمات إطلاق النار بدون قيود، والتي مكنت من "تطهير بيوت بواسطة إطلاق النيران ومن دون تحذير السكان سلفا". لكن بعد تغيير تعليمات إطلاق النار طالب جنود تحت إمرة قائد الوحدة "بقتل أي إنسان يتواجد هناك في قلب غزة، فكل من يتواجد هناك هو مخرب وإرهابي".
وتحدث قائد الوحدة العسكرية عن "كتابة جمل على الجدران مثل 'الموت للعرب' وأخذ صورة لعائلة الفلسطينية والبصق عليها وإحراق كل شيء يذكر بالعائلة الموجودة هناك. وهم يقومون بذلك لمجرد أنه بالإمكان فعل ذلك، وأعتقد أن هذا هو الأمر المركزي، أن ندرك أن الجيش الإسرائيلي سقط فيما يتعلق بالمسألة الأخلاقية... هذا حقيقي. ومهما تحدثنا عن أن الجيش الإسرائيلي هو جيش أخلاقي، دعوني أقول إن هذا ليس ما حدث في ميدان القتال وهذا أكثر شيء أتذكره".
وقال مدير المدرسة العسكرية داني زامير لهآرتس إنه لم يعرف مسبقا ما سيقوله الجنود خلال المؤتمر وأن مضمون أقوالهم "صدمنا" وأنه حذر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، غابي أشكنازي، في أعقاب ذلك من "التحسب بحدوث فشل أخلاقي خطير في الجيش الإسرائيلي". وعلى اثر ذلك التقى زامير مع ضابط التربية الرئيس في الجيش الإسرائيلي للتباحث في سلوك الجنود.
ووصف قائد وحدة عسكرية آخر عملية قتل امرأة مسنة كانت بعيدة عن مكان تواجد الجنود الإسرائيليين. وقال "إذا كانت مشبوهة أم لا، لا أعرف. لكن قائد سرية، مسؤول عن مائة جندي، أمر بصعود جنود إلى السطح مع مدافع رشاشة وقتلها. وأنا شعرت أن هذا كان ببساطة قتل بدم بارد". وسأله زامير: "لم أفهم، لماذا أطلق النار عليها؟". وأجاب قائد الوحدة قائلا إن "هذا هو الأمر الجميل في غزة. أنت ترى شخصا يمر في طريق معينة، وليس مسلحا بالضرورة، وبإمكانك إطلاق النار عليه بكل بساطة. وفي حالتنا كانت هذه امرأة مسنة، ولم ألحظ أنها تحمل السلاح عندما نظرت نحوها، وصدر الأمر بإنزال (أي قتل) الإنسان، أي هذه المرأة، عندما تراها. ودائما كانت هناك تحذيرات وأقوال، مثل أنه من الجائز أنه مخرب انتحاري. وشعرت بوجود تعطش كبير للدم لأننا لم نصادف مخربين".
وتحدث الضابط نفسه عن الأيام الأخيرة للعملية العسكرية وأن القوات الإسرائيلية كانت تخطط للدخول إلى مدينة غزة وأبلغ جنوده بتغيير تعليمات إطلاق النار "لأنه كما تعلمون أطلقنا الكثير من النيران وقتلنا الكثير من المواطنين من أجل ألا نصاب وألا يطلقوا النار باتجاهنا. وفي البداية كانت التعليمات بالدخول إلى بيت، وكان يفترض بنا الدخول بواسطة مدرعة واقتحام الباب السفلي والبدء بإطلاق النار في الداخل ومن ثم الصعود طابق بعد آخر و... أنا أسمي ذلك قتلا... وعمليا كان علينا الصعود طابق بعد آخر وإطلاق النار نحو أي إنسان يتواجد هناك. وقلت لنفسي: هذا ليس منطقيا. لكن جهات عليا قالت لنا أن هذا مسموح لأن كل من بقي في المنطقة وداخل مدينة غزة هو مخرب لأنهم لم يهربوا. وأنا لم أفهم تماما. من جهة ليس لديهم مكانا يهربون إليه ومن الجهة الثانية يقولون لنا إنهم إذا لم يهربوا فهذا ذنبهم... وحاولت التأثير من أجل تغيير ذلك قدر الإمكان. وفي النهاية كانت التعليمات بأن ندخل إلى بيت ونشغل مكبرات صوت ونقول لهم أن على الجميع أن يهربوا. لديكم خمس دقائق للخروج من البيت ومن لا يخرج سنقتله".
وتابع الضابط "جئت إلى جنودنا وقلت: اسمعوا، لقد تغيرت الأوامر... عندها جاءت لحظة أغضبتني كثيرا وأنا أذكرها جيدا: أحد جنودي قال لي 'لماذا؟' قلت ما هو الأمر غير الواضح؟ نحن لا نريد أن نقتل مواطنين أبرياء. ورد علي الجندي قائلا أن كل من يتواجد هناك هو مخرب وهذا أمر معروف. وعندها انضم زملاؤه: 'علينا أن نقتل كل إنسان موجود هناك (في غزة المدينة)، فكل إنسان موجود هناك هو مخرب، إرهابي'. وحاولت أن أشرح له لماذا علينا أن ننتظر وإمهالهم ليخرجوا وبعد ذلك الدخول إلى البيوت. لكن هذا لم يساعد. إن الجنود في الحقيقة لم يستوعبوا ذلك. فقد اعتقد الجنود أنه بإمكانهم أن يفعلوا في غزة كل ما يحلو لهم".
وعقب الناطق العسكري الإسرائيلي على شهادات الجنود بالقول إنه "ليس لدى الجيش الإسرائيلي أية معلومات سابقة للأحداث المذكورة. وسوف يدقق الجيش الإسرائيلي في صحتها ويحقق فيها إذا قضت الحاجة".