لا تزال بعض النتائج العينية للانشغال بالسؤال حول سيناريوهات اليوم التالي لخطة الانفصال الشارونية عن قطاع غزة وأجزاء من شمال الضفة الغربية، في إسرائيل، من نصيب النخب الأكاديمية فقط، فالحكومة الإسرائيلية ليست في عجلة من أمرها على ما يبدو. ومن آخر هذه الانشغالات مقالة كتبها شلومو بروم، أحد كبار الباحثين في "مركز يافه للدراسات الإستراتيجية" في جامعة تل أبيب، وظهرت في النشرة الإستراتيجية الأخيرة الصادرة عن هذا المركز (عدد أيار 2005) تحت العنوان "خطة الانفصال- اليوم التالي" وتوقع فيها استمرار الأزمة بين الجانبين حتى في حالة كتابة النجاح للخطة في التطبيق العملي، نظرًا لتباعد المواقف بينهما بشأن المرحلة التالية والأهم من ذلك نظرًا لانعدام رؤيا إسرائيلية للتسوية.
في مستهل مقالته يؤكد بروم أنه على رغم وجود خطة الانفصال منذ انطلاقها في محور السجال العمومي في إسرائيل ورغم إثارتها للعديد من الأسئلة فإن جميعها تقريبًا لا يزال متسمّرًا أمام عملية التطبيق فحسب، في حين أن الأسئلة المتعلقة بهذا الجانب على أهميتها تتقزّم حيال سؤال مركزي لم يطرح حتى الآن، في الأقل على المستوى الرسمي، وهو: ماذا سيكون وضع إسرائيل غداة تطبيق الانفصال؟ هل ستسير في سكة تقربها من المصالحة مع الفلسطينيين ومن حلّ النزاع، أو تقربها على الأقل من تخفيف حدّة المواجهة تمهيدًا لإدارتها "على نار هادئة"؟.
وقبل أن يمضي الباحث في استشراف السيناريوهات المتوقعة ينوّه بأن الحديث عن ما بعد الانفصال لا بدّ أن ينطلق، ابتداء، من نقطة أن النجاح سيحالف تطبيقها، حيث أن الفشل في ذلك تترتب عليه، بصورة شبه يقينية، نتيجة واحدة محتملة هي استمرار المواجهة العنيفة في وجهة تصعيدية. مقابل ذلك، وخلافًا له، فإن نجاح تطبيق الخطة من شأنه "أن يخلق مستوى عاليًا من التوقعات (الإيجابية) لدى الجانبين". ويشير في هذا المضمار إلى أن هذا المستوى العالي من التوقعات سبق أن انعكس، ببريق يخطف الأبصار، في استطلاعات رأي أجريت في الجانبين "وتحديدًا منذ رحيل الرئيس ياسر عرفات". وبينما توقع الجانب الإسرائيلي، عبر تلك الاستطلاعات، أن يسفر "التنازل" عن قطاع غزة بأكمله عن تحوّل وقف الانتفاضة إلى ظاهرة ثابتة، مكينة، وعن تجدّد عملية سياسية يعوّل عليها أن تدفع إسرائيل قدمًا نحو تسوية النزاع مع الفلسطينيين، فإن الجانب الفلسطيني توقع في استطلاعاته تحسنًا ملحوظًا في أنماط حياته اليومية، ينعكس أساسًا في نزع القيود عن حرية الحركة والتنقل ووقف العنف وعودة القانون والنظام وانفراج الأوضاع الاقتصادية وتجدّد احتمالات إنجاز الطموحات القومية الرئيسية وفي طليعتها إقامة دولة فلسطينية على أساس حدود حزيران 1967.
يتناول الكاتب التطورات المتوقعة، في حالة نجاح الانفصال، في الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني وفي الساحة الدولية. ويخلص، عمومًا، إلى أنه من تحليل مختلف مواقف "اللاعبين المركزيين" ومن تحليل التطورات المحتملة فإن ما هو بائن الآن أن السيناريو الأكثر معقولية بعد الانفصال هو سيناريو استمرار الأزمة، حتى لا يقول تفاقمها، حيث سيطالب الفلسطينيون بتجديد المفاوضات حول الحل الدائم في حين سيطالب الجانب الإسرائيلي بالتطبيق الكامل للمرحلة الأولى من خطة "خريطة الطريق"، وهي "القضاء على البنى التحتية للإرهاب"، وهو مطلب لزج للغاية، ويرهن بذلك موافقته على الانتقال إلى المرحلة الثانية من "خريطة الطريق"، وهي إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود مؤقتة.
مقابل ذلك فإن الولايات المتحدة وأوروبا ستضغطان على الجانبين للشروع في مفاوضات على أساس "خريطة الطريق". وبينما ستنظر أوروبا بإيجاب إلى رغبة الفلسطينيين في القفز عن المرحلة الثانية، من شأن الولايات المتحدة أن تبدي تفهمًا لرغبة إسرائيل في الاستنقاع في "مرحلة انتقالية أخرى" حتى إشعار آخر.
