عندما يتحدث أحد عن الدور اليهودي في الحرب الاميركية ضد العراق، فإن التهمة الجاهزة هي انه لا سامي، عنصري ومعادٍ لليهود والصهيونية واسرائيل بالفطرة. وعندما تنشر أي صحيفة في العالم مقالة انتقادية كذلك، تضطرها المؤسسات الصهيونية واليهودية في العالم للتراجع وتقديم الاعتذار. ومع ذلك ثمة في اسرائيل من يتحدثون عن ذلك بصراحة
. وبين هؤلاء آري شافيت، في صحيفة <<هآرتس>> الذي قدم لمقالته (تجدونها في صفحة اخرى من صفحات "المشهد الاسرائيلي" - المحرر) على النحو التالي:
<<ولدت الحرب في العراق في أذهان خمسة وعشرين من المثقفين المحافظين الجدد، وغالبيتهم من اليهود، الذين حثوا الرئيس بوش على تغيير التاريخ. وبين أفراد هذه المجموعة اثنان من الصحافيين وهما بيل كريستول وتشارلز كورتهايمر، الواثقان من إمكانية تحقيق ذلك. أما الصحافي الثالث، توماس فريدمان، فإنه أكثر تشككا>>.
والواقع ان الكثير من اليهود الاميركيين وبعد ان تبين ان الحرب على العراق لا تسير باليسر والسهولة التي كانوا يتوقعون، باتوا يدركون ان تعقد الحرب قد يعيد اليهود الى <<لعب دورهم التاريخي>>، وهو دور الضحية. اذ ان الكثيرين سوف يوجهون لهم أصابع الاتهام. وهناك من يعتقد ان هذا الاتهام سوف ينصبّ على رأس اليهود سواء كسبت الولايات المتحدة الحرب أم خسرتها.
والواضح انه، حتى مع بدء الحديث عن <<خريطة الطرق>> وقبل انتهاء الحرب، شرع العديد من الساسة والمعلنين الاسرائيليين في الحديث عن الآثار المتوقعة لهذه الحرب على اسرائيل من الناحية السلبية. ورغم ان الحكم الاسرائيلي يرفض منطق هؤلاء، إلا ان مجرد الحديث عن ذلك يوضح مقدار التردد. فاليهود الاميركيون، ومنذ أسابيع، يشيرون للقيادة الاسرائيلية بأنهم الآن، أعجز من أي وقت مضى، عن مجابهة الادارة الاميركية، ان قررت السير وفق خطة <<خريطة الطريق>>. ولكن هؤلاء والحكومة الاسرائيلية يعتمدون أكثر ما يكون على ذلك التحالف الجوهري العميق القائم بين اليمين الاسرائيلي المتشدد واليمين الاميركي المحافظ. وهم يثقون بأن هذا التحالف الذي يشكل اليهود من المثقفين الاغلبية الساحقة من مثقفيه، كفيل بدرء المخاطر عن اسرائيل، حتى تلك الكامنة في <<خريطة الطريق>>. وفي هذا السياق ثمة أهمية بالغة لحقيقة ان الغالبية من مجموعة الخمس وعشرين شخصية مثقفة، هم من اليهود.
وفي هذا الصدد تجدر الاشارة الى ان اليمين الاميركي المحافظ، كما اليمين الاسرائيلي المتشدد، يرى الواقع من منظار رؤيته الخاصة التي لا تأخذ بالحسبان الشعوب العربية وأمانيها. ولذلك ثمة أهمية بالغة لإشهار <<الحاكم الاداري>> الاميركي الجنرال جاي غارنر ولاءه لإسرائيل وتأييده للوسائل التي تستخدمها في قمع الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع. وتزداد هذه الاهمية مع إعلان جيمس ويسلي المرشح للعب دور بارز في الادارة الاميركية للعراق حول ضرورة مواصلة هذه الحرب ضد كل من ايران وسوريا وباقي المنظمات الاسلامية.
ومن شبه المؤكد ان اليمين الاميركي المحافظ يؤيد مشاركة اسرائيل في العمليات اللاحقة ضد كل من سوريا وايران، والاهم، لتصفية الحساب مع السلطة الفلسطينية. ولهذا السبب فإن الخطة الاميركية الجديدة بتشكيل نظام حكم موال لأميركا في العراق يهدف اولا وقبل كل شيء الى إبرام سلام مع اسرائيل يرفع من مستوى الهدف الاميركي الى تحويل العراق ليس فقط الى قاعدة انطلاق ضد كل الدول العربية، وإنما تحويله ايضا الى أداة لقمع الانظمة والشعوب العربية.
والحقيقة ان أهدافاً من هذا القبيل توحي، ومنذ اللحظة الاولى، بأنه لا حاجة البتة للتمعن كثيراً وقراءة ما بين السطور. اذ ان الكلام واضح، والخطة واضحة وهي استعباد المنطقة وشعوبها لمصلحة اسرائيل. ومن الجلي ان أهدافاً كهذه مستحيلة التحقيق، وان تحققت لا يمكن الاعتماد على استمرارها لفترة طويلة. وهذا يعني ان المخططين اليهود الذين يشكلون أغلبية منظري اليمين الاميركي المحافظ يراهنون على إعادة استعمار المنطقة العربية وعلى ترسيخ دعائم الامبراطورية الاميركية بوجهها اليهودي في العالم.
غير ان هذه الاهداف، وهذه الخطة، تواجه في الواقع مشكلة جوهرية، وهي ان شعوب العالم، وفي مقدمتها الشعوب العربية، ترفضها. والاهم ان مقاومة هذه الخطة سوف تزداد بمقدار اتضاح معالم هذه الاهداف. وعدا ذلك، فإن هذه الخطة غير مقنعة حتى للقائمين عليها الذين يضطرون الى تغليفها بأثقال من التبريرات والاغطية من أجل تسهيل تمريرها.
وقد ثبت في العراق <<المجزأ والمشرذم>> بطوائفه وقواه ان مقاومة هذه الخطة كانت ومنذ البداية شديدة. ومن المؤكد ان هذه المقاومة ستزداد شراسة عندما يتضح اولا لجميع العراقيين ان هذه الخطة تستهدفهم جميعا، وان أحداً لن يستفيد منها. وسوف تتعاظم هذه المقاومة ايضا عندما يدرك العراقيون انهم باتوا يدافعون حتى عن آخر جانب تراثي وإنساني ليس في العراق وحسب، وانما كذلك في كل قطر عربي وفي العالم بأسره.
قد ترضي الحرب الاميركية على العراق الآن بعض نفوس تأذت في النظام العراقي. ولكن هذا الرضى لن يطول كثيراً. فالاذى البليغ للعراقيين هو ذلك الذي سيحدث عندما يشعرون بان أميركا وبريطانيا أزاحتا نظاما يمقته جزء من الشعب لتحلا مكانه نظاما يمقته كل الشعب. فأميركا، في عهد المحافظين الجدد، تريد من جميع العراقيين، من جميع العرب، ومن جميع المسلمين ان يكونوا مجرد عبيد. وهذه هي المرة الاولى في التاريخ التي ينظر فيها <<المثقفون>> لعبودية حقيقية تحت اسم <<حرية العراق>>.
(السفير، بيروت، 7/4)