يبدو أن الوقت لن يعمل لصالح الرئيس الفلسطيني الجديد، محمود عباس، لترتيب أوراقه وأولوياته، لا من جهة إسرائيل ولا من جهة المعارضة الفلسطينية (متمثلة بحركة حماس تحديدا)؛ فهذان الطرفان، على اختلاف مصالحهما ومقاصدهما، يعملان على فرض أجندتهما الخاصة على الساحة الفلسطينية، وطبيعي أنهما سيحولان دون تمكين الرئيس المنتخب من تطبيق رؤيته في تهدئة الأوضاع وترميم البيت الفلسطيني ومعالجة التحديات الخارجية.
ما الذي تريده إسرائيل من محمود عباس؟
منذ اليوم الأول لتسلمه مهام منصبه رسميا (15/1) وجد الرئيس المنتخب أمامه مجموعة من القرارات الإسرائيلية، التي من ضمنها: قطع الاتصالات مع السلطة الوطنية، وإطلاق يد الجيش الإسرائيلي للقيام بعمليات ضد الفلسطينيين من دون قيود، واستئناف حرب التدمير والتقتيل الموجهة ضد مدن وقطاع غزة؛ والتي تشمل تشديد الخناق على أهالي القطاع عبر إغلاق المعابر مع مصر وإسرائيل، واستئناف الاغتيالات والاجتياحات فيه. ووصل الأمر حد طلب الحكومة الإسرائيلية من الإدارة الأميركية مقاطعة أبو مازن، وتحميل السلطة مسؤولية عمليات المقاومة.
في كل هذه الإجراءات الدراماتيكية لم تسأل إسرائيل نفسها عن مدى المسؤولية الحقيقية التي يتحملها محمود عباس جراء عمليات المقاومة التي تواجهها إسرائيل، في قطاع غزة، وهي تعرف موقفه المعلن من هذه العمليات! والمفارقة أن إسرائيل تطالب السلطة الفلسطينية المقيدة والمفككة، بفعل الضربات الإسرائيلية، بما عجزت عنه هي ذاتها، برغم جبروتها العسكري والاستخباراتي!
عمليا فإن هذه السياسة الإسرائيلية إزاء الرئيس الفلسطيني الجديد ليست مستغربة، بل إنها متوقعة تماما. وتتوخّى إسرائيل من شنّ هذه الحملة السياسة المبكرة ضد أبو مازن تحقيق عدة أغراض، فهي تريد، أولا، التنصّل سلفا من أية ضغوطات دولية عليها بشأن استئناف عملية التسوية مع الفلسطينيين، خصوصا بعد أن جرى تسويق أبو مازن دوليا واقليميا باعتباره الشريك الملائم للتسوية معها؛ ثانيا، الضغط على أبو مازن لدفعه نحو اتخاذ إجراءات تقطع مع المعارضة الفلسطينية، التي تتمثل بالتيار الإسلامي تحديدا، والدفع به نحو قيادة نوع من الاحتراب الداخلي؛ ثالثا، توتير المجتمع الإسرائيلي لجعله أكثر التفافا من حوله، لتمرير خطته المتعلقة بالانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة، وبعض مستوطنات الضفة، وإضعاف معارضي هذه الخطة من التيار اليميني المتشدد.
هذه الاستهدافات تؤكد بأن مشكلة إسرائيل مع عملية التسوية لا تتعلق البتة بشخصية الرئيس الفلسطيني، بقدر ما تتعلق بنوايا إسرائيل الحقيقية، وبواقع أن هذه الدولة ليست مهيأة لتسوية عادلة ومتوازنة ونسبية.
الدليل على ذلك أن إسرائيل لم توفر "البضاعة" المناسبة لمحمود عباس حينما كان رئيسا لحكومة السلطة الفلسطينية في العام 2003، فهي قوضت كل اتفاقات الهدنة التي أعلنها الفلسطينيون من طرف واحد، واستمرت في أعمال الحصار والتقتيل والتدمير ضد الفلسطينيين، ولم تطرح خطة للانسحاب من غزة أو من أي شبر من الأراضي الفلسطينية، كنوع من المبادرة تجاهه. وحتى أنها برغم إفراجها عن مئات المعتقلين من سجونها، في نطاق صفقة تبادلية مع حزب الله، لم تفرج عن أي من المعتقلين الفلسطينيين لديها، لإعطاء زخم لحكومة محمود عباس الذي لم يجد مفرا من تقديم استقالته (سبتمبر 2003) بعد أن وجد نفسه أمام حائط مسدود إزاء التحديات والعوائق الداخلية والخارجية التي اعترضته آنذاك.
هكذا ففي سلوكها السابق والحالي إزاء محمود عباس تنكشف الأسطورة المفبركة التي ابتدعتها إسرائيل سابقا، والتي مفادها أن الرئيس الراحل ياسر عرفات كان عائقا أمام التسوية! والواقع فإن إسرائيل نفسها لم تكن تقطع مع الرئيس عرفات لولا أنه لم يتجاوب مع املاءاتها الشرهة، فهو الذي نقل شعبه من الإطار العاطفي والشعاراتي إلى الإطار الواقعي والسياسي، إي من مجال الصراع على الوجود (الإفناء المتبادل) إلى مجال الصراع على شكل الوجود (التسوية). وبالمحصلة فإن القطيعة مع ياسر عرفات تمت في تلك اللحظة التي شعرت فيها إسرائيل بأن الرجل لم يعد يستطيع التجاوب مع متطلباتها المتغطرسة، في التنازل عن التسوية القائمة على الشرعية الدولية (دولة في الضفة والقطاع)، ولاسيما في تلك اللحظة التي لم يتراجع فيها الرئيس الراحل عن شرعية المقاومة كوسيلة للضغط على المحتل، لرفع ثمن الاحتلال، وإجباره على التراجع عن سياسته المتغطرسة، سياسة الإملاء والاستيطان وفرض الاحتلال كأمر واقع.
اليوم تكرر إسرائيل سياستها إزاء الرئيس المنتخب محمود عباس، فتدعي أنه لا يفعل شيئا لوقف العنف ضدها، وتطالب المجتمع الدولي، ولاسيما الإدارة الأميركية، بمقاطعته والضغط عليه، للتجاوب مع الاملاءات الإسرائيلية التي تتمثل، في هذه المرحلة، بالتالي: أولا، تسويق خطة الحل الأحادي الإسرائيلي، التي يمكن أن يتمخّض عن دولة فلسطينية مؤقتة في قطاع غزة، مع حكم ذاتي موسع في الضفة الغربية؛ ثانيا، تجنّب البحث في قضايا الحل النهائي، واعتماد خطة تسوية مرحلية طويلة الأمد، ربما تمتد إلى عشرين عاما؛ ثالثا، تقويض البني التحتية لحركات المقاومة ووضع حد لعملياتها ضد إسرائيل، بحيث تقوم السلطة بما عجزت إسرائيل بجبروتها عن القيام به، طوال الأعوام الأربعة الماضية!
وفي كل الأحوال فإن إسرائيل تريد من هذه الحملة السياسية ضد السلطة الفلسطينية عدم تمكين الفلسطينيين من التقاط الأنفاس وإبقائهم في إطار الاستنزاف، والحؤول دون تمكينهم من ترميم كيانهم السياسي، ومفاقمة التناقضات في صفوفهم، والامعان في الاستفراد بهم، بدعوى الرد على الإرهاب الفلسطيني (بمصطلحاتها)، والترويج لنفسها باعتبارها ضحية للفلسطينيين، الذين تحتلهم وتستبيح أرضهم وممتلكاتهم وكراماتهم!
فوق ما تقدم فإن مشكلة محمود عباس، أو مشكلة الساحة الفلسطينية، لا تتعلق بما تريده إسرائيل فقط، وإنما هي تتعلق، أيضا، بالتجاذبات السياسية الفلسطينية، التي تتمثل خصوصا، بغياب الإدارة والإرادة الفلسطينية الموحدة، والافتقاد لاستراتيجية سياسية ونضالية مشتركة، بين القوى الفاعلة في هذه الساحة، وتحديدا في وجود نوع من التعارض السياسي بين برنامج السلطة وحركة فتح، من جهة، وبرنامج حركة حماس، من الجهة الثانية.
ما الذي تريده حماس في هذه المرحلة؟
برغم من كل الإشارات المتضمنة نوعا من البرغماتية السياسية في الخطاب "الحماسي"، من نوع الحديث عن هدنة ما، إلى الحديث عن قبول حل يتمثل بقيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، إلى الحديث عن الاعتراف بالسلطة الفلسطينية كقيادة للفلسطينيين في الداخل، إلا أن مواقف حركة حماس لم تصل بعد إلى نوع من الاعتراف الناجز ببرنامج الإجماع الوطني (دولة فلسطينية في الضفة والقطاع)، أو اعتبار القيادة الفلسطينية المتمثلة بالسلطة الوطنية، مفوضة للتفاوض مع إسرائيل، باسم الشعب الفلسطيني، على هكذا حل؛ كما لم تصل هذه الحركة إلى حد القبول بالعمل من داخل النظام الفلسطيني القائم حاليا، والمتمثل بمنظمة التحرير أو السلطة الوطنية.
وتنطلق حماس من اعتبار نفسها قيادة بديلة أو على الأقل تتمتع بتفويض شعبي لا يقل عن التفويض الممنوح للسلطة الوطنية (أو حركة فتح)، وهو ما يخلق نوعا من ازدواجية السلطة، أو ازدواجية القرار في الساحة الفلسطينية، الأمر الذي يفاقم التوتر في علاقات حركة حماس مع السلطة ومع حركة فتح، كما يخلق حالا من البلبلة في الشارع الفلسطيني، فضلا عن أنه يسهل على إسرائيل اللعب على الخلافات الداخلية الفلسطينية، وإظهار السلطة بمظهر فاقد الأهلية والصدقية، على الصعيدين الداخلي والخارجي.
واضح أن الوضع السائد يخدم أجندة إسرائيل أكثر مما يخدم الفلسطينيين؛ برغم بعض المكاسب الآنية والضيقة التي يمكن أن تحصدها حركة حماس. وإذا كان مفهوما سعي إسرائيل الدؤوب لإبقاء الساحة الفلسطينية في حال التوتر والاستنزاف والإرهاق، فإن الأطراف الفلسطينية ينبغي أن تكون معنية بالحؤول دون ذلك، ولو بثمن برامجها الخاصة، لأن اللحظة السياسية الدولية والإقليمية لم تعد ملائمة لذلك. هكذا يتطلب الأمر من حركة حماس إدراك مرامي سياسة شارون وعدم التسهيل له، في هذا الواقع الدولي والإقليمي غير المواتي لها وللفلسطينيين عموما. ويبقى أن السلطة الفلسطينية معنية بإيجاد الطرق الكفيلة بإقناع حماس بوحدانية القرار وبأهمية إعطاء فرصة للفلسطينيين لالتقاط الأنفاس.