المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

شهدت الأسابيع الماضية، التي أعقبت الموافقة الإسرائيلية على خطة "خريطة الطريق"، سجالا موسعا ومعقدا بين الإسرائيليين والفلسطينيين، حول النقاط الموضوعة في الخطة، ومن ضمنها: مسألة التزامن في تطبيق الالتزامات والجدول الزمني وآليات المراقبة، ومفهوم التهدئة ووقف أعمال العنف، ومصير الاستيطان والقدس واللاجئين.

وبغض النظر عن هذه الخلافات والتباينات، فإن قضية اللاجئين بدت، من بين القضايا المذكورة، القضية الأكثر استعصاء، بين الطرفين المتصارعين، حيث طالبت حكومة شارون الطرف الفلسطيني بالتنازل، مسبقا، عن "حق العودة" للاجئين الفلسطينيين، أو الاعتراف بإسرائيل باعتبارها دولة يهودية.

واللافت هنا، أولا، أن إسرائيل التي تطالب بهذا الأمر لم تسلّم أصلا، وبشكل نهائي، بحق الفلسطينيين بإقامة دولة لهم، في الأراضي التي احتلتها في العام 1967! ثانيا، أن إسرائيل تدرك بأن قضية اللاجئين الفلسطينيين، بحسب "خريطة الطريق"، مطروحة على التفاوض، بين قضايا أخرى، في المرحلة النهائية (الثالثة) من الخطة؛ وثالثا، أن إسرائيل نفسها لم تحدد حدودها الجغرافية وحتى أنه لا يوجد دستور لها! رابعا، أن مسألة تحديد طابع أي دولة هو شأن داخلي من شؤون السيادة للدول والمجتمعات المعنية بهذا الموضوع، بمعنى أنه لا يخضع لمزاج خارجي؛ إذ لم يسبق لدولة أن تدخلت لتحديد طبيعة دولة أخرى، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بقيام دولة ما بالطلب من الآخرين بالاعتراف بطابعها، وليس، فقط، بحدودها وسيادتها وأمنها؟!

ويستنتج مما تقدم أن إسرائيل، بمحاولاتها البتّ بقضية اللاجئين الفلسطينيين، قبل أوانها (بحسب الخطة)، تسعى إلى تسجيل عدة نقاط لصالحها، فهي تحاول، أولا، التهرّب، ما أمكن، من المطلوب منها في خطة "خريطة الطريق"، بسبب التناقضات الإسرائيلية الداخلية الناجمة عن عدم نضج إسرائيل، أصلا، لعملية التسوية؛ ثانيا، تجنّب الضغط الأمريكي وتوجيهه نحو الفلسطينيين؛ ثالثا، فرض وقائع جديدة، على الفلسطينيين، تحدد نتيجة الوضع النهائي.

فمثلا، تحاول إسرائيل، هنا، انتزاع إقرار فلسطيني بطبيعة دولة إسرائيل (اليهودية) للتخلص نهائيا من حقّ العودة للاجئين (مثلما تحاول بالاستيطان تحديد وتقييد حدود الدولة الفلسطينية وتصعيب شروط قيامها)، وكل ذلك قبل الوصول إلى المرحلة النهائية من المفاوضات، وحتى قبل الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية، ذات الحدود المؤقتة (بحسب المرحلة الثانية من "خريطة الطريق". ومن الواضح أن إسرائيل تتحرّك في هذا الاتجاه على أساس قناعة مفادها، أن الضغط على الفلسطينيين، بشأن قضية اللاجئين، قبل قيام دولة لهم (مهما كان شأنها)، أفضل وأجدى لها بكثير من الضغط عليهم بعد قيامها.

