كتب برهوم جرايسي:
شهدت الأيام الأخيرة في إسرائيل حالة تخبط كبيرة في تقديرات الخسائر الاقتصادية جراء الحرب العدوانية الجارية على لبنان، فوزير المالية أبراهام هيرشزون ورئيس الحكومة إيهود أولمرت اكتفيا بالحديث عن حصانة الاقتصاد الإسرائيلي والقدرة على تغطية تكاليف الحرب بعد أربعة أيام من نشوبها، إلا أن تصريحات مشابهة لم تعد تظهر على السطح.
فقد ذكرت أوساط اقتصادية خبيرة أن الخسائر الإجمالية للاقتصاد الإسرائيلي تتراوح ما بين 90 مليون إلى 110 ملايين دولار يوميا، عدا عن معدل صرف يومي بقيمة 15 مليون دولار على العدوان العسكري. وفيما تبدي أوساط اقتصادية تفاؤلا من قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على استيعاب الخسائر دون أية هزات، فإن مراسلين اقتصاديين ينقلون عن خبراء قولهم "على الرغم من هذا، ورغم التفاؤل النسبي الذي يسود السوق الآن بأن الحرب ستنتهي سريعا، فليس من الممكن تجاهل التخوف من الانهيار الاقتصادي، الذي قد يمس بالنمو الاقتصادي ويضطر أصحاب رؤوس الأموال إلى إخراج أموالهم من إسرائيل".
الاقتصاد قبل وقوع الحرب
قبل أيام من شن إسرائيل الحرب على لبنان أعلنت الأوساط الاقتصادية، بشكل احتفالي، أن النمو الاقتصادي في الربع الأول من العام الجاري 2007 بلغ 6%، ليفوق كل التوقعات، إضافة إلى أن سعر صرف الشيكل شهد ارتفاعا في أواخر الحملة الانتخابية وحتى تشكيل الحكومة الإسرائيلية، وبعد أن تبين أن الرئيس السابق لاتحاد النقابات، عمير بيرتس، لن يتولى وزارة المالية، فقد عاد إلى سعره المتداول في العامين الأخيرين، في حدود 4ر4 شيكل للدولار.
كما أن الحكومة أعلنت أن ميزانية العام الماضي انتهت بفائض مالي من دون عجز، وهذا أيضا خلافا للتوقعات، كما أصبح هناك فائض في الخزينة من جباية الضرائب، الأمر الذي ساعد الحكومة على تخفيض ضريبة القيمة المضافة للمشتريات من 5ر16% إلى 5ر15%، ويجري الحديث عن تخفيض إضافي بنسبة 1% في العام القادم 2007.
كذلك فقد شهد سوق العمل استقرارا معينا بنسبة البطالة، في حدود 9ر8%، رغم أن الواقع الميداني، وهو موضوع آخر، يؤكد أن هذه النسبة ليست دقيقة، ولكن على الأقل هناك حالة استقرار في البطالة، ولا ترتفع.
ومن بين المعطيات التي تشير إلى قفزة في الاقتصاد الإسرائيلي ارتفاع معدل الرواتب (غير الصافية) في إسرائيل من 7100 شيكل (1580 دولار) في مطلع العام الماضي 2004، إلى حوالي 7500 شيكل (1668 دولارا) في شهر أيار الماضي.
وارتفع عدد السياح في العام الماضي 2005 إلى قرابة 5ر2 مليون سائح، وتوقع وصوله إلى ثلاثة ملايين سائح في العام الجاري 2006، بعد انهيار السياحة في الأعوام 2001 إلى 2004.
أما من حيث التضخم المالي، فإن النشاط الاقتصادي المتزايد في العامين الأخيرين، عكس نفسه أيضا على نسب التضخم، فبعد سنوات من الركود، الذي جعل التضخم المالي يلامس نسبة صفر بالمئة، فإنه في النصف الأول من العام الجاري بلغ التضخم نسبة 6ر1%، في حين أن السقف الذي وضعته الحكومة للتضخم في هذا العام يتراوح ما بين 1% إلى 3%. وتقول دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية إن التضخم المالي في النصف الثاني من العام الماضي 2005، والنصف الأول من العام الجاري 2006 (الأشهر الـ 12 الأخيرة) بلغ 5ر3%، ولكن حتى الآن يقدر خبراء أن مجمل التضخم في العام الجاري لن يتجاوز السقف الذي وضعته الحكومة.
