يستدعي التعامل الموضوعيّ مع الوقائع الجافّة المعلنة بشأن المواقف الإسرائيلية الرسمية، ونحن على أعتاب "لقاء أنابوليس الدولي"، أن نلتفت إلى ما يلي: (*) لم يعد سرًّا أن هناك صراعًا حامي الوطيس- إذا ما استعملنا لغة الشعارات- بين رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود أولمرت وبين وزير دفاعه ورئيس حزب "العمل"، إيهود باراك، خصوصًا بعد أن خرج هذا الأخير عن صمته المعهود وأفصح عن وجهته السياسية بعد العسكرية.
وأمس الاثنين – 12 تشرين الثاني 2007- قال المعلق العسكري الإسرائيلي الواسع الإطلاع رون بن يشاي (موقع "واينت" الإلكتروني التابع لصحيفة "يديعوت أحرونوت") إن الصراع بين الإيهودين لا يندرج فقط في إطار استعداد كل منهما للتنافس على رئاسة الحكومة الإسرائيلية المقبلة، وإنما يعكس "خلافات إستراتيجية جوهرية وعميقة بشأن السؤال المتعلق بالمسار السياسي الذي يتعيّن على إسرائيل أن تركز جهودها القصوى فيه في غضون العام المقبل"، الذي يجمع المعلقون على أنه سيكون عامًا حرجًا ومصيريًا ارتباطًا بظروف عديدة ليس أبسطها انتهاء ولاية الرئيس الأميركي جورج بوش.
ويوضح بن يشاي أن أولمرت يؤثر التمحور في محاولة التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين، وأنه بالإضافة إلى ذلك على استعداد لتقصي احتمالية الوضع على المسار السوري لكنه غير مستعد لإجراء مفاوضات حقيقية وملزمة. ويدعم أولمرت، في هذا الموقف، جهاز المخابرات الخارجية (الموساد) ومجلس الأمن القومي وبالأساس الإدارة الأميركية. أمّا إيهود باراك، الذي يحظى بدعم رئيس هيئة الأركان العامة، غابي أشكنازي، وسائر قادة الجيش وجهاز الأمن العام (الشاباك)، فيعتقد بأنّ مجهود إسرائيل السياسي يجب أن يستثمر في المسار السوريّ، في حين ينبغي التحرّك على المسار الفلسطينيّ بحذر شديد وعلى نار هادئة.
ونقل هذا المعلق العسكري عن مصدر أمني إسرائيلي وصفه بأنه "رفيع المستوى جدًا" قوله إنه "يتوجب على إسرائيل، في العام الستين لقيامها، أن توجد حدودًا دائمة لها تقف من ورائها جهة واضحة يمكن التوصل إلى تفاهمات والتوقيع على اتفاقات ملزمة معها. بالإمكان التوصل إلى مثل هذا الأمر الآن مع سورية، بينما ما زال من غير الممكن التوصل إلى ذلك مع الفلسطينيين". وأضاف المصدر الأمني نفسه أن من شأن اتفاق سلام مع سورية أن "يؤثر، بصورة غير مباشرة، على حلبة الصراع الإسرائيلية- الفلسطينية أيضًا، لأنه سيؤدي إلى انفصال سورية عن إيران وحزب الله وحماس". ووفقًا لتقدير هذا المصدر فإنّ سورية ناضجة في الوقت الحاليّ لمفاوضات من هذا القبيل لأسباب مختلفة ومنها استخلاص سورية "العبر المطلوبة" من الغارة الإسرائيلية في 6 أيلول الماضي، التي قالت وسائل إعلام أجنبية إنها استهدفت "منشأة نووية سورية في طور البناء".