على مستوى التطورات المتوقعة في الجانب الإسرائيلي، وهو ما سنتوسع فيه، يعتقد الكاتب بأن المجهول الأكبر في المعادلة، الآن، هو موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي، أريئيل شارون. "من الصعوبة بمكان، منذ الآن، تقدير ما هو موقف شارون ذاته"، يكتب بروم. ويضيف "إنما من الواضح أنه (شارون) ليس في القطب المؤيد لمفاوضات الحل الدائم" (التطورات الأخيرة أيضًا، وتحديدًا منذ زيارة الرئيس محمود عباس في واشنطن وصولاً إلى اجتماع الحكومة الإسرائيلية، الأحد 29/5/2005، تؤكد ذلك، عيانًا بيانًا). ولذا يمكن الافتراض، برأيه، بأن "شارون يقف (في الوسط) بين الساعين إلى جمود كامل بعد الانفصال وبين المستعدين لانفصال إضافي" عن الفلسطينيين. كما من الواضح الآن أن شارون يعد العدّة للحؤول دون أي تحرك إضافي بعد الانفصال، وذلك بتشديده المكرور على أن التقدم إلى الأمام في تطبيق "خريطة الطريق" لن يكون أوتوماتيكيًا وإنما هو منوط بالتطبيق الكامل من جانب الفلسطينيين لالتزاماتهم المتعلقة بالمرحلة الأولى، والتي تعني في قراءة الإسرائيليين "التفكيك التام لبنى الإرهاب التحتية". ومن نافل القول إن في مستطاع الجانب الإسرائيلي أن يدعي دائمًا ومتى يشاء أن الفلسطينيين لم يفوا بهذه الالتزامات، التي يستحيل الوفاء بها وفق الشروط الإسرائيلية التي هي أقرب إلى التعجيز.
وإذا ما صرفنا النظر عن موقف شارون، على رغم كونه مفتاحيًا في تلمس الإحالات المقبلة، فإن تركيبة الحكومة الإسرائيلية الحالية ستشكل في الأحوال جميعًا صعوبة كبيرة في وصولها هي ذاتها إلى وفاق حول خطة الاستمرار فيما بعد الانفصال. وبناء عليه فمن شأن انحلال الحكومة والذهاب إلى انتخابات جديدة بعد الانفصال أن يكونا مجرّد تحصيل حاصل.
ويشير بروم إلى أن هذه التركيبة من المحتم أن تفرز مواقف متناقضة تتعلق بمرحلة ما بعد الانفصال.
مهما تكن هذه المواقف فإن أهمها ثلاثة:
من جهة أولى هناك المعارضون للانفصال في أوساط "الليكود" الذين وافقوا عليه رغمًا عنهم وفي سبيل مماشاة "ظروف موضوعية" إقليمية ودولية. هؤلاء سيطالبون بالاكتفاء بما تم تطبيقه وإدامة المرحلة الانتقالية بغية استغلالها من أجل اختبار نوايا الفلسطينيين، من ناحية وتعزيز المستوطنات في المناطق (الفلسطينية) التي ستبقى في حوزة إسرائيل بعد الانفصال، من أخرى. ومن جهة ثانية هناك الغالبية الساحقة من ممثلي حزب "العمل"، الشريك الائتلافي الرئيسي، الذين سيطالبون بتجديد عملية سياسية كاملة مع الفلسطينيين على أساس "خريطة الطريق". وبرأي الكاتب فإن معظم هؤلاء يمكن أن يؤيدوا القفز عن المرحلة الثانية (الانتقالية) من "خريطة الطريق". ومن جهة ثالثة هناك فريق يعتقد أن خطة الانفصال الحالية ليست كافية، لأنها تتعلق فقط بقطاع غزة بينما ينبغي سحب الانفصال على الضفة الغربية أيضًا، ما يعني وجوب إخلاء مستوطنات أخرى واعتماد خط حدود يحسّن أوضاع إسرائيل الديمغرافية ويكون خط دفاع مريح ويحافظ على معظم المستوطنات. وربما تبرز في صفوف هذا الفريق خلافات بين من يدعو إلى مواصلة الانفصال بصورة أحادية الجانب، مثل إيهود أولمرت من "الليكود" وحاييم رامون من "العمل"، وبين من سيكون راغبًا في استعمال "خريطة الطريق" كأداة تتيح الوصول إلى الخط الحدودي السالف، عبر المرحلة الثانية التي تنص على قيام دولة فلسطينية في حدود مؤقتة.
الأزمة حتى بعد نجاح الانفصال هي شبه حتمية إذًا في رأي بروم. ويظهر أن أشدّ ما يقلق هذا الباحث هو مواصلة قباطنة الحكومة الإسرائيلية صرف النظر عما يسميه "الوسائل المتاحة" لاحتواء الأزمة المقبلة. وفي مقدمة تلك الوسائل اعتماد آلية (ميكانيزم) تسعف في تجاوز الأزمة تستند إلى "محادثات مع الفلسطينيين" بمقدار ما تستند إلى "منح دور هام للولايات المتحدة وأوروبا"، ففي نهاية المطاف تمثل آلية كهذه "مصلحة إسرائيلية" أيضًا.
طريق الوصول إلى آلية احتواء الأزمة توجب إتباع ما يلي:
أولاً- إجراء "حوار إستراتيجي" مع الجانب الفلسطيني. وهو ما لا تزال إسرائيل تمانع فيه بحجة أن حوارًا كهذا "يصاعد المعارضة لخطة الانفصال"، وهي حجة واهية بنظر الكاتب.
ثانيًا- اتخاذ خطوات عينية من جانب إسرائيل يمكن إدراجها في إطار "خطوات بناء الثقة" المؤدية إلى تحسين أوضاع السكان الفلسطينيين على الصعد كافة. ويتطلب إنجاز ذلك أن تأخذ إسرائيل على عاتقها "مخاطر أكبر بكثير مما هي جاهزة لتحمله" الآن، وذلك في مضمار حرية التنقل وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين على سبيل المثال.
وهكذا فإن امتناع إسرائيل إلى الآن عن ولوج هذا الطريق من شأنه أن يعزّز فقط الشكّ في أنها تزرع الريح للعاصفة القادمة.