وعلى ما يبدو فإن هذه المعطيات دفعت بوزير المالية، أبراهام هيرشزون، لأن يقول بعد أربعة أيام من بدء العدوان على لبنان، "يجب أن لا تتملكنا حالة الفزع (على الصعيد الاقتصادي) وإنما التعامل بحساسية ومسؤولية وحذر، إن إسرائيل ثابتة وقوية اقتصاديا، وإن انخفاض البورصة في اليوم الأول (للحرب) بنسبة 8%، كان رد فعل طبيعيا، ويجب السماح لها بالعمل بحرية من دون تدخل".
تقديرات متناقضة للخسائر
كان واضحا أن القلق الإسرائيلي بدأ منذ اليومين الأولين من الخسائر الاقتصادية، وظهور وزير المالية هيرشزون، وحتى رئيس الحكومة أولمرت، ليتحدثا بسرعة عن حصانة الاقتصاد الإسرائيلي، إنما يؤكد أن قادة الحكومة قرروا منذ اللحظة الأولى أنهم أمام حرب أسابيع وليس ساعات أو أيام.
وتبعت هذه التصريحات تقديرات مختلفة، ففي حين قالت مؤسسات اقتصادية إن خسائر الاقتصاد الإسرائيلي يوميا تصل إلى 500 مليون شيكل (110 ملايين دولار)، فإن اتحاد الصناعيين سارع للإعلان عن أن خسائر الاقتصاد في مصانع الشمال وحدها، يوميا، تتراوح ما بين 300 مليون إلى 400 مليون شيكل (من 68 مليون إلى 90 مليون دولار).
وهذه تقديرات مبنية على إحصائيات تقول إن 90% من المرافق الاقتصادية من مصانع وأماكن عمل مختلفة، في أقصى شمال إسرائيل (منطقة كريات شمونة الحدودية) مغلقة، وتنخفض هذه النسبة إلى منطقة الشاغور في أسفل الجليل الأوسط (منطقة كرميئيل) إلى 80%، ولكن الأهم من كل هذا هو أن نسبة إغلاق المصانع في منطقة حيفا، بلغت حتى نهاية الأسبوع الماضي 45%، وهي المنطقة الصناعية الأضخم في إسرائيل.
وتدعي الإحصائيات أيضا أن عدد المصانع والمشاغل ومختلف أماكن العمل التي تشهد إغلاقا أو عملا جزئيا في منطقة الشمال بلغ 1260 مكان عمل، وأن ضرر إغلاق مصانع أقصى شمال إسرائيل يتراوح ما بين 20 مليون إلى 50 مليون شيكل (من أربعة ملايين إلى 11 مليون دولار)، وهذا كله، قبل بدء الحديث عن احتمال إغلاق مصنع تكرير البترول الأكبر في إسرائيل، في خليج حيفا، الذي قد يصبح العمل فيه في الحد الأدنى.
يذكر هنا أن الخسائر تعني خسائر النشاط الاقتصادي وتأجيل اتفاقيات إنتاج، أو حتى إلغائها، وتلف مزروعات قبل قطفها وتسويقها وغيرها.
ويقول خبراء في بنك "ميرل لينتش" للتوظيفات المالية إنه حتى الآن من الصعب تقدير كيفية انتهاء الصراع بين إسرائيل وحزب الله، وكيف سيؤثر هذا على الاقتصاد. ويقول أحد المسؤولين والخبراء في البنك، يسرائيل ممريل، إنه "على المدى القصير فإن الحرب تخلق على الأرض واقعا يسمح بتحقيق أرباح في السوق، ولكن على المدى البعيد فقد تزيد من هشاشة السوق"، ويقدر هذا المسؤول انه حتى الآن فإن الاقتصاد الإسرائيلي لم يتضرر.
أما شركة المعلومات الاقتصادية "دان أند بردستريت"، فقد توقعت أن يتكبد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر يومية بقيمة نصف مليار شيكل (110 ملايين دولار)، بما في ذلك التكلفة العسكرية. وتعتمد الشركة في تقديراتها على إغلاق المصانع، خاصة في منطقة الشمال، والتعويضات عن الخسائر المباشرة، واجور العاملين الذين لا يعملون وغير ذلك.
إلا أن الشركة ذاتها تؤكد انه على الرغم من هذه الخسائر فإنه لا خوف على الاقتصاد الإسرائيلي نظرا لقوته وحصانته "التي تعتبر من ألأقوى في العالم الغربي" في هذه المرحلة.
وتتوقع الشركة أن تؤدي الحرب إلى تراجع طفيف في النمو الاقتصادي، الذي هو أصلا عال في هذا العام.
إلى ذلك فقد سارع بنك ليئومي إلى تغيير تقديراته بشأن النمو الاقتصاد في إسرائيل للعام الجاري، وقال إن تقديراته تشير إلى أن النمو سيكون 5ر4% بدلا من 7ر4%، وهذا بشرط أن يكون زمن الحرب قصيرا، وأن يعود الاقتصاد بسرعة إلى وتيرته السابقة، بمعنى أن إطالة فترة الحرب ستخفض التقديرات بدرجة أكبر، وكما ذكر فإن دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية أعلنت أن النمو الاقتصادي في الربع الأول من العام الجاري كان 6%.
