بعض الوقائع الأخيرة في إسرائيل، المرتبطة تحديدًا بـ"السجال" حول خطة أريئيل شارون بشأن الفصل أو "فك الارتباط"، تثير انطباعًا قويًا بأن منحى كتابة "الرواية التاريخية" للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني من وجهة نظر صهيونية محضة لصق الإلحاح على مطالبة الفلسطينيين بقبولها على علاتها وتصحيفاتها، بات أشبه بـ"الرياضة الوطنية".
ومهما تكن المحاولات "المثمرة" لهذا المنحى، المرشّح على ما يبدو لأن يتعزّز أكثر فأكثر مع قرب وضع الخطة إياها موضع التنفيذ، حسب ما يتراءى إلى الآن، فقد ارتأينا أن نشير إلى اثنتين منها:
(*) الأولى- المحاولة القانونية لقاضي المحكمة العليا إدموند ليفي، التي تضمنها رأيه في موقع الأقلية على هامش القرار الذي اتخذه قضاة المحكمة العليا (قبل نحو ثلاثة أسابيع) وقضوا فيه بأغلبية عشرة قضاة ضد قاض واحد، أن خطة الفصل هي دستورية.
ومع أن محرر ومعلق الشؤون القانونية في صحيفة "هآرتس"، يوفال يوعز، يشير (مقاله بتاريخ 21 حزيران 2005) إلى الانقسام في الرؤية التاريخية حتى من طرف القضاة الإسرائيليين أنفسهم، كما تبدى ذلك في رأي أغلبية قضاة تلك المحكمة ورأي الأقلية التي مثلها قاضٍ واحد في هذه الحالة (القاضي إدموند ليفي نفسه)، منوهًا بأن "الروايتين التاريخيتين" لقضاة الأغلبية وقاضي الأقلية الوحيد تسردان سيرورتين مختلفتين اختلافاً جوهرياً حول "تاريخ الصهيونية في أرض إسرائيل وإسقاطاته القانونية على الوضع الراهن"، فإن ما يهمنا هو موقف ليفي في هذا الشأن. وخصوصًا الشق الذي يستبعد فيه بشكل مطلق، ضمن أمور أخرى، أن يكون قرار (مشروع) التقسيم الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة في تشرين الثاني 1947 (الذي ينص في جوهره على تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية) قد انتقص من "الحق القانوني" للشعب اليهودي في "الاستيطان في كل أجزاء أرض إسرائيل" بما فيها بالطبع الضفة الغربية وقطاع غزة، معللاً رأيه هذا بذريعة "رفض الدول العربية الاعتراف بقرار التقسيم" ونشوب حرب العام 1948، واللذين "أسدلا الستار على اقتراح مشروع التقسيم"، حسب قوله.
(*) الثانية- محاولة الصحافي آري شافيط من "هآرتس"، التي وردت في كتاب جديد له بعنوان "تقسيم البلاد: إسرائيليون يفكرون بالفصل" (الصادر أخيرًا عن منشورات "كيتر" و"معهد القدس للدراسات الإسرائيلية" ويتضمن مقابلات مع 33 شخصية من صناع القرار والرأي العام في إسرائيل من مختلف ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي، منهم: شلومو افنيري، وعامي أيالون، وعوزي ديان، وموشيه أرنس، ويوسي بيلين، وشلومو بن عامي، وايهود باراك، وبنيامين نتنياهو ودوف فايسغلاس وغيرهم).
ففي مقالته التي جاءت في خاتمة الكتاب بعنوان "مشروع تقسيم البلاد" يرى شافيط أن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني هو "صراع بين شعب محتل وشعب مهدّد (بالخطر). وهذان الأساسان يجعلان هذا الصراع فريداً: (بين) الاحتلال والخطر".
ويضيف: "ليس هناك شعب في العالم يخضع بشكل متواصل للاحتلال مثل الشعب العربي الفلسطيني. كما ليس هناك شعب آخر في العالم يعيش خطراً وجودياً مثل الشعب اليهودي الإسرائيلي. ومع ذلك، من دون علاج متوازٍ، سواء للاحتلال أو للخطر، لن يتم العثور على حل للصراع القاسي بين إسرائيل والفلسطينيين".
ويصل شافيط إلى بيت القصيد حين يكتب بأثر رجعي: ليس الاحتلال هو الذي خلق الخطر، بل إن الخطر هو الذي خلق الاحتلال.
"تحوّلت إسرائيل إلى دولة محتلة لأنها تعرّضت في الرابع من حزيران 1967 لخطر وجودي مباشر. كما أن استمرار الاحتلال هو ثمرة إحساس إسرائيل بالخطر. صحيح أن هناك أقلية إسرائيلية تتمسك بأيديولوجية أرض إسرائيل الكاملة، ولكن الأغلبية ليست شريكة في هذه الأيديولوجية. فالأغلبية في إسرائيل تسلم بواقع الاحتلال لأنها تخشى من اليوم التالي. ولذلك يمكن تحديد أن السبب العميق لاستمرار الاحتلال هو الخطر. فقد جاء الاحتلال إلى العالم بسبب الخطر، ويتواصل الاحتلال جراء الخشية من أن إلغاء الاحتلال سيعيد إحياء الخطر"، على ما يكتب.
بعد ذلك يقترح شافيط "مشروعه" للتقسيم الذي من "لزومياته" أن يشمل سبعة مبادىء بنيوية، في صلبها تخلي الفلسطينيين عن حق العودة والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كدولة قومية يهودية ديمقراطية. وبحرفية ما كتبه فإنه "مهما كان الظلم التاريخي الذي لحق بالفلسطينيين، لا يمكن مواصلة الركوب عليه. ولا يمكن مواصلة الإدمان على البخار المسموم المتصاعد منه. يجب على الفلسطينيين أن ينسوا ويتعافوا. أن ينسوا ويبنوا. وليس العيش ووجوههم نحو الماضي وإنما نحو المستقبل".
