مكانة اللغة العربية في إسرائيل لا تزال حسّاسة لما تتعرّض له من تغييب في الحيّز العام، بما تحمله اللغة، ككل لغة، من أبعاد وأعماق تتجاوزها إلى التمثيلات الثقافية والتاريخية، والسياسية أيضًا.
لن أخوض هنا في جديّة ملفات القانون والتشريع الإسرائيليين ولا في وزن البنود القليلة التي تعاطت مع هذه القضية، مع ذلك فيمكن القول إنه رغم التصريح الفضفاض والعام بكون العربية "لغة رسمية" فإن الأمر لا يحظى بأي تشريع صريح أو حماية قانونية واضحة. فمثلا، حتى يتم كتابة أسماء الشوارع على اللافتات في المدن المختلطة باللغة العربية، استدعى هذا المطلب البديهي المطالبين بذلك التوجّه بشكوى إلى المحكمة العليا. الأمر كان بعيدًا عن أن يكون مفهومًا ضمنًا لسلطة تنفيذية يتحكم في وجهتها مفهوم السيطرة على الآخر وليس مشاركته العيش بتكافؤ واحترام متبادل.
هنا سأتطرّق إلى ما نشهده مؤخرًا من استعمال للمفردات العربية في الإعلام الإسرائيلي. وهو استعمال يأتي لخدمة عدد من الأهداف، ولكنها لا تشمل بأي حال تقريبًا هدف تأكيد احترام لغة ما يقارب المليون مواطن في إسرائيل (قبل أن نتكلم عن عشرات ملايين العرب الآخرين). بل إنها أهداف غالبًا ما تأتي لخدمة من يستعملها "بالمفرّق"، مفردة هنا وأخرى هناك.
قبل تقديم عدد من الأمثلة لا يمكنني الامتناع عن القول إن المجال البارز في استيعاب العربية إلى العبرية هو مجال الشتائم! فالعبرية التي أحياها "طلائعيو" المشروع الصهيوني التقطت بمرور السنين معظم الشتائم العنصرية الذكورية التي تصيب النساء من مصدرها العربي! على ماذا يدلّ هذا؟ على الكثير طبعًا، لكن الأمر يستحقّ بحثًا سوسيولوجيًا جديًا، وأقترح أن يقوم به من يملك الأدوات التحليلية المطلوبة.
حين انعقدت "لجنة أور" التي أقامتها حكومة ايهود باراك السابقة للتحقيق في قيام شرطة إسرائيل بقتل 13 شابًا من مواطني إسرائيل العرب في بلداتهم وحواريهم وقرب بيوتهم، في تشرين الأول 2000، استمعت إلى شهادة من كان ضابط شرطة الشمال ويدعى أليك رون. رون هذا أتى مجهزًا ليس فقط بأنصاف الحقائق التي انتقدته عليها اللجنة ضمنيًا لاحقًا، بل بذخيرة من المفردات التي تصوّر ما جرى وكأنه إخماد بوليسي لتمرّد وليس (كما هو) قمع بوليسي دموي فاشي لمظاهرات واحتجاجات شعبية. ومن المفردات التي تسلّح بها رون كانت كلمة: "مهرجانيم"، وهي صيغة الجمع بالعبرية لكلمة "مهرجان". وقد ساقها الضابط في سياق ما تقوم به الحركة الإسلامية في إسرائيل من "مهرجانيم" وصوّرها كنشاطات مثيرة للهلع خارجة من ظلمة التاريخ السحيق ملؤها التحريض والانفلات الغريزي "ضد الدولة". وهكذا فإن الضابط أخذ نفس المصطلح الذي يعني بالعبرية ما يعنيه بالعربية وغيرهما من لغات وغالبًا ما يُستعمل لوصف نشاطات موسيقية وسينمائية وفنية عامة، ليشوّهه بمجرّد استعمال مفردته العربية بشكل لئيم تضليلي في نصّه العدائي تجاه العرب. وبدلا من أن يؤدّي "التبادل الثقافي" إلى توسيع المدارك وفهم الآخر، فإنه حين يجري على اللسان البوليسي يعزّز الفكرة المسبقة التي تـُشيطِن العربي بالمطلق.. فجأة صار المهرجان بلفظه العربي أداة للتخويف والترهيب والتحريض وتبرير قتل المتظاهرين العُزّل. ويمكن القول إن هذا الضابط جاء مستعدًا وهو يعي وقع "إطلاق مفردة عربية" في سياق الدماء على الآذان العبرية التي لا تعرف من العربية غير الشتائم، كما ذُكر.