ويقول خبراء بنك ليئومي إنه حتى الآن من الصعب وضع تقديرات لتأثير العمليات العسكرية الإسرائيلية على الاقتصاد، ولكن حتى الآن أصبح واضحا أن هناك ضررا اقتصاديا في الشمال خاصة في قطاع الصناعة، وقطاعات التجارة والسياحة والزراعة، كذلك يقدر خبراء "ليئومي" أن العجز في الموازنة العامة للعام الجاري سيزداد، على ضوء زيادة الصرف على الجيش.
ويتوقع خبراء ليئومي أن يتأثر التضخم المالي في الأسابيع القادمة من ارتفاع أسعار البيوت والنفط والوقود نتيجة التغيرات في سعر صرف الشيكل أمام الدولار، رغم انه حتى اليومين الماضيين لم يسجل ارتفاعا خارقا، ولكن استمرار الحرب قد يعكس نفسه على قيمة الشيكل.
وحتى الآن يعبر قادة الاقتصاد الإسرائيلي، الرسميون خاصة، عن ارتياحهم نظرا للثبات النسبي لسعر صرف الشيكل أمام الدولار والعملات الأجنبية، فبعد أربعة أيام من الحرب سجل سعر الصرف ارتفاعا بنسبة 3%، ولكنه سرعان ما تراجع إلى دون ذلك. وقال خبراء اقتصاديون إن قيمة الشيكل لم تنخفض بسبب الحرب فقط، وإنما أيضا بفعل ارتفاع قيمة الدولار في العالم في تلك الأيام.
وبعد أسبوعين من الحرب، استمر سعر صرف الشيكل أمام الدولار في تراوح ما بين 4ر4 إلى 55ر4 شيكل للدولار، ويقدر خبراء أن أصحاب رؤوس الأموال، الأجانب منهم خاصة، يسودهم الاعتقاد أنهم أمام حرب قصيرة، وان لا حاجة مرحليا لسحب إيداعاتهم وتوظيفها خارج إسرائيل بسبب "بضعة أيام"، في اقتصاد كل المؤشرات (حاليا) تقول انه يشهد حالة نهوض جدية.
ويقول الخبير الاقتصادي عيران بيسون، في شركة التوظيفات المالية "غيفت"، إن أقصى ما يمكن أن يصل إليه سعر صرف الدولار في هذه المرحلة هو 65ر4 شيكل للدولار، أي ارتفاع بنسبة 4% عن سعره قبل نشوب الحرب.
من يسدّد هذه الخسائر؟
أعلن رئيس الحكومة أولمرت، ووزير المالية هيرشزون، أن تمويل الحرب سيتم من احتياطي الميزانية في العامين الجاري والقادم، بحيث سيصرف 600 مليون شيكل (132 مليون دولار) من احتياطي هذا العام، و222 مليون دولار من احتياطي العام القادم 2007.
إلا أن هذا المبلغ من الصعب أن يغطي الكلفتين العسكرية والاقتصادية، التي نسمعها حتى الآن، فعلى الصعيد العسكري يجري الحديث عن معدل يومي بقيمة 15 مليون دولار (يعني خلال أسبوعين - 210 ملايين دولار)، ولكن الخسائر الاقتصادية التي أعلنت الحكومة أنها ستتكفل بها ليست معروفة بعد، وقد تحتاج إلى مبلغ لا اقل، ونحن الآن نتكلم عن أسبوعين، في حين أن الجيش يتكلم عن أسابيع طويلة للحرب، ما يعني أن التكلفة ستزداد إلى حد لا يمكن لاحتياطي الميزانية العامة تحمله.
حتى الآن لم تطرق إسرائيل أبواب الخزانة الأميركية، لكن الولايات المتحدة تظهر كمساندة لاستمرار الحرب، وترتفع أصوات في إسرائيل، مثل النائبة من حركة ميرتس زهافا غالئون، وحتى الصحافية سيما كدمون، في يديعوت أحرونوت، وغيرهما الكثيرون، تقول إن هذه الحرب تخدم مصالح أميركية.
ولا يستبعد مراقبون أن يتوجه قادة إسرائيل قريبا إلى الولايات المتحدة قائلين: "نشكركم على دعمكم ومساندتكم لعدم وقف الحرب سريعا، لكن كل هذا الدعم المعنوي يحتاج إلى ترجمة عملية في الخزانة الإسرائيلية".