إلى ذلك أضاف بن يشاي أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية صاغت، أخيرًا، إستراتيجية "تقوم على انتهاج سياسة احتواء في الساحة الفلسطينية وإطلاق مبادرة سياسية في المسار السوريّ". وإنّ الدلالة العملية لسياسة "الاحتواء" هي مواصلة العمليات العسكرية القمعية وتقليص نطاق "الإرهاب الفلسطينيّ" إلى جانب القيام بخطوات اقتصادية وسياسية تستهدف تعزيز مكانة الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن). وإذا لم يسفر ذلك عن وقف إطلاق صواريخ القسّام يتمّ شنّ عملية عسكرية واسعة في قطاع غزة، يشترط الجيش الإسرائيلي للقيام بها أن توافق المؤسسة السياسية على الزجّ بقوات كبيرة تبقى في القطاع لمدة طويلة.
أخيرًا قال بن يشاي إن باراك والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية يدركان أنه ليس في وسع إسرائيل ألا تشارك في مؤتمر أنابوليس، ولذا فهما يطالبان بأن تصرّ على تطبيق خريطة الطريق، خصوصًا ما يتعلق بتفكيك البنى التحتية للإرهاب، كشرط لا غنى عنه لأي تقدّم سياسيّ. كما أنهما يطالبان بأن تكون محصلة المؤتمر عامة وغير ملزمة.
(*) فيما يتعلق بمؤتمر أنابوليس لا بدّ من الإشارة إلى تطابق موقف أولمرت بشأن الإصرار على تطبيق خريطة الطريق، وكذلك بشأن الحصول على الاعتراف بأن إسرائيل هي "دولة الشعب اليهودي"، مع موقف باراك. ويلفت النظر أن مسألة هذا الاعتراف تصدرت أجندة المعلقين وأصحاب الأعمدة الصحافية الإسرائيليين في الأيام القليلة الفائتة. بل إنّ أحد هؤلاء، وهو بن درور يميني، محرّر صفحة الرأي في صحيفة "معاريف"، جعل منها القضية الرئيسة للمؤتمر نظرًا لما تعنيه من "معركة على شرعية إسرائيل".
وكتب في هذا الصدد يقول: "سيكون مؤتمر أنابوليس حلبة صراع على شرعية إسرائيل. ولذا يتوجب على إسرائيل أن تقول نعم لوقف الاحتلال ونعم لدولة فلسطينية ونعم لحل مشكلة اللاجئين بصورة عادلة.
"الفلسطينيون يقولون لا منذ الآن، فقد أوضحوا أنهم يعارضون صيغة "دولتين لشعبين" وأنهم مستعدون لصيغة "دولتين" فقط، أي دولة فلسطينية على نحو مباشر الآن، ودولة فلسطينية أخرى بعد تطبيق حق العودة".
أمّا د. يهودا بن مائير، الباحث في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب والنائب الأسبق لوزير الخارجية، فكتب في صحيفة "هآرتس"، أمس الاثنين (12/11) ما يلي:
"تقول تقارير صحافية إن الفلسطينيين يعارضون صيغة "دولتين لشعبين" في أي تسوية مستقبلية مع إسرائيل ويصرون على تأييد صيغة "دولتين" فقط. يدور الحديث هنا على لبّ النزاع لا على مناقشة تتعلق بالصياغة أو بالكلمات. إذا كان هناك موضوع لا يجوز لإسرائيل أن تتنازل فيه أو حتى أن تتناقش بشأنه، تحت أي ظرف وفي أي حال، فهو هذا الموضوع لأنه يتعلق بوجودنا الحقيقي.
"هناك قدر كبير من الاستعداد لتقديم التنازلات لدى الجمهور اليهودي في إسرائيل، غير أن هذا الاستعداد كله مبنيّ على رغبة هذا الجمهور القوية في إنهاء النزاع وضمان وجود إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية. وقد أثبت بحث معمّق أجراه معهد دراسات الأمن القوميّ في شهر آذار الماضي أن 63% من السكان اليهود البالغين في إسرائيل يؤيدون حلّ "دولتين لشعبين". لكن ما دامت القيادة الفلسطينية ترفض الاعتراف بصورة واضحة بدولة إسرائيل باعتبارها دولة للشعب اليهودي فلن يكون هناك حلّ للنزاع.
