المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

منذ بدء مشوارها في مختلف اصقاع الدنيا انحازت الصحافة إلى جانب المستضعفين والمظلومين وكانت صوتا للذين لا صوت لهم، غير ان الصحافة الاسرائيلية تتنكر لمهامها حينما يتعلق الأمر بالمواطنين العرب بل تشكل في احيان كثيرة سوطا لجلدهم تساوقا مع رغبات الاغلبية اليهودية المهيمنة وتغريدا محافظا مع السرب الصهيوني.

ربما يجهل ويتجاهل عدد كبير من الاسرائيليين حقائق وتفاصيل الرواية الفلسطينية التاريخية المتعلقة بكون العرب الفلسطينيين في الدولة اقلية قومية اصلانية سلخت بقسوة عن سائر الشعب الفلسطيني. وربما يجهل او يتجاهل اولئك ان ثمة "تسونامي" مريعًا دهم من كانوا اغلبية في وطنهم وشتت شملهم، ذاك لم يكن من نتاج غضب الطبيعة انما كانت هذه النكبة وموجات التهجير طيلة عام 1948. ربما يجهل او يتجاهل اولئك ان حكما عسكريا قاسيا فرض على من تبقى من الفلسطينيين في ارضه مورست عليهم خلاله ابشع مشاريع الاسرلة الثقافية والاضطهاد حيث كان لقاء الشقيق بشقيقه في دولة اجنبية يعرضه للتهلكة بجريرة "دعم الارهاب". قباطنة الاعلام الاسرائيلي مطلعون على كل شيء، يعرفون ويحرفون. بدلا من محاولة تفهم الحالة غير الطبيعية التي يعيشها العرب في اسرائيل اليوم ومراعاة جرحهم غير المندمل ومعضلتهم الشديدة في ظل استعارة نار المواجهة بين ابناء شعبهم من جهة وبين الدولة التي يعيشون فيها من جهة اخرى لعبت وسائل الاعلام الرسمية- الجماهيرية والمطبوعة على حد سواء دورا سلبيا جدا في التنكر لوجودهم ولروايتهم ولظروفهم . منذ عقود وهي تشارك في اضطهاد كل محاولة من طرفهم للتعبير عن حقيقتهم خارج نطاق البوتقة التي رسمتها المؤسسة الحاكمة لهم. من هذه الناحية اكمل الاعلام دور الدوائر السلطوية- الامنية والمدنية وتناغم مع توجهات اغلبية الاسرائيليين من اجل تطويع من بقي من العرب على ارضهم، التحكم بهم وتهميشهم باستعلائية بدلا من ان يشكل رأس الحربة في اشاعة التعددية والمساهمة في دمجهم بالمجتمع الاسرائيلي كاقلية قومية او على الاقل محاولة اعادة الحسابات وتقييم التعامل معهم عقب تفجر الازمات كما حصل بعد الانكسار في اكتوبر 2000 من باب الوساطة بينهم وبين الدولة لان استمرار اغترابهم من شأنه ان يقتل فكرة العيش المشترك والحاق ضرر فادح بمصالح الطرفين فاستقراء ما يخبئه مستقبل العلاقات بين الشعبين في الدولة من مخاطر ليس ضربا من التنجيم بل يمكن رؤيته اليوم مكتوبا على الجدار. هذه مسيرة بدأت منذ ان اقيمت الدولة ولم تنته بعد فالمواطنون العرب لا زالوا يعاملون كأغراب او ضيوف غير مرغوب بهم وهم في بيوتهم من قبل الدولة التي حلت ضيفة عليهم وان كان مع سابق انذار، ومع ارتفاع ألسن لهب الصراع خاصة في انتفاضة الاقصى باتت عملية توصيفهم بـ"الطابور الخامس" او "القنبلة الديمغرافية" تحتل مكانة بارزة في القاموس الاعلامي بدون خجل او مواربة.

وللتدليل على قلة وسلبية المضامين الصحفية المتعلقة بالمواطنين العرب نشير الى انه لا تجري تغطية صحفية واحدة للعمليات الانتحارية في المدن الاسرائيلية الا وتطرح فيها التساؤلات حول "تعاون" المواطنين العرب مع منفذيها بالتلميح تارة وبالتصريح تارة أخرى تاركين المتلقي مع شحنة متراكمة من الحقد والتحامل عليهم في اذهانه. "عائلة الموت وعائلة الاجرام"، عناوين صاعقة بالبنط العريض وبالأحمر خرجت بها "يديعوت أحرونوت" عقب تفجير الحافلة في مفرق ميرون في آب 2002 لتدمغ عائلة بكري التي تعد الافا وتشكل نصف قرية البعنة بتهمة "مساعدة الارهاب". وحينما اصدرت محكمة الناصرة قرارها بتبرئة ياسرة بكري الاسبوع المنصرم ارتأت الصحيفة ذاتها ان تعنون نبأها بهذا الخصوص بالقول "براءة مختلف عليها" بدلا من اغتنام الفرصة لتصحيح خطأ وموازنته. وهذا ما يدفع للشك بأن الموقف المهني المنصف لـ"يديعوت احرونوت" في قضية الصفقة مع الشيخ رائد صلاح وزملائه والتراجع عن اخطر التهم الموجهة اليهم تنم لا عن الرغبة في اصلاح خطأ بقدر ما هو تعبير عن احتجاج على نتيجته فالجبل ولد جبلا.. والحركة الاسلامية ستخرج على ما يبدو اكثر صلابة وقوة بعد هذه القضية بعكس ما بيت له في الشاباك. وقصة ياسرة بكري مع "يديعوت احرونوت" تعكس قصتنا جميعا مع وسائل الاعلام الاسرائيلية برمتها، عدا "هآرتس" ربما.

