المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كتب محمد دراغمة

جلست أم رياض، زوجة أقدم أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية أحمد جبارة الملقب "أبو السكر" في بيتهما القديم في قرية ترمسعيا قرب رام الله، وقد تحلق حولها عدد من أحفادها، بانتظار وصول زوجها، وجدهم، الذي أمضى زهرة شبابه "28" عاماً وراء قضبان السجون.

وكانت أم رياض علمت بتوصل الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي إلى اتفاق يقضي بإطلاق سراح أبو السكر ومائة آخرين من المعتقلين في اللقاء الذي جمع رئيسي وزراء الجانبين بعد منتصف الليلة قبل الماضية، لكنها - وقد خبرت عشرات اللقاءات السابقة المماثلة، وعمليات تبادل الأسرى، وإطلاق سراح أسرى في" خطوات النية الحسنة"، دون أن يطلق سراحه بحجة أن "يديه ملطختان بدماء اليهود" - رفضت تصديق النبأ إلا بعد أن تشاهده أمامها في البيت وسط أبناءه وأحفاده.

وقالت هذه السيدة التي ربطت مصيرها وحريتها بمصير وحرية زوجها الأسير الذي اعتقل بعد أربع سنوات فقط من زواجهما: لن أصدقهم- تقصد الإسرائيليين- حتى أراه أمامي، لقد استثنوه في عشرات عمليات التبادل والإفراج، وفي العام 84، في عملية تبادل الأسرى الكبيرة، أعادوه من داخل الطائرة التي تحمل الأسرى، بعد أن أطلقوا سراحهم، وأخبروه بأنه مستثنى من أية عملية تبادل أسرى أو إفراج.

وكانت السلطات اعتقلت أحمد جبارة البالغ من العمر اليوم 68 عاماً في العام 76 لدى عودته من الولايات المتحدة عبر الجسر، واتهمته بالمشاركة في عملية الثلاجة، التي وقعت في سوق محنيه يهودا في القدس الغربية، وأسفرت عن مصرع 13 إسرائيلياً وجرح حوالي سبعين، وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة ثلاث مرات، رغم عدم اعترافه بأي دور في العملية.

وقد طفحت قرية ترمسعيا الهادئة، إلى الغرب من رام الله، بالفرح، وتدفق أهلها إلى بيت أبو السكر للسؤال عن مدى صحة النبأ الذي سمعوه يتردد في مختلف وسائل الإعلام: "أنه يوم فرح كبير في قريتنا، لقد انتظرناه طويلاً، أنه بطل، قالت السيدة ربحية جبارة وهي تتقدم جمعا من النسوة المتوجهات إلى بيت أبو السكر.

وكانت آخر مرة شاهدت فيه هذه السيدة الأرملة أبو السكر في العام 75،ولم تره منذ ذلك اليوم.

وفي داخل البيت كان أفراد الأسرة في حالة فرح يصعب معها التركيز في أي شيء وفي أي شيء.

"أنه أكثر خبر أتأثر به طيلة حياتي، قال نجله رياض 29 عاماً.

وشدة تأثر رياض بنبأ الإفراج عن والده يعود إلى أنه لم يشاهده طيلة حياته سوى من وراء القضبان.

وقال: لقد اعتقل ووالدي وعمري لا يتجاوز السنة وبضعة شهور، ولم أره طيلة حياتي إلا أسيراً من وراء شبك الزيارة في عديد السجون التي نقل إليها".

وتمثل حياة أبو جبارة الفلسطينيين في شتاتهم الدائم الذي يتخذ العديد من الأشكال والصور..

فعندما كان الرجل في العشرين من عمره سافر إلى كولومبيا في أمريكا الجنوبية بحثاً عن فرصة عمل، وهناك تزوج من سيدة كولومبية أنجبت له أربعة أبناء (ولدين وبنتين).

وفي العام 65 انتقل من كولومبيا إلى ولاية نيوجرسي الأمريكية.

وقد انفصل الرجل عن زوجته الكولومبية وعاد مع أطفاله الأربعة إلى قريته ترمسعيا، حيث تزوج من سيدة ساعدته في رعاية الأطفال.

وبعد اعتقاله عاد ابناه من الأم الكولومبية "راضي ورضا" للعيش مع والدتهم في نيوجرسي، فيما بقيت البنتان جونيت وسونيا" مع زوجة أبيهما حتى أكملتا دراستهما الثانوية، وانتقلتا للعيش في أمريكا حيث تزوجتا هناك.

واليوم يحمل اثنان من أبناء أبو السكر "راضي ورضا" الجنسية الكولومبية، فيما تحمل ابنتاه "جونيت وسونيا" الجنسية الأميركية، واثنان "رياض وسمانة" الجنسية الفلسطينية، لكنهم جميعاً فلسطينيو الروح والهوية.

ويقول رضا الذي غادر البلاد إلى أمريكيا وهو في الثانية عشرة وعاد إليها وهو في الحادية و الثلاثين: لقد ربانا والدي على أن لنا وطنا وأهلا وأرضا وزيتونا".

"زرع فينا منذ طفولتنا الأولى حب هذه الأرض، وكبرنا وكبر معنا حبها، قال رضا.

وأضاف يقول: وعلى الدوام ظل وجود أبي في السجن يشدنا كخيط سحري إلى هذه البلاد، ويعمق فينا معرفة قضيتنا الوطنية".

ويحمل رضا كرت إقامة في أمريكيا "غرين غارد" إضافة إلى جنسيته الكولومبية، لكنه يقيم منذ عامين هنا في ترمسعيا دون عمل من أجل أن يزور والده في السجون.

وقال: منذ بدء الانتفاضة لم تعد الأسرة قادرة على زيارة والدي بسبب منع دخولهم إلى إسرائيل، وقد عدت كسائح كي أزوره باستمرار".

وكانت أول مرة شاهد فيها رضا والده لدى زيارته البلاد عام 94، وزاره في سجن جنيد.

ويقول: في ذلك اليوم بكى والدي كثيراً، وقد سمح لنا السجانون باللقاء في زنزانة صغيرة، وهناك عانقته للمرة الأولى منذ اعتقاله، وبكينا على كتفي بعضنا البعض".

وبعد مضي حوالي ثلاثة عقود على تفرق هذه الأسرة، باعتقال ربها، فإن أملها باللقاء ومواصلة الحياة معاً يشارف على التحقق.

وقالت أم رياض: تعبنا في غيابه خصوصاً في سنوات الاعتقال الأولى حيث كان علي متابعة الأسرة واحتياجات الأطفال، وآن الأوان كي نجتمع من جديد، ونستريح بين أولادنا وأحفادنا، خصوصاً وأن زوجي سيخرج من السجن وهو يعاني من أمراض مزمنة مثل تصلب الشرايين والسكري والضغط وهو بحاجة إلى رعاية دائمة".

"لكن هذه ليست النهاية، تقول أم رياض التي أكسبتها سني نشاطها مع عائلات الأسرى ثقافة سياسية فيها الكثير من العمق.

وتضيف: "ما زلنا بعيدين عن السلام الذي ننشده، السلام الذي يعود فيه جميع الأسرى إلى بيوتهم، واللاجئين إلى أرضهم وعائلاتهم"…

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات