(*) الكتاب: قوة الكلمات ووهن المعرفة (الدعاية، التحريض وحرية التعبير)
(*) تأليف: مجموعة من الكتّاب
(*) إصدار: مركز إسحق رابين لأبحاث إسرائيل/ عام عوفيد، 2002، 286 صفحة
شكل إغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق، إسحق رابين، في 4/11/1995، نقطة مفصلية في تاريخ إسرائيل فضلا عن مفصليتها في تاريخ الصراع الاسرائيلي- الفلسطيني عمومًا. ومنذ ذلك التاريخ لا تزال إسرائيل تشهد الكثير من النقاشات والسجالات حول أثر عملية الاغتيال هذه على الواقع السياسي وخلافه، وكذلك على جوهر نظام الحكم وأدائه. كما صدرت حتى الآن عدة كتب حول الموضوع منها هذا الكتاب، الذي يضم وقائع مؤتمر دولي عقده "مركز إسحق رابين لأبحاث إسرائيل" حول موضوع "أنماط من السجال السياسي: دعاية، تحريض وحرية الكلام".
حرَّر الكتاب وقدم له ميخائيل كونفينو، أستاذ كرسي التاريخ في جامعة تل أبيب وعضو "الأكاديمية الوطنية الاسرائيلية للعلوم". واشتمل على أربعة أبواب: التحريض وحرية التعبير- جوانب قانونية وقضائية، النظام الديمقراطي وأعداؤه، الدعاية السياسية- تصاوير وتنميطات، التحريض للعنف واغتيال رابين.
الجانب النظري هو الغالب على هذا الكتاب، الذي يعدّ في الوقت نفسه محاولة لعرض تسلسل الدوافع الاجتماعية والثقافية والسياسية الواقفة خلف الدعاية والتحريض في التاريخ البشري وتاريخ تطور الفكر السياسي على مرّ العصور، بدءاً بالإغريق وصولا إلى أيامنا الراهنة.
ما يمكن التوقف عنده في محتويات الكتاب يكاد ينحصر في مسألتين ذواتي صلة وثيقة بالاغتيال المذكور وأبعاده ودلالاته المستمرة في الحاضر:
(*) الأولى- الخلاصة التي يتوصل إليها البروفيسور دانيئيل بارطال، أستاذ علم النفس الاجتماعي- السياسي في جامعة تل أبيب، في مداخلته القصيرة حول "شخصية العربي التنميطية في الروح الاسرائيلية".
مؤدى هذه الخلاصة أن التعامل السلبي حيال العرب، من طرف الاسرائيليين، يتم إكتسابه في جيل مبكر لدى جميع فئات المجتمع الاسرائيلي، بصورة غير منوطة البتة بموقف الفئة المعينة. بكلمات أخرى، وفقما يقول "بارطال"، فان التربية في البيت (الاسرائيلي) ليس في مقدرتها أن تحول دون اكتساب تعامل ثقافي سلبي إزاء العرب، فأولاد إسرائيل يتعلمون التنميط السلبي للعربي من ثقافة المجتمع. ويصبح هذا التعامل السلبي مركزيًا لدى معرفة مصطلح "عربي" ويتفاقم في جيل الطفولة حتى سن 9- 10 سنوات، حيث يبلغ ذروته. وبعد ذلك تبدأ ما يمكن اعتبارها سيرورة إعتدال متدرجة، لكن في الحالات جميعًا يظل مفهوم العربي سلبيًا بالمطلق.
ويؤكد "بارطال" أن النزاع الاسرائيلي- العربي، الذي يقف في صلبه الآن حسب قراءته نزاع اسرائيلي- فلسطيني ونزاع إسرائيلي- سوري، وإن كان الأخير قد خفّت حدته، يستمر في كونه العامل الحاسم في إنتاج التنميط الثقافي السلبي للعرب عمومًا والفلسطينيين والسوريين خصوصًا. مقابل ذلك فان الانهاء الرسمي للنزاع مع المصريين والأردنيين غيّر، بقدر ملحوظ، النظرة (الاسرائيلية) تجاههم.