ورغم توالي السنين وحرص المواطنين العرب على الولاء المفرط أحيانًا للدولة لا يزال الاعلام الاسرائيلي اسير العقلية الامنية التقليدية فيرى اسرائيل دولة ديموقراطية لليهود فقط ويهودية فقط للعرب. ولذلك فإن هموم المواطنين العرب وقضاياهم الهامة من ازمات في التعليم والمسكن والعمل ومكانة المرأة وبدو النقب غائبة عن أعين وآذان المتلقي الإسرائيلي ما يفسر جهل الكثيرين منهم بواقع حياتنا.

بدلا من التعامل مع المواطنين العرب كشريحة مستضعفة محرومة من المساواة مضغوطة في أضيق هوامش المجتمع في اسرائيل ما زالت وسائط الاعلام العبرية ماضية في صناعة الافكار المقولبة عنهم والتهويل منهم وتعميق تهميشهم بل ومنح الشرعية للتمييز ضدهم .

وخلال مدة طويلة اخطأ المواطنون العرب في اغفالهم معالجة التعامل السيء لوسائل الاعلام الاسرائيلية لكن مبادراتهم المتصاعدة (المنقوصة وغير المهنية حتى الآن) في السنوات الاخيرة للتأثير عليها من خلال مركز "اعلام" واللقاءات والايام الدراسية والمكاتبات وتكثيف محاولات تشغيل مراسلين عرب بدت كمن ينقل ماء البحر بقنينة نتيجة عدم رغبتها في تغييرذاتها البنيوية. نعم من هذه الناحية لسان حال الاعلام في اسرائيل لا زال يلهج "البحر هو البحر والعرب هم العرب..".

واليوم بوسع المرء أن يحصي عدد العاملين العرب في القنوات التلفزيونية الثلاث وفي الاذاعات الرسمية الثلاث وفي الصحف اليومية الثلاث في غضون اقل من عشرين ثانية لانهم لا يتعدون عدد اصابع اليدين نتيجة سياسة الاقصاء غير المعلنة. وهذا الاسبوع فقط تم "تطهير" معاريف من "الجوي" الأخير بعد فصل الصحفيين جلال بنا ومروان عثاملة بدعوى "التقليصات". اما بشأن " يديعوت احرونوت" فنحن بحاجة الى ذاكرة فولاذية لتذكر آخر مقال نشرته لكاتب عربي في العقد الاخير.. ولا شك ان اقفال زوايا الرأي والمقالات يفاقم وطأة الاقصاء والتهميش لان ذلك يحرم العرب من استخدام الوسيلة شبه الوحيدة لنشر آرائهم بدون وساطة المحرر. اما الصحافة الالكترونية فهي لا تتعامل مع العرب الا من خلال نزر قليل من "المستعربين".

اما الخبراء العرب، وهناك الكثير، فيدعون للمشاركة فيما ندر فقط وعند مقابلة المسؤولين الرسميين في اطار تناول قضية تمييز او تقصير ضد المواطن العربي فإن الاسئلة الحقيقية التي تضع الاصبع على الوجع تغيب او تستبدل بأخرى ملطفة من نوع "لايت". وليس من قبيل الصدفة ان اغفلنا وجود "صوت اسرائيل" بالعربية او البرامج العربية بالتلفزيون الرسمي فهي لا تتعدى كونها أبواقًا دعائية للمؤسسة الحاكمة بما يتناقض مع الوظيفة التي من المفروض ان تؤديها الصحافة في النظام الديموقراطي من حيث مراقبة السلطة وكبح جماحها.

ومن أجل ضمان عدم التغيير لا يزال الجسمان الجماهيريان المراقبان للاذاعة والبث (سلطة البث ومجلس سلطة البث الثانية) يكادان يخلوان من العرب. كما ان البرامج التي تعنى بنقد الصحافة مثل "دوكيميديا" او "جيلوي ناؤوت" لم تتناول مسألة نسبة العاملين من العرب في وسائل الاعلام الاسرائيلية او مضامينها الخاصة بهم.

في ضوء ما ذكر تصبح اللقاءات بين الاعلاميين الاسرائيليين وبين مسؤولين واعلاميين عرب خطوة مفيدة ورغم الحاجة غير السهلة في تغيير منهجية وبنيوية المؤسسة الاعلامية الاسرائيلية تمهيدا لتغيير تعاملها مع المواطنين العرب فإن من واجبهم ايضا المبادرة ومحاولة التأثير كما حصل في قبرص التي استضافت صحفيين من الجانبين هذا مؤخرًا.

المصطلحات المستخدمة:

دورا, يديعوت أحرونوت, هآرتس, صوت اسرائيل

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات