يقع معظم ما قيل عن ظاهرة تفشي الانتسابات لحزب "العمل" وسائر الأحزاب الصهيونية في الشارع العربي في إطار تسليط الضوء عليها نحو فضح بشاعتها ومهاجمة المتورطين فيها وتبيان قبح صورتنا العامة كمجموعة أمام أنفسنا والآخرين. ومثل هذا الرد السريع سليم ولا يخلو من الفائدة غير انه غير كاف فالعلاج المجدي أمده طويل ويستدعي التشخيص الجاد والبحث عن الأسباب بدءا من سندروم التماهي مع القاهر مرورا بالأطماع- الأوهام المادية وانتهاء بالجهل وهشاشة الهوية الوطنية.
لا بأس من التذكير دوما بالأرشيفات السوداء لحزب "العمل" وفظائع أقطابه بحق الشعب الفلسطيني خاصة التي اقترفها زعيمه، ذئب "قانا" اللبنانية المتسربل بصوف الحمل وأبو المستوطنات في النقب والجليل والضفة وغزة، شمعون بيريس. لكن الوسيلة الأجدى تبقى في تثبيت الناشئة العربية على هويتها الفلسطينية وبناء مناعتها الوطنية لا بالوعظ والشعار بل بالتربية والتعبئة وممارسة التواصل مع الأشقاء العرب والفلسطينيين (وهذا موضوع بحد ذاته) في مختلف أماكن إقامتهم وترميم بعض الخراب الناجم عن سياسات وزارة التعليم في التجهيل القومي والأسرلة وقتل الروح. ويضيق المقام هنا لاستعراض الخراب الشائع في المدارس فوق الابتدائية العربية من هذه الناحية فنكتفي بالإشارة إلى خطة "المائة مصطلح" لتعليم الصهيونية وقيمها التي فرضتها الوزارة على مدارس المرحلة الإعدادية دون أن تقابل باحتجاج جدي من لجان الآباء والفعاليات السياسية فيما جاء رد لجنة متابعة التعليم العربي متلعثما وبطيئا. ولا غرو إذًا أن يجد المواطنون العرب أنفسهم بعد حين أمام جيل اقل مناعة أخلاقية وأكثر استعدادا للانجراف نحو المعسكر الصهيوني إلى حد التماهي معه بيسر وسرعة كبيرتين. وقتذاك لن ينفع العويل واللطم والتململ، وعملية التصدي للظاهرة بالوعظ أو الهجوم ستكون كمن ينطلق لقتل الذباب بدلا من تجفيف المستنقع. وهذا ما يدركه الناشطون والسياسيون ولذا فان استنكافهم عن المثابرة في رعاية مشاريع حقيقية بهذا الصدد والاكتفاء بردود صحفية ذودا عن حياضهم الانتخابية المشروعة (عشية كل انتخابات للكنيست) لا يسقط بعيدا عن دائرة "رفع العتب" أو الرد الانفعالي الضيق والعابر.
وطالما لم يتمكن المواطنون العرب ككيان جماعي من طرح البديل لمضامين الأسرلة والصهينة المعتمدة في جهاز التعليم الرسمي المستخدم كجهاز تطويع وسيطرة فإن مسؤولية الأحزاب والجمعيات والحركات الأهلية تستدعي التدخل في الزمان والمكان المناسبين لتقليل حجم الأضرار على الأقل. وهذا يعني قيام النواطير والقادة باختزال المسافة بينهم وبين عامة الناس ورعاية برامج تثقيفية واسعة تساهم ببناء الشخصية الثقافية والسياسية المرجوة عبر بناء الذاكرة الوطنية بالتربية والتثقيف وزيارة القرى والمدن المهجرة واستلهام الماضي والتراث (المادي والروحي) بكافة مركباته وتوفير الحلقة المبتورة منذ عام 48 بين حاضرنا وبين ماضينا وعدم الاكتفاء بالنشاطات السياسية الجارية رغم أهميتها. في الأسبوع قبل الماضي أحسنت مؤسسة توفيق زياد للثقافة والإبداع صنعا في إحياء الذكرى الخامسة والسبعين لشهداء هبة البراق في مسيرة إلى أضرحتهم في مقبرة النبي صالح في عكا .
وحري بالمؤسسات الثقافية الأخرى أن تكون رائدة في إحياء المناسبات الوطنية والدينية ذات الصبغة التاريخية وهي كثيرة كهبة البراق والذكرى السنوية الوشيكة للثورة الكبرى (ثورة 1936) أو الذكرى الثلاثين ليوم الأرض في آذار العام المقبل أو هبة أبو كشك المعروفة بـ"أحداث يافا" . هذا إضافة إلى التواصل مع أعلام الثقافة والسياسة ممن ضحوا بالنفيس في سبيل الأهداف الوطنية أمثال عز الدين القسام وزملائه عبد الرحيم محمد ويوسف أبو درة وفرحان السعدي وموسى كاظم الحسيني وعبد القادر الحسيني والقائمة طويلة ومعهم أعلام من فترة ما بعد النكبة. ولا شك أن العودة لمقلع التاريخ الفلسطيني واستخراج اللبنات المطلوبة لبناء الذاكرة الجمعية هو مصل استراتيجي يقوي المناعة الوطنية للأجيال التي تكاد لا تجد ما تفعله في العطلة الصيفية فهل نأخذهم إلى هناك أم نتركهم تائهين متسكعين في الكانيونات والشطآن فقط؟ أقول هذا وتحضرني مقولة جدتي رحمها الله: "اللي ما الو ماضي ما الو مستقبل".
وفي هذا المضمار تلعب وسائل الإعلام العربية دورا هاما في خدمة الهدف إياه غير أن معظم هذه تفعل عكس ما تقول ونحن نراها هذه الأيام تمنح ساسة "العمل" صفحاتها لترويج بضاعتهم الفاسدة بدلا من أداء واجبها المهني في إبداء مخاطر الظاهرة وفضح الكذبة الكبرى فيها.