كما يؤكد أن التنميط السلبي يواصل أداء دور مركزي ليس في تفسير الواقع فحسب، وإنما يشكل أيضًا عقبة أمام حل النزاع بطرق سلمية. فالطريق السلبية، التي ينظر من خلالها إلى العرب عمومًا والفلسطينيين خصوصًا، لا تنفك تشكل موشورًا يصدر المجتمع الاسرائيلي، اليهودي، عبره حكمه (القاطع) على الخصم. وهو يؤدي، حتمًا، إلى حكم منحرف وانتقائي ومختل يلقي أوزار المسؤولية عن خلق النزاع واستمراره وعن منع الوصول إلى حل له على كاهل ذلك الخصم. وهذا الحكم يتمحور، بصورة حصرية وإطلاقية، حول "عنف الخصم" فحسب ويحول دون أي تعاطف وجداني حياله ودون أي اعتبار لاحتياجاته. وهكذا تشكل النظرة السلبية (إلى الفلسطيني) واحدًا من العوامل التي تمنع التقدم إلى أمام في "عملية السلام".
بالتأسيس على ما يقوله "بارطال" ليس من العسير مدّ خيط يصل بين أثر ذلك الموشور على إصدار حكم قاطع حيال الخصم وأثره على إصدار حكم قاطع آخر، مكمل ومواز له، على من يتعامل مع هذا الخصم في منأى عن تلك النظرة السلبية السائدة والمتجذرة في المسلكية الاسرائيلية الثقافية، حسبما يمكن بكيفية ما إدراج تعامل رابين مع الفلسطينيين في أعقاب توصله إلى "اتفاق أوسلو" مع قيادتهم الشرعية.
غير أن اغتيال رابين يحمل دلالات أخرى أيضًا. ومن هذه الدلالات يشير محرر الكتاب، "كونفينو"، على وجه الخصوص إلى جوهر الديمقراطية الاسرائيلية. هذا الجوهر هو المسألة الثانية ذات الصلة الوثيقة بهذا الاغتيال.
في هذا الصدد يؤكد الكاتب أن النظام الدمقراطي في إسرائيل يفتقر إلى "التجربة والجذور العميقة". زد على ذلك أن اسرائيل تفتقر كذلك إلى "تقاليد متبلورة لمجتمع مدني وثقافة برلمانية واحترام لأصول اللعبة الدمقراطية"، ناهيك عن انها تفتقر إلى "تقاليد المجالدة والاستعداد للحوار". وهو يرى أن خصائص الفئوية المتعصبة والعربدة والميل إلى كراهية الخصم، لمجرّد كونه كذلك، ليست خصائص جديدة كل الجدة ظهرت فجأة في السنوات الأخيرة نتيجة لتدهور أخلاقي ما، إنما كانت معروفة منذ سنوات طويلة لدى اليهود في أيام الدياسبورا وفي كينونة "الغيتو"، بما تحيل إليه من "كينونة الحياة في أقطار غريبة لا يتماثلون معها إلا على نحو ظاهري فقط".
بنظرة راهنة يبدو حكم "كونفينو" أخفّ وطأة من أحكام أخرى صدرت في فترة لاحقة على الديمقراطية الاسرائيلية، إلى ناحية الإبانة عن جوهرها الحقيقي، كما يتمثل ذلك، لا على سبيل الحصر، في مشروع "مؤشر الديمقراطية" الذي صدر هذا العام (2004) للمرة الثانية على التوالي. ولذا فان أهميته، الآن وهنا، قد تبدو ليست ذات صلة بهذه الديمقراطية عند قراءة الأحكام التي صدرت عن ذلك "المؤشر" في هذا الشأن.
غير أن أهميته تبقى كامنة في تحذيره المبكر من إحالات عدم الالتفات كفاية إلى هذه الناحية، حتى بعد وقوع عملية إغتيال رابين. وهو يكتب في هذا الشأن: إن من توقع بأن يؤدي الاغتيال إلى إنعطافة ترسّخ في وعي الجمهور حجم الفقدان وحطة الجريمة والضرر الذي ألحقته بحياتنا السياسية كان واهمًا. ففي هذه المجالات الثلاث، الشخصي والأخلاقي والعام، لم تبرز في المجتمع الاسرائيلي أية تغييرات تذكر. تسمع كلمات كثيرة عن التغيير ولكنها تبقى مجرد كلمات. ولم تجر محاسبة حقيقية للنفس في أوساط أولئك الذين خرج منهم القاتل. لم يتم التعبير عن ندم ولم يجر أي فحص ذاتي. وانصب الاهتمام، أكثر شيء، في التخلص من المسؤولية وإنكار أية مشاركة في التحريض الذي سبق الاغتيال.
وأخيرًا ينوه "كونفينو" بأن إطلاق شعار "مجرمو أوسلو إلى المحاكمة" بعد إغتيال رابين، هو توكيد على أنه لم يجر استنفاد أية عبرة من عبر ذلك الاغتيال، ما يعني أن إغتيالاً مماثلاً، من حيث ماهيته وخلفيته، مرشح للتكرار في السيرورة السياسية والنفسانية لاسرائيل.
وإننا نجد مصداقًا لتحذير هذا الأستاذ الجامعي في ما صدر، أخيرًا، عن رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، آفي ديختر، من تصريحات في هذا السياق.
فقد جدد "ديختر" تحذيره من احتمال تعرض رئيس الحكومة، اريئيل شارون، الى الاغتيال لأسباب سياسية (تتعلق أساسًا بخطته للإنسحاب من مستوطنات في غزة وجنين المعروفة باسم "فك الارتباط"). وقال، في سياق استعراضه مجمل الأوضاع الأمنية أمام لجنة الخارجية والأمن البرلمانية، ان فئة قليلة تضم نحو مئتين من غلاة المتطرفين اليهود في الضفة الغربية وقطاع غزة "تتطلع في شكل جدي وفاعل الى موت رئيس الحكومة"، مشيراً الى أن هناك حلقة من مئات المؤيدين لهذه "النواة الصلبة" ولرغبتها في التخلص من شارون بهدف الحيلولة دون تنفيذ خطة الفصل الأحادي وتفكيك مستوطنات غزة ومنطقة جنين في الضفة الغربية.
وتابع انه يعني أشخاصاً متعصبين أيديولوجياً لا يقرون بصلاحيات قوات الأمن وأصحاب المناصب الرفيعة ويستمدون التشجيع من حقيقة عدم القاء القبض على ارهابيين يهود قتلوا سبعة فلسطينيين وجرحوا العشرات منهم في السنوات الأخيرة. وتابع ان أفراد "النواة الصلبة" يحملون السلاح في شكل قانوني، لكن جهاز الأمن العام يفتقر الى "أدوات قانونية" لاعتقالهم، مضيفاً أنه لو كان الحديث عن عناصر فلسطينية تتطلع الى تنفيذ عملية اغتيال لاعتقلتهم الجهات الأمنية الاسرائيلية المختصة إعتقالاً إدارياً.
وأعادت تحذيرات ديختر هذه الى أذهان الاسرائيليين ما قاله وزير الأمن الداخلي الاسرائيلي، تساحي هنغبي، قبل أسابيع من أن "القاتل المقبل لرئيس الحكومة موجود بيننا"، ما أثار حفيظة اليمين المتطرف الذي اتهم الوزير وقادة أجهزة الاستخبارات بتشويه سمعة اليمين كله "من دون أن يملك أدلة قاطعة على مخططات للاغتيال".
وفي استطلاع للرأي أجرته القناة الاسرائيلية التلفزيونية الثانية أخيرًا طلب من المشاهدين ان يعبروا عن رأيهم حول امكانية وقوع إغتيال سياسي آخر في اسرائيل. 80% أجابوا بنعم.
عن هذه النتائج قالت الصحافية ياعيل باز- ميلاميد (معاريف): يعني ذلك أننا نعيش في دولة، اغلبية سكانها لن يفاجأوا اذا ما قتل فيها رئيس حكومة او وزير او حتى شخصية امنية رفيعة المستوى. وكما يبدو فان الجميع يعرفون ما يعرفه وزير الامن الداخلي تساحي هنغبي بأن القاتل القادم في الطريق. وهذا هو. نعرف، ماذا يعني؟، بمثابة: مثل هذا هو اليمين المتطرف. لا توجد في اليد حيلة. ان الحقيقة التي تقول ان معظم الجمهور يعرف ان اليمين المتطرف يهييء القاتل القادم، تعطي هؤلاء المتوحشين الشرعية لهذا العمل. نعم، نحن متوحشون، نفعل كل شيء حتى نغير وجه التاريخ هنا والقرارات السياسية.