لعلّ من الدّال جداً أنه ليس ثمة فارق كبير بين الكلام السالف وبين ما سبق أن أشار إليه ألوف بن (المعلق السياسي لصحيفة "هآرتس") حول قيام شارون، في المقابلات التي منحها في الآونة الأخيرة، بتوسيع حدود الصراع الإسرائيلي- العربي (في قراءة إسرائيل) من "نقاش حول أراضٍ، سكان وترتيبات أمنية"، إلى "خلاف أيديولوجي". ومع أن شارون، برأي بن، محقّ في ادعائه أن العرب لا يعترفون بـ"حق الشعب اليهودي في إقامة دولة في أرض موطنه"، بيدَ أن استنتاجه أن السلام لن يكون ممكناً إلا بعد أن يُربي العرب أولادهم بروح الصهيونية يقود إلى تخليد المواجهة.
وأضاف: الآن يشعر شارون بالندم لأنه ركّز طوال السنين الماضية على قضايا الأمن أكثر مما ركّز على مسألة "الحق". فقد علّمه والده التمييز بين الحقوق "على الأرض"، والتي هي حقوق يهودية برمتها، وبين الحقوق "في الأرض" التي يملكها سكان آخرون. وبحسب أسلوب شارون هكذا يجب تربية المعلمين العرب أيضاً، ومن ورائهم تلاميذهم، إلى أن يُنشد كل طفل في صنعاء وكازابلانكا، في الإسكندرية وحلب: "أرض إسرائيل لشعب إسرائيل". حينها فقط يصبح السلام ممكناً!
في ظاهرها تبدو مثل هذه المحاولات أشبه باجتهادات تمدّ خطًا موازيًا بين روايتين تاريخيتين قوميتين، فلسطينية وإسرائيلية. لكنها في العمق لا تنطوي فقط على استبعاد الرواية التاريخية الفلسطينية وإنما أيضًا على نزعة إخضاع هذه للرواية التاريخية الإسرائيلية.
وبالتالي فهي محاولات فيها ارتداد حتى عن اجتهادات إسرائيلية أخرى سبقتها لا يمكن اتهامها بأنها "ما بعد صهيونية"، مثل التقرير الصادر عن "معهد القدس للدراسات الإسرائيلية"، الذي تعرضنا له قبل فترة قصيرة.
لقد حاول هذا التقرير، من بين أشياء أخرى، أن يجيب على السؤال المفتوح: لماذا باءت مفاوضات كامب ديفيد حول التسوية الدائمة (في 2000) بالفشل الذريع؟. وفي سبيل ذلك استعرض ما صدر عن طرفي المفاوضات من ادعاءات، لكنه رجّح، في ما يشبه الاستحصال، بأن تكون الأزمة، التي انتهت إليها المفاوضات وما تمخض عنها من انفجار عنيف، تشكّل "تعبيرًا ذا قوة عالية جدًا" عما يسميه "التصادم (الحتمي؟) بين الروايتين التاريخيتين القوميتين".
وكتب معدو التقرير في هذا الشأن ما يلي: بنظرة ثانية يبدو الآن أن طلب إسرائيل الملحاح بـ"نهائية النزاع"، ضمن الشروط التي وضعتها، تمَّ تفسيره لدى الفلسطينيين باعتباره محاولة لإخضاع الرواية التاريخية الفلسطينية أمام الرواية التاريخية الإسرائيلية. "خنوع" كهذا، من ناحية الفلسطينيين، لم يكن خيارًا سياسيًا ممكنًا. زد على ذلك أن هذا الطلب الإسرائيلي نأى بالطرفين عن النقاش حول نتائج حرب 1967 إلى نقاش حول نتائج حرب 1948 - 1949.
وتابع: يقول الفلسطينيون إنهم لا يستطيعون البتة الموافقة على كون أحداث حرب 1948- 1949 عادلة. مع ذلك فان التيار المركزي مستعد على ما يبدو، في نوع من الاضطرار، للتسليم بنتائج الحرب والتوصل إلى اتفاق حول تسوية لا تكون "عادلة"، من هنا فهي لا تكون نهائية ومطلقة. هذا التيار وقيادته يقومون بتمييز عملي بين "تسوية عادلة"، تشمل تطبيقًا جارفًا وكاملاً لحق العودة، لكنها تسوية غير عملية، وبين تسوية ممكنة، تعالج نتائج حرب 1967 وتنطوي في أكثر تقدير على إقرار بالإثم التاريخي، لكن ليس على تطبيق حق العودة على أرض الواقع. غير أن الطرف الإسرائيلي بطلبه من الفلسطينيين الإعلان عن نهائية النزاع طلب عمليًا منهم، دون أن ينتبه لذلك، الإقرار بأن حرب 1948- 1949 ونتائجها كانت عادلة، الأمر الذي لا يستطيع الفلسطينيون قبوله أبدًا.
شتّان ما بين هذا الكلام والمحاولتين المشار إليهما أعلاه، واللتين لا تعدوان كونهما أكثر من محاولة لاغتصاب روايتنا التاريخية، فيما يهيّأ لصاحبيهما أن الظروف الراهنة مواتية لذلك، وبالأخص في ظل الغبار المسموم المتصاعد من"خطة الفصل"، التي من غاياتها إظهار إسرائيل في لبوس "الساعي إلى التخلي عن الاحتلال".