مؤخرًا نشهد ازدهارًا جديدًا في استعمال العربية المكسّرة. والسياق هنا يختلف، لأول وهلة، فهو يأتي للبرهان على شدّة معرفة وخبرة الصحفي الذي يقولها. وهو في الحقيقة مدفوع بما يُشبه "زُغر العقل"! فمثلا، يأتيك معلقٌ كي يتحدّث عن التهدئة في السياق السياسي الإسرائيلي الفلسطيني. يسند ظهره، يشبّر بكل أيديه وأصابعه ويقول كل شيء بالعبرية عن التهدئة، وفجأة تتّسع حدقتاه وينوّر وجهه الصبوح ليرجمك بـ "تاديئا"! يا للخبرة ويا للإقناع ويا للسُّخف أيضًا. ماذا استفدنا من هذه "الإضافة الرائعة"؟ (وهذه تفوق الـ "رقّاصة وبترقص" – التي قالها عادل إمام في "شاهد ما شفش حاجة"!).
أو لنأخذ الصحافة المكتوبة: مثلا، تحدّث معلق للشؤون العسكرية في إحدى الصحف أخيرًا (من قلب إحدى الحناجر العسكرية الإسرائيلية كالعادة) عما يسمّيه بـ "الفوضى" في الأراضي الفلسطينية بسبب "ضعف أبو مازن". الكاتب سرح ومرح وشرح متحدثًا عن الوضع في السلطة الفلسطينية وفجأة فتح قوسين مفسّرًا لمن لم يفهم من قرّائه: "فاودا"! وكأنه بمجرّد إيراد اللفظة العربية للبدعة العسكرية فإنها تتحوّل إلى حقيقة. وهذا هو الهدف المخفي لهذا الفن الجديد: فحين تقع كلمة "بلغتهم" (العرب) على أسماع رأي عام إسرائيلي يجري حقنه يوميًا بكل ما من شأنه إبعاد شبح التكافؤ بين العربي واليهودي، ستكون تلك الكلمة الغريبة، بما تثيره من تداعيات سلبية، بمثابة القول الفصل على صدقيّة القائل والحنجرة التي تقف من خلفه. وطبعًا لا ننسى الـ "هودنا" (الهدنة) و "واكف اتلاك أنّار" (وقف إطلاق النار) والفرق الدقيق جدًا والذي يجب الانتباه إليه بينهما، و "شهيديم" (شهداء) ويعنون بها الانتحاريين، والقائمة تطول.
حين أتخيّل من أين جاء هؤلاء المعلقون الجهابذة بهذه المفردات أتخيّل عدة مصادر، لكني أظل أتصوّر حالة نموذجية: مؤتمر صحفي مغلق للمراسلين والمعلقين العسكريين مع أحد عناصر المخابرات الذي يشرح لفرسان الإعلام الإسرائيلي الرسمي عن الوضع. وحتى يقنعهم، فهو يردّد لهم المفردات المتناثرة بالعربية على لسان "العدو". وللأسف، فمعظم هؤلاء الإعلاميين لا يتمالكون أنفسهم فيهرولون معلّقين ومحلّلين وهم "يـُتلِكون" علينا ذخيرتهم دون أية "هودنا" وبقمة الـ "فاودا"!