على خلفية اقرارها قانون معاداة السامية:
أدخلت إدارة الرئيس جورج بوش منذ مجيئها إلى البيت الأبيض، قبل أربعة أعوام، تعديلات نوعية كبيرة على السياسة الخارجية الأميركية إزاء قضايا الشرق الأوسط، ولاسيما فيما يخص قضية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
فهذه الإدارة التي سيطر عليها تيار "المحافظين الجدد"، الداعم لإسرائيل، رفضت الاستمرار برعاية عملية التسوية، التي انطلقت من مؤتمر مدريد (أواخر 1991). وهذه الإدارة عملت كل ما في وسعها على تقويض اتفاقات "أوسلو"، وإخراجها من دائرة الاستحقاقات التفاوضية، على الرغم من أن إدارة الرئيس كلينتون (السابقة) وضعت تعهداتها بدعم هذه الاتفاقات. أيضا فقد رفض الرئيس بوش، منذ مجيئه إلى البيت الأبيض، أي لقاء مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، رغم أنه الزعيم الشرعي المنتخب للفلسطينيين، وبرغم كل التقديمات الذي قدمها لعملية التسوية؛ بل إنه أبدى استعدادًا للعمل مع أريئيل شارون على تحقيق السلام في حين أن شارون ذاته لم يدّع أنه "رجل سلام" في حياته، وهو الذي ساهم بإسقاط رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين، لتوقيعه اتفاق أوسلو، وهو الذي وقف ضد اتفاق واي ريفير، الذي وقعه بنيامين نتنياهو في 1998.
وفي صيف العام 2002، وبعد أن أعادت إسرائيل احتلال المناطق التي كانت خاضعة لإدارة السلطة الفلسطينية، بعد حملة عسكرية أمعنت فيها تقتيلا وتدميرا بالشعب الفلسطيني، خرج بوش برؤيته العتيدة لحل القضية الفلسطينية. وفي حينه أعرب بوش، في خطاب ألقاه يوم 24/6/2004 عن تأييده لقيام دولة فلسطينية، ولكنه مع ذلك، لم يحدّد حدود هذه الدولة، والأهم من ذلك أنه قرن قيام هذه الدولة بتنفيذ الفلسطينيين لشروط عدة أهمها: وقف العنف، وإصلاح المؤسسات، وتغيير القيادة؛ وهي شروط ينجم عنها إجراء انقلاب في الساحة الفلسطينية.
الخطير في الأمر أن بوش ، بهذه الشروط، اعتبر أن حق تقرير المصير لم يعد حقا مطلقا، وإنما هو بات مشروطا، ولاسيما بإرادة الدول الكبرى. وفي خطابه هذا أبدى بوش تماهيا مطلقا مع الادعاءات الإسرائيلية بشأن: 1) عدم وجود شريك للتسوية في الجانب الفلسطيني؛ 2) أنه لا مفاوضات مع الفلسطينيين في ظل الانتفاضة والمقاومة (الإرهاب بالمصطلحات الأميركية ـ الإسرائيلية)؛ 3) أن الأولوية ليست لإنهاء الاستيطان والاحتلال وإنما هي لتغيير القيادة الفلسطينية وإصلاح المؤسسات الفلسطينية.
في حينه سخر المحلل الإسرائيلي ناحوم برنياع من خطاب بوش هذا. وبحسب برنياع فإن "اللسان كان لسان الرئيس بوش، لكن اليد التي كتبت الخطاب، هي يد أريئيل شارون.. إذا كان العامان الأخيران قد قتلا اتفاقيات اوسلو، فقد جاء خطاب بوش ليدفنها في طيات التاريخ.. لقد وعد شارون بتحقيق الأمن والسلام، لكنه لم يحقق ذلك.. لكنه حقق وعداً لم يتعهد به: لقد ضم جورج بوش الابن إلى صفوف الليكود كعضو مؤقت"!(يديعوت أحرونوت 26/6/2002).
وفي 14 نيسان الماضي، قدم بوش هدية أخرى لشارون، ردا على خطته بشأن الانسحاب الأحادي من قطاع غزة، ولتهدئة مخاوف المتطرفين والمستوطنين الإسرائيليين، وكأن المحتل والمستوطن ينبغي مكافأته، في حين أن الضحية المحتلة أرضه والمغتصبة حقوقه، لا تستحق ذلك!
وقد تمثّلت هذه الهدية، بموافقة الإدارة الأميركية على أن أي اتفاق فلسطيني ـ إسرائيلي ينبغي أن يأخذ في الاعتبار الحقائق التي صارت واقعاً اثر التطوّرات التي حصلت في العقود الأخيرة. وبين هذه الحقائق الوجود الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية، ما يعني أن إسرائيل ليست مضطرة للانسحاب إلى حدود ما قبل 4 حزيران 1967.
أما بالنسبة إلى قضية اللاجئين، فقد اعتبر بوش أنه بامكان هؤلاء ممارسة حق العودة إلى الدولة الفلسطينية وليس إلى إسرائيل. وفي هذه التعهدات يكون الرئيس بوش خرق الموقف الأميركي التقليدي القائل بعدم شرعية المستوطنات، كما أنه ألغى "حق العودة".
وفي كل ذلك فقد استبق بوش نتيجة المفاوضات، بين الإسرائيليين والفلسطينيين، محولا الولايات المتحدة إلى طرف في المفاوضات، لصالح إسرائيل، بدلا من كونها راعيا نزيها للمفاوضات؛ برغم أن الرئيس السابق بيل كلينتون خاض بنفسه تجربة التوفيق بين الفلسطينيين والإسرائيليين بشأن الحدود والمستوطنات والقدس وحقوق اللاجئين، وبرغم أن ذلك يتناقض مع التعهدات التي أخذتها الولايات المتحدة على نفسها، في ظل إدارة الرئيس بوش الأب، لدى إطلاق عملية التسوية من مؤتمر مدريد (أواخر 1991)!
الواضح أن إدارة بوش ذهبت بعيدًا في مجال التماهي مع إسرائيل، فهي ليس فقط انصاعت للتعديلات الإسرائيلية، التي وضعتها حكومة شارون كشرط لقبولها خطة "خريطة الطريق"، بل إنها تبنّت خطة شارون الأحادية بكاملها، مع بعض التعديلات عليها؛ ما أظهر عملية التسوية وكأنها شأن خاص بإسرائيل والولايات المتحدة!
ويمكن القول بأن هذا التوافق، الأميركي ـ الإسرائيلي، فضح موقف الطرفين من عملية التسوية باعتبارها محاولة إرغام وتطويع للطرف الفلسطيني، أكثر بكثير من كونها عملية تفاوضية تتأسس على نوع من الشراكة والقناعة المتبادلة والعدالة النسبية؛ من أجل تكوين مستقبل أفضل للشعبين. وحتى أن المحلل الإسرائيلي ناحوم برنياع، وصف ما حدث بقوله: " في24 حزيران 2002 رسم بوش في خطاب له خريطة الطريق.. وبتاريخ 14 نيسان 2004، دفنها" (يديعوت أحرونوت، 15/4/2004). على ذلك لم يكن ثمة غرابة أو مبالغة في تلخيص شارون لتفاهماته مع بوش، بقوله: "هذه تعهدات لم يسبق لنا أن تلقيناها من أميركا" (هآرتس 16/4/2004).
مؤخرا خرجت علينا إدارة الرئيس بوش بقانون جديد، أو بدعة جديدة، تمثلت بسن قانون جديد يلزم وزارة الخارجية الأميركية بوضع تقرير سنوي حول معاداة السامية في العالم ونشره في إطار تقريرها حول حقوق الإنسان. كما ينص على إنشاء دائرة داخل الوزارة تكلف بإحصاء الأعمال المعادية للسامية ووضع استراتيجيات لمكافحتها. وستكلف الدائرة بتفصيل أعمال العنف الجسدي الموجهة ضد يهود أو أملاك يهودية وأعمال تدنيس مقابر أو معابد يهودية، فضلا عن إحصاء حالات الدعاية المعادية لليهود. كما يتضمن القانون "تعيين مبعوث دبلوماسي خاص لمراقبة انتقاد اليهود والعمل على حمايتهم مع دول العالم".
من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن إدارة بوش أوغلت كثيرا في دعمها لسياسات إسرائيل العنصرية والعدوانية، التي تنتهجها في المنطقة، والتي تهدد الأمن والسلام الإقليمي والعالمي. ولاشك بأن هذا التماهي بين السياسة الأميركية والإسرائيلية من شأنه أن يفاقم من مظاهر العداء لسياسات الولايات المتحدة كما من شأنه أن يعزز من مظاهر العداء لإسرائيل وسياساتها، القائمة على الغطرسة والعنصرية والخروج على الشرعية الدولية.
وعليه فإن القانون الأميركي الجديد ليس مفاجئا، وهو لن يخدم مصالح الولايات المتحدة، وبالتأكيد فهو لن يخدم مصالح اليهود في العالم، كما أنه على الارجح سيزيد من عزل إسرائيل على الصعيد الدولي.
المصطلحات المستخدمة:
انقلاب, اوسلو, حق العودة, يديعوت أحرونوت, هآرتس, مؤتمر مدريد, الليكود, بنيامين نتنياهو