"إنّ إعلان دولة إسرائيل، بصورة واضحة، عن تأييد الحقّ في إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على الغالبية الساحقة من أراضي يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وجميع أراضي قطاع غزة وحتى على أراضي الأحياء العربية في شمال القدس الشرقية وجنوبها، هو تنازل تاريخي مهم وذو دلالة. لكن لا يجوز للشعب اليهودي أن يقدم على هذا التنازل إذا لم يترافق مع إعلان فلسطيني واضح غير قابل للتأويل بأن دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهوديّ.
"إنّ قبول صيغة "دولتين لشعبين" تنطوي أيضًا على حلّ لقضية حق العودة أو مشكلة اللاجئين، إذ أنه ليس في وسع الفلسطينيين أن يتنازلوا عن هذا الحق في الظروف الراهنة".
من ناحيته رأى المعلق السياسي عاموس غلبواع، في مقالة ظهرت أمس الاثنين (12/11) أيضًا في صحيفة "معاريف"، أنّ إيهود أولمرت هو رئيس الحكومة الإسرائيلية الأول الذي يطرح علنًا، بصورة حادة وواضحة للغاية، مطلب الاعتراف بإسرائيل دولة للشعب اليهوديّ، في حين جرت العادة على أن يتمّ الاكتفاء بمقولة "دولتين لشعبين" دون تحديد أن الحديث يدور على الشعب اليهوديّ.
وأضاف: "إن التطرّق إلى الدولة اليهودية في البيانات والقرارات الدولية الملزمة هو أمر نادر. منذ القرار رقم 242، الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي في تشرين الثاني 1967، والذي يشكل إلى الآن القاعدة الدولية الرئيسة لأي تسوية إسرائيلية- عربية، فإن جميع الصياغات تتكلم عن "الاعتراف بوجود دولة إسرائيل" أو "الاعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود" دون الإشارة إلى أن الحديث يدور على دولة يهودية أو على دولة الشعب اليهودي.
"هذا الأمر ينطبق على اتفاقيتي السلام بيننا وبين مصر والأردن، وعلى اتفاقات أوسلو المختلفة (وأيضًا على خريطة الطريق). وقد كان الرئيس جورج بوش هو المسؤول الأميركي الأرفع مستوى الأول الذي أقرّ، بصورة واضحة وعلنية، خلال قمة العقبة عام 2003، أن "من شأن قيام دولة فلسطينية ديمقراطية تعيش في سلام كامل مع إسرائيل أن يدفع قدمًا أمن وازدهار دولة إسرائيل باعتبارها دولة يهودية".
"هناك بضعة أسباب تقف خلف عدم استعداد الدول العربية والفلسطينيين (ومعهم بضعة يهود إسرائيليين) للاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية للشعب اليهودي. من هذه الأسباب أن اعترافًا كهذا يعني عمليًا التنازل عن حق اللاجئين في العودة إلى إسرائيل. وهناك سبب آخر هو عرب إسرائيل أو "الفلسطينيون العرب مواطنو دولة إسرائيل"، كما يعرفون أنفسهم، إذ أن قياداتهم تعلن على رؤوس الأشهاد أنها لا تعترف بدولة إسرائيل كدولة يهودية، وبحسب رأيها فإن إسرائيل هي دولة ثنائية القومية، على أكثر تعديل".
لعلّ خلاصة ما يجمع عليه هؤلاء، وغيرهم مما يضيق المجال عن اقتباسهم، هي أن دافع الإصرار الإسرائيلي على انتزاع اعتراف بالدولة اليهودية خلال مؤتمر أنابوليس، الذي يبدو في الظاهر أنّه إصرار جديد، تقف من ورائه نية خفية لإسقاط حقّ العودة.
المصطلحات المستخدمة:
الموساد, حق العودة, يديعوت أحرونوت, هآرتس, باراك, رئيس الحكومة