المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في الأيام الأولى للحرب على العراق، توافد المعارضون للدخول الى البلد برفقة الجنود الاميركيين. كان بينهم ضابط عراقي سابق اجتاز بعض المسافة وما لبث ان قرر عدم اكمال الرحلة. عندما سأله أصدقاء، قال انه لم يتقبل ما رآه. كان حزّ في نفسه ان يضطر للذهاب مع الأميركيين، لكنه مدرك ان هذا هو الخيار المتاح، غير ان شيئاً آخر جعله يحجم عن المتابعة، إذ تبين له انه ذاهب الى العراق برفقة الاسرائيليين ايضاً.


هذا الرجل نموذج غير معمم. هناك من عرفوا وسكتوا وبقيت الحسرة في قلوبهم. بعضهم بدأ يتحدث عنها. البعض الآخر انخرط في مهمات الداخل آملاً في ان تسمح الظروف، في الدولة الجديدة، بمعالجة هذه المشكلة. ويعترف معارضون سابقون بأنهم فوتحوا بشأن اسرائيل، خصوصاً من جانب البنتاغون، وأجابوا بأن هذا الأمر ليس أولوية لديهم، وان كل ما يستطيعون تعهده بكل تأكيد هو ان العراق لن يكون مستقبلاً مصدر تهديد لاسرائيل، أما العلاقات معها فلا بد ان تتقرر في ضوء المصلحة. في المقابل وافقت جهات من تلك المعارضة على فتح قنوات مع اسرائيل، ثم ان الأكراد في الشمال كانوا طوروا علاقة ثابتة ومحدودة مع اسرائيل إلا أنهم حاذروا توسيعها والجهر بها لأنهم كانوا يحتاجون في ذلك الوقت الى علاقة وتسهيلات من دول الجوار.

مع تراجع الحاجة الى تلك الدول وصعود الاعتماد على الجانب الاميركي، لم يعد الأكراد يتحرجون من العلاقة مع اسرائيل، بل اصبحوا يعتبرونها مكسباً إضافياً. هناك جهات اخرى عراقية طبعاً نسجت وتنسج علاقة مع الاسرائيليين. وهناك أفراد عراقيون ناشطون اعتمد عليهم الاسرائيليون في صنع تلفيقات اسلحة الدمار والعلاقة مع "القاعدة". بالإضافة الى سماسرة من دولة عربية مجاورة تجندوا في تسهيل الاختراق الاسرائيلي الذي بدأ بتنسيقات وخبرات طلبها البنتاغون في تحضير للحرب، ثم تطور وتشعب معتمداً على عراقيين وغير عراقيين.


اليوم أصبح الوجود الاسرائيلي في العراق واقعاً، أقل ما يقال فيه انه من نتاج الاحتلال. لا بد ان الاميركيين باتوا مقتنعين الآن بضرورته للمرحلة المقبلة، اما العراقيون الجدد الموجودون في الحكم فمدعوون للتعامل مع أمر واقع رتبه الاميركيون بل فرضوه. أي باختصار، الاسرائيليون هنا، وليس بإرادة عراقية معلنة و"مقوننة". وما كتبه سيمور هيرش في "النيويوركر" يشير الى ان الوجود الاسرائيلي آخذ بالتهيكل من خلال كردستان العراق، بعلم الاميركيين وبشكل شبه مستقل عنهم. أما في بقية العراق فهو متغلغل في نسيج قوة الاحتلال الاميركية.


لم يعد المسؤولون في اسرائيل يشعرون بالاضطرار الى اخفاء الأمر. حتى ان الصحافة العبرية تدّعي أن الفشل الاميركي في العراق أوجب على اسرائيل التدخل على سبيل الانقاذ والمساعدة. وعلى رغم ان لاسرائيل يداً في ذلك "الفشل" الذي تعزى اسبابه، خصوصاً الى فترة التحضير للحرب، إلا ان ادعاء الانقاذ مسألة اخرى قد نجدها في مشاركة الاسرائيليين كخبراء في التعذيب، وفقاً لاعترافات الجنرال جانيس كاربينسكي. لكن الأكيد ان الاميركيين الذين خططوا لوجود طويل الأمد في العراق يعولون على خدمات اسرائيل كقوة احتياط موجودة في الاقليم.

كان لافتاً ان الدولة الوحيدة التي عبرت علناً عن ضيقها من الوجود الاسرائيلي في العراق هي الدولة غير المتوقعة، تركيا. الدول الأخرى المجاورة لم يسمع لها أي موقف مباشر، باستثناء تصريحات ايرانية عابرة ربما لأن طهران تحاذر ان تساءل عن دورها النشط داخل العراق. وليس معلوماً اذا كان الوجود الاسرائيلي استوقف الحكومة العراقية أو استحق منها بعض النقاش لمفاتحة الاميركيين بأن هذا الأمر مربك اكثر مما هو مساعد، ثم انه لا يشكل مصلحة وطنية، كما لم يتشكل حوله اجماع وطني. فهو مرفوض من السنة والشيعة، أما الأكراد فيتصرفون بمعزل عن بغداد. من الأفضل ان تحدد الحكومة العراقية موقفها منذ الآن قبل ان يباشر الاسرائيليون التدخل في الانتخابات، مثلاً، أو في استحقاقات ومصالح عراقية حيوية يفترض ان تخضع لقرارات "سيادية".

من الطبيعي ان يثير وزراء خارجية الدول المجاورة للعراق، عندما يلتقون في القاهرة، مسألة الوجود الاسرائيلي هذه. لكن هل يستطيعون اعلان موقف واضح منها؟ الأهم هو ان يقرروا عدم ترك الساحة مفتوحة لاسرائيل ومن يعاونها من دول الجوار نفسها. فإذا كان لبغداد ان تحد من استشراء التغلغل الاسرائيلي فإنها تحتاج الى تعاون اقليمي أكبر. اللعبة تغيرت، ولا بد من تغيير وسائل التعامل مع الوضع العراقي الجديد.( عن "الحياة")

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات