بقلم: ماجد كيالي
منذ لحظة اندلاعها، قبل ثلاثة أعوام، افتقدت الانتفاضة الفلسطينية لأية آلية حوار بينها وبين الإسرائيليين، ما أضعف تأثيراتها السياسية وحدّ من قدرتها على إحداث التفاعلات والتحولات المواتية لها في المجتمع الإسرائيلي.
وقد بيّنت التجارب أن حركات التحرر الوطني بحاجة ماسّة إلى مخاطبة المجتمع المستعمِر، إن لإحداث شروخات وأزمات سياسية فيه، أو لإيجاد قاعدة اجتماعية متعاطفة مع أهدافها ومساندة لغاياتها.
وعلى أية حال فإن التجربة الفلسطينية لم تكن لتشذّ عن هذه القاعدة، وإن كان الوضع هنا يتميّز بالصعوبة والتعقيد، بالنظر لعدة أسباب منها: أولا، طبيعة المجتمع الإسرائيلي، القائم على أساس الاستيطان الاحلالي والمتشرّب للعقيدة الصهيونية، وخرافات "أرض الميعاد" و "أرض بلا شعب". ثانيا، سيادة روح الغطرسة والتفوق، لدى الإسرائيليين، بالقياس لضعف الفلسطينيين. ثالثا، الشعور بالأمان المطلق على خلفية الانتماء للغرب واحتكار إسرائيل للسلاح النووي في المنطقة وتمتّعها بحماية الدول العظمى في العالم، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.
ومع ذلك، أي برغم هذه الخصوصيات، فقد استطاع الفلسطينيون إيجاد نوع من التعاطف بين الإسرائيليين مع تطلعاتهم الوطنية، المتمثلة في تقرير المصير وإقامة دولة لهم، خصوصا مع التداعيات التي خلقتها الانتفاضة الفلسطينية الكبرى (1987 ـ 1993).
وكانت الانتفاضة السابقة، بأهدافها ووسائلها وبفعالياتها الشعبية، أحدثت اختراقا مهما في المجتمع الإسرائيلي، فهي أخرجت قطاعات واسعة من الإسرائيليين إلى الشوارع، وأدت إلى نمو معسكر السلام في إسرائيل، وساهمت في إطلاق موجة "المؤرخين الجدد" وتيار"ما بعد الصهيونية"، ووصل الأمر إلى حد إنهاء احتكار حزب الليكود للسلطة في إسرائيل (منذ العام 1977)، وذلك في انتخابات العام 1992 التي جاءت بحزب العمل إلى السلطة، وصولا إلى فرض التوجه نحو التسوية.
أما في الانتفاضة الحالية فقد كانت الظروف على غاية في الصعوبة، فهذه الانتفاضة على زخمها لا تنجح تماما في مخاطبة المجتمع الإسرائيلي، ولم تنجح في إيجاد قاعدة من التعاطف معها، برغم رسالة عشرات الطيارين، وقبلها رسالة مئات الضباط، الذين رفضوا الخدمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ورغم تظاهرات منظمات مثل: "كتلة السلام" و"هناك حد" و"بتسيليم"، وغيرهم، وأيضا برغم صيحات عشرات الكتاب والأدباء والمفكرين الإسرائيليين المؤيدين للتعايش والسلام، مع الفلسطينيين، على قاعدة حق تقرير المصير في دولتين لشعبين أو في دولة ثنائية القومية.
ويمكن تفسير هذا الوضع بأسباب عدة، لعل أهمها:
1 ـ إدارة حزب العمل ظهره لعملية التسوية، بعد أن تبيّن له أن الاملاءات التي حاول تمريرها في كامب ديفيد (يوليو 2000) لم تمر لدى الفلسطينيين، بسبب الإجحاف المتضمن فيها. وفي الواقع فقد كان هذا الحزب بقيادة باراك يتطلع إلى مقاسمة الفلسطينيين أراضيهم المحتلة!
ويمكن القول بأنه في تلك اللحظة التفاوضية اهتزّت الصورة النمطية التي رسمها حزب العمل للفلسطينيين، ولعملية التسوية. ومن الواضح أن قيادة هذا الحزب كانت غير ناضجة لعملية تسوية، على شكل حل وسط تاريخي، وكانت تعتقد بأن الفلسطينيين ضعفاء ومهزومين ومحبطين، من الوضع العربي والدولي، وأنه بامكانها فرض أية صيغة تسوية عليهم، تمنحهم نوعا من دولة.
ولعل هذا ما يفسّر خروج قيادة حزب العمل عن طورها، بعد المفاوضات المذكورة، واتهامها القيادة الفلسطينية بأنها هي المسؤولة عن فشل المفاوضات واندلاع الانتفاضة ومجيء شارون، وحزبه الليكود، إلى السلطة. ولعل هذا ما يفسر، أيضا، تعمّد حكومة باراك العمالية استخدام أقصى أشكال العنف والتدمير ضد الفلسطينيين، لكسر انتفاضتهم.