وأضافت: انتم تعرفون ذلك، وهكذا كل واحد منا يعيش بهدوء مع دوره في الفيلم. الحقيقة أن الكل يتكلم عن ادراك متأخر لمقتل رابين، شارون يعرف ان حياته بخطر، رئيس جهاز الامن العام يحذر، تساحي هنغبي يحدّد حقائق، ونحن نستمر في حياتنا، هذا دليل على أن كل شيء بخير، ولا يوجد اي سبب يجعلنا نقلق.
المشكلة المركزية، في رأي "باز- ميلاميد"، تكمن في عدم استخلاص الشاباك ومكتب رئيس الحكومة العبر من مقتل رابين ووحشية اليمين. فلو انهم استخلصوا العبر لكانوا تصرفوا مع الخلايا العسكرية اليمينية كما تصرفوا مع "آخر الارهابيين الفلسطينيين"، على حدّ تعبيرها.
وتزيد: على مدار الليل والنهار تجري عمليات واسعة للقبض على المطلوبين ويتم الكشف عن مخازن للاسلحة، خنادق وأحزمة ناسفة. لكن عندما يصل الامر للارهاب اليهودي فان الشاباك يقف عاجزا عن فعل أي شيء. مؤخرا قال رؤساء هذا الجهاز في الماضي: "المشكلة تكمن في البحث عن إبرة في كومة قش"، وكأن البحث عن مطلوب في مخيم لاجئين مكتظ بالسكان ليست عملية لايجاد إبرة في كومة قش. جهاز الامن العام يعرف ان يفعل ذلك. انه فقط لا يفعلها ضد اليهود حتى لا يوسع "الانشقاق الداخلي عند الشعب"، كما يتفوهون دائما في الجهاز السياسي والامني.
لنأخذ على سبيل المثال ما حدث مؤخرًا عندما زار رئيس الوزراء مدينة هرتسليا: احد ناشطي "كاخ" القدماء، المدعو ايتمار بن غفير، حضر للقاء رئيس الوزراء الا ان الشاباك أبعده وقامت الشرطة بمرافقته حتى وصل الى بيته الواقع في "مفسيرت تسيون". يمكن فقط التوقع ماذا كان سيحدث لعربي اسرائيلي لو ان الشاباك شكك فيه واعتبره خطرا على امن رئيس الوزراء وتم القبض عليه في نفس الظروف. حسنا، بن غفير هو يهودي، وان اليهود اقل خطرا من العرب. انهم لن يقتلوا يهوديا، اذا لماذا هذا الكره الزائد.
يجب التعامل مع اليمين المتطرف وبالاخص اعضاء منظمة "كاخ" تماما كما يتم التعامل مع اي مخرب آخر، تؤكد الكاتبة، فالديمقراطية الاسرائيلية لن تصمد مع وقوع إغتيال سياسي آخر. واذا ما حدث إغتيال كهذا فستندلع هنا حرب اهلية وبعدها يأتي أجل الدولة.
من هنا، فان كل قاتل ممكن، هو في عرفها أخطر بكثير من كبار المطلوبين من حماس والجهاد. حاخاميو الضفة والقطاع ليسوا المشكلة بل تلك المجموعات التي لا تخضع لسيطرتهم، القاتل سيخرج من بين اولئك المتعصبين المتوحشين الذين لم يكن لهم اله أبدا والطريق الوحيدة التي يعرفونها هي العنف فقط. القاتل سيكون من بين اولئك الذين اعتدوا على ضابط في الجيش الاسرائيلي عندما اشترك في اخلاء احد المواقع الاستيطانية غير القانونية، وهم كما يبدو بحجم إبرة لكن لم يقم حتى اليوم أحد باعتقالهم.
المصطلحات المستخدمة:
اريئيل, هرتسليا, لجنة الخارجية والأمن, كاخ, رئيس الحكومة, تساحي هنغبي, آفي ديختر