وهذا ما يؤكد عليه عكيفا الدار بقوله:"مطلب شارون بأن يتنازل الفلسطينيون عن حق العودة مسبقا يشير إلى أنه يدرك خطر الولوج في نفق يدرك تماما انه يؤدي إلى الهاوية السحيقة. وإذا كان من المتوقع التداول حول التسوية الدائمة في الوقت الملائم لاحقا فان الفلسطينيين سيصرون على حق العودة..أية مصلحة توجد لإسرائيل في تحسين مواقع العدو استعدادا للمواجهة القادمة المعروفة سلفا؟ إذا كانت مسألة قيام الفلسطينيين بالمطالبة بعودة لاجئي عام 1948 واقعة فمن الأفضل أن نعرف ذلك قبل أن تتحول السلطة إلى دولة.. شارون أحسن صنعا حين بكر في طرح الأمور اللاحقة". (هآرتس 12/5)

على أية حال فإن ما تقوم به إسرائيل من أعمال ومواقف غير طبيعية (ولا منطقية)، هو نتاج طبيعي لكونها دولة غير طبيعية أصلا، فهي تأسست بوسائل الهجرة والاستيطان واقتلاع أهل الأرض الأصليين، حيث هاجر إلى فلسطين، منذ مطلع القرن العشرين حتى العام الحالي، حوالي 3.5 مليون يهودي من أصل 5.400 مليون يهودي يقيمون في إسرائيل، اليوم. كما أن هذه الدولة الإسرائيلية قامت (عام 1948) واستقرت بوسائل القوة والإكراه، أي أنها لم تقم بنتيجة التطور التاريخي الطبيعي، للتجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين؛ على غرار مجتمع المهاجرين البيض في جنوب أفريقيا الذي نشأ إلى جانب المجتمع الأصلي، ما كانت نتيجته المنطقية، فيما بعد، وبنتيجة كفاح الأفارقة الجنوبيين تقويض النظام العنصري وقيام دولة واحدة. والمفارقة أن هذه الدولة التي قامت بجهود القوى الصهيونية العلمانية تمسكت منذ قيامها بكونها دولة يهودية، ولعل هذا ما يفسر الطابع المتناقض لهذه الدولة (علمانية ودينية ـ يهودية وديمقراطية) والمفارقات التاريخية التي تعيشها، حتى الآن، وعلى رغم مرور أكثر من نصف قرن على قيامها.

أما بالنسبة لرفض الفلسطينيين الاعتراف بالطابع اليهودي للدولة الإسرائيلية، فهو ربما يبدو للبعض، من الوهلة الأولى، ترفا أو محاولة في غير محلها، بعد أن جرت مياه كثيرة في نهر التسوية، ولكن التمعّن في تفحص حيثيات هذا الموقف، يفيد في النواحي التالية: أولا، الإصرار على وضع إسرائيل على سكّة الحل السياسي ورفض الانجرار إلى مناوراتها بشأن ربط قضايا المرحلة الانتقالية بقضايا الحل النهائي (كما حاولت سابقا بشأن اتفاقات أوسلو)، فهذه الدولة، حتى الآن، مازالت ترفض بطابعها الاحتلالي ـ الاستعماري في الضفة والقطاع! ثانيا، أن التقرير بشأن شكل حل قضية اللاجئين لا يمكن، إلا بعد اعتراف إسرائيل بحق الفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة وذات سيادة، في الأراضي المحتلة عام 1967؛ ثالثا، أن الجدل حول طبيعة إسرائيل هو جدل داخلي إسرائيلي، وبرغم الإجماع بين القوى الإسرائيلية على طبيعة الدولة اليهودية، فإنه ثمة تيارات إسرائيلية، متنامية، تطالب بإقرار الطابع العلماني ـ القومي للدولة، وشطب التعريف الديني، ومن غير المعقول أن يتدخل الطرف الفلسطيني في هذا النقاش، ولغير صالحه؛ رابعا، أن الحديث عن الطابع اليهودي للدولة الإسرائيلية، ليس فقط يضيّع حق اللاجئين في العودة، بل انه، أيضا، قد يؤدي إلى إخراج فلسطينيي 48 (عددهم مليون وربع) المقيمين في إسرائيل، من أرضهم، وهذا أخطر ما في الأمر، وهو كناية عن "ترانسفير" أو ترحيل جديد بموافقة فلسطينية.