المهم أنه ونتيجة لما تقدم فإن الاتهامات التي فبركها حزب العمل، ضد الفلسطينيين، أدت إلى تبلبل معسكر السلام الإسرائيلي، وإضعاف فعاليته وانحساره، لصالح نمو تيار اليمين في المجتمع الإسرائيلي.
2 ـ دأب شارون منذ صعوده إلى السلطة على استخدام مصطلحات الدفاع عن وجود إسرائيل، والدفاع عن أمن الإسرائيليين، وقد أدى ذلك إلى تحشيد الإسرائيليين من حول حكومته، لا سيما أن هذه الادعاءات تتماثل مع المواقف التي روجها حزب العمل عن الفلسطينيين، الذين قال أنه اكتشف أنهم يريدون التسوية بمثابة "حصان طروادة"، أي كمحطة لتدمير إسرائيل. ولا شك هنا بأن غياب التوافق السياسي بين الفلسطينيين، بشأن هدف الانتفاضة، وبروز ظاهرة العمليات الاستشهادية، ساهم كل بدوره في تعزيز قناعة الإسرائيليين بضرورة الالتفاف من حول حكومة شارون في حرب الدفاع عن الوجود.
3 ـ كان الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين يدور هذه المرة حول القضايا المصيرية، لكلا الجانبين، والتي تشمل قضايا: اللاجئين والقدس والمستوطنات والحدود والترتيبات الأمنية؛ وهي مواضيع تمسّ برؤية إسرائيل لذاتها وتفرض عليها تحديد حدودها: السياسية والجغرافية والبشرية، وهي أمور لم يتم حسمها في إطار المجتمع الإسرائيلي ونخبه السياسية، بحكم أن هذه القضايا تمسّ، أيضا، المبررات الأخلاقية والسياسية والأيدلوجية (الدينية) التي قامت على أساسها الحركة الصهيونية وإسرائيل ذاتها، فيما بعد.
4 ـ كان من شأن الخلافات الفلسطينية، حول هدف الانتفاضة، تصعيب العمل على قوى السلام الحقيقية في إسرائيل بل إنها، على الأغلب، أدت إلى عزل هؤلاء في المجتمع الإسرائيلي. كما أن بروز العمليات الاستشهادية، أدت إلى خلق أجواء غير مواتية لهذه القوى، في سعيها للرد على أطروحات شارون العدوانية والعنصرية، أو في جهودها لإيجاد قاعدة من التعاطف مع كفاح الفلسطينيين.
والمعنى من ذلك أن الفلسطينيين لم يسهّلوا على هذه القوى عملها، بل إنهم ساهموا، ولو من حيث لا يقصدون، في إضعاف منطقها وانحسار دورها في المجتمع الإسرائيلي، لصالح شارون؛ فهم بدورهم استخدموا مصطلحات الحرب الوجودية والافنائية ضد إسرائيل، وإن بمعنى أخر.
5 ـ بقاء الحوار، في الانتفاضة الحالية، حكرا على الدائرة الرسمية، أي على المفاوضات بين السلطة من جهة والحكومة الإسرائيلية من الجهة المقابلة، وساهم في ذلك الحصار المفروض على الفلسطينيين، قيادة وشعبا، وهذا المستوى العالي من الصراع الدموي، بين الجانبين؛ في حين أن الحوار في الانتفاضة السابقة كان مفتوحا، بين الفعاليات الشعبية الفلسطينية وقوى المعارضة، ومعها قوى السلام، في المجتمع الإسرائيلي، ما فتح المجال واسعا أمام خلق تحولات داعمة لهدف الفلسطينيين في الحرية والاستقلال، في حينها.
من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن الفلسطينيين معنيون ببذل جهد أكبر، على المستويين الرسمي والشعبي، لمخاطبة المجتمع الإسرائيلي، ولإيجاد أرضية مشتركة، للنضال ضد المشروع الصهيوني الذي أخذ اليهود والعرب بجريرته.
وفي سبيل إنجاح هذا المسعى الضروري لا بد للفلسطينيين من توضيح أهدافهم وحسم طريقهم، بتركيزها على دحر الاستيطان والاحتلال من الأراضي المحتلة عام 1967، وترشيد مقاومتهم ووسائل كفاحهم، وتعزيز الطابع الشعبي لانتفاضتهم.
ولعل ذلك يمكن أن يساهم في تحرير الشعبين المتصارعين من توظيفات الصهيونية ومن عنصرية إسرائيل وعدوانيتها، والتخلص من دوامة العنف الدامي والصراع الأزلي، التي لا يعرف أحد إلى أين يمكن أن يصل بهما، وبالمنطقة عموما.