ومن المعروف، أنه ثمة أحزابا إسرائيلية قائمة على أساس فكرة "الترانسفير"، أي ترحيل الفلسطينيين كرها أو طوعا من إسرائيل، وان ثمة إجماعا في إسرائيل على مخاطر تنامي القوة الديمغرافية لعرب 48، الذين يشكلون نسبة 21 بالمئة من المواطنين في دولة إسرائيل، كما بينت مداولات مؤتمر "هرتسليا"، حتى أن هناك من يطرح مسألة تبادل الوجود الاستيطاني في الضفة الغربية بالوجود العربي في إسرائيل، وكأن ثمة مساواة بين مستوطنين بالقوة وبين أصحاب الأرض الأصليين. فهذا مثلا، مناحيم بن، يعتبر أنه من الممكن التوصل مع الفلسطينيين، إلى تسوية تترك في يد إسرائيل نصف أراضي الضفة مقابل المدن والقرى العربية في إسرائيل، "عبر السماح لكل عربي إسرائيلي يرغب في أن ينضم كمواطن إلى السلطة الفلسطينية، مع الحفاظ على كل حقوق المقيم لديه في إسرائيل. وهكذا أيضا بالنسبة لكل سلطة عربية بلدية في إسرائيل، بحيث تتمكن من الاختيار للانضمام مدنيا إلى السلطة الفلسطينية، مع بقاء الصلاحية الأمنية كاملة بيد إسرائيل.. يمكن لنا أن نسمي ذلك أيضا المنطقة "د". وذلك لان الحديث يدور حول مكانة مميزة تشمل حق الإقامة الإسرائيلية الكاملة لكل المواطنين الفلسطينيين في هذه المنطقة. بحيث يتمكنون من الانتخاب والترشيح إلى البرلمان الفلسطيني الموحد، وليس للكنيست الإسرائيلية. وهكذا نضرب عصفورين كبيرين بحجر واحد: أولا نتخلص من القومية الفلسطينية المتطرفة، والتي تتناقض في معظمها مع القومية الإسرائيلية والعبرية وتشارك في المؤسسات السيادية لإسرائيل. وثانيا، نبقي في أيدينا المستوطنات الرائعة والمناطق الأمنية الحيوية". (معاريف 8/7/2001)

على ذلك من المهم بالنسبة للفلسطينيين، وفي مواجهة هذه الطروحات الإسرائيلية، توحيد مواقفهم والارتقاء بخطاباتهم السياسية، لفضح الطابع العنصري للدولة الإسرائيلية التي تتبجح بالديمقراطية، في حين أنها دولة "أبارتهايد"، بالنسبة لمواطنيها وسكانها غير اليهود الذين تمارس التمييز العنصري تجاههم، بسبب قوميتهم وعقيدتهم الدينية، كما أنها دولة تتبجح بالعلمانية، في حين أنها في قوانينها وفي سلوكياتها وخطاباتها تستند إلى التعاليم "الخرافية" التوراتية و"فتاوى" المشعوذين والمتطرفين من حاخامات إسرائيل.

في هذا الإطار، مثلا، يقول الحاخام شلومو افينير: "ذات مرة وجه بن غوريون سؤالا الى طبنكين، المنظُر الايديولوجي للحركة، هل ثمة مجال لتنازلات اقليمية. فأجابه: أنا ملزم بان أتشاور مع احد ما وسأجيبك غدا. وفي الغداة أجاب بالنفي. فسأله بن غوريون: هلا أمكنني أن اعرف مع من تشاورت؟ نعم، أجاب طبنكين، مع جدي الذي توفي ومع حفيدي الذي لم يولد بعد(!) (يديعوت أحرونوت 4/6) عموما فإن المسألة هي مسألة صراع إرادات وموازين قوى، وليست مجرد حبر على الورق.

كاتب فلسطيني مقيم في دمشق

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات