ايهاب بسيسو
لم تتوقف المحاولات الاسرائيلية لاختراق الرأي العام العربي من خلال وسائل الدعاية السياسية، لم تتوقف منذ ان تم اعلان قيام الدولة العبرية في عام 1948، بل تنوعت سبل هذه الدعاية لتشمل كل الوسائل الاعلامية الاسرائيلية القادرة على ايصال الرسالة السياسية للدولة العبرية بهدف خلق مفهوم جديد للصراع العربي الاسرائيلي، لا سيما في صفوف جيل <<ما بعد النكبة>>.
ومع انطلاق الثورة المعلوماتية على شبكة الانترنت في أواخر القرن المنصرم، وانفتاح المجال الالكتروني على مصراعيه امام هذا النمط الجديد من التكنولوجيا الاعلامية، مضت الجهات الاسرائيلية قدما في سياستها الاعلامية نحو العالم العربي المحيط فتم انشاء العديد من المواقع على الانترنت بمختلف اللغات المحكية بما في ذلك اللغة العربية بغية نشر الدعاية السياسية الاسرائيلية ضمن اطار مؤسساتي، ولعل من ابرز الامثلة التي يمكن تناولها في هذا السياق هو موقع جريدة (يديعوت أحرنوت) الاسرائيلية، الناطقة باللغة العربية على شبكة الانترنت، فحين انطلقت هذه الصحيفة لم تكن إلا احدى ثمار الخطط الاعلامية الاسرائيلية لفتح نافذة على الوسط العربي المحيط، من خلال بث المنظور السياسي الاسرائيلي بثوب عربي، فالأخبار والمقالات والآراء الاسرائيلية الواردة باللغة العربية تعطي انطباعا اوليا بحيادية هذه الصحيفة وموضوعيتها الصحافية في التعاطي مع القضايا العربية ولا سيما الفلسطينية، ولكنها في الوقت ذاته تمارس سياسة تكريس المصطلحات التي يرفضها الرأي العام العربي، وذلك من خلال التغطية الاخبارية او المقالات التحليليلة والنقدية للحالة السياسية ومنها نعت صور المقاومة الفلسطينية بالارهاب على سبيل المثال، وما إلى هنالك من اشتقاقات في المعاني وتحوير في المصطلحات، غايتها محاولة خلق استيعاب جديد للقضية تمهيدا لتقبل المنظور الاسرائيلي، وهذا ما يمكن إدراجه تحت صورة من صور الدعاية السياسية الاسرائيلية، حيث ان الصحيفة تحاول نشر هذه الدعاية ضمن باقة اوسع من الاخبار الدولية الاخرى، إمعانا في الترويج لهذه المساحة من <<الحيادية المزعومة>>، من جهة، ومحاولة استمالة القارئ العربي لهذه المساحة من جهة اخرى.
إن سياسة هذه الصحيفة على الانترنت لا تشكل بالضرورة هذا الخطر الاعلامي في الوقت الآتي حيث إنها ما زالت في طور كسب قاعدة اوسع من القراء العرب، إذ يمكن للبعض اعتبارها مساحة اضافية لنقل الاخبار وتطورات الاحداث في المنطقة، لا سيما ان الصحيفة تتمتع بخدمة الاخبار العاجلة على مدار الأربع والعشرين ساعة.
لكن بالنظر إليها كمحاولة اسرائيلية جادة لاختراق الوسط المحيط إعلاميا يمكن حينئذ الخشية من تطور المحاولة مع الوقت لتشكل حلقة اوسع من حلقات الاختراق الاعلامي الاسرائيلي، التي امتدت ليس فقط عبر الانترنت، بل وفي الاذاعة والتلفزيون ومؤخرا على الفضائيات حيث تم اطلاق الفضائية الاسرائيلية الناطقة باللغة العربية منذ اشهر عدة. إن اختيار هذه الصحيفة التوجه للقارئ العربي من خلال لغته العربية هو عامل اساسي لترويج الدعاية السياسية الاسرائيلية ومن ثم استقطاب هذا القارئ لمتابعة نتاج الصحيفة من اخبار وتحليلات وآراء، وهذا ما يدفع للقول إنها محاولة لتشتيت الرؤية العربية الشعبية حول القضايا التي تمس الاستقرار الأمني والسياسي في المنطقة، شأنها في ذلك شأن المحاولات الاسرائيلية الاخرى في هذا المجال.
ولسنا هنا بصدد قياس نجاح هذه المحاولات، فبتقديري ان مقياس نجاحها او فشلها يعتمد على ثلاثة عوامل رئيسية هي: اولا: حجم الحرية الاعلامية المتاحة في وسائل الاعلام العربية، لنقل وتحليل تطورات الاحداث السياسية، بما يخدم في تشكيل رأي عام عربي متفهم لطبيعة الواقع السياسي. ثانيا: السياسة الاعلامية العربية المضادة لاحتواء حملات الدعاية السياسية الاسرائيلية الموجهة للدول العربية عبر القنوات الاعلامية المتعددة. ثالثا: الوعي الجماهيري العربي اتجاه اساليب الصراع (سياسيا وإعلاميا) وصلابة موقفه المبني على تفهم صحيح ومنهجي للمحاولات الاسرائيلية في هذا الصدد.
أما ما يدعو للقلق في شأن صحيفة <<يديعوت احرنوت>> فهو انزلاق بعض الأقلام العربية، سواء أكانت اقلام كتّاب او قرّاء للكتابة ضمن ابواب هذه الصحيفة، بحيث اصبحت باقة من اقلام فلسطينية ومصرية ولبنانية وحتى سورية وخليجية...، هذا الانزلاق لا يمكن تفسيره في أي حال كاختراق عربي معاكس، لأنه بتقديري لا ينطوي على سياسة مواجهة إعلامية، بقدر ما هو تطلعات فردية لا تعكس بالضرورة الرؤية العربية بشموليتها، ولكنها تمثل الى حد ما وحدة قياس للجانب الاسرائيلي لجس نبض الحال العربي. وتعطي انطباعا اوليا بإمكانية تجاوب الرأي العام العربي مع ما تقدمه وسائل الاعلام العبرية.
لهذا فإن نجحت محاولة صحيفة <<يديعوت احرنوت>> في إفساح المجال لبعض اقلام كتّاب وقرّاء عرب للكتابة في باب <<آراء الضيوف>>، فهذا معناه بداية نجاح المحاولة لفتح نافذة اخرى على العالم العربي. هذه النافذة التي إن لم يتم ادراك مدى اهميتها وجديتها بالنسبة للجانب الاسرائيلي، فستشكل قطعا بداية لنوافذ اخرى ربما لصحف ووسائل اعلامية عبرية اخرى كي تقتحم المجال العربي لتروّج للدعاية السياسية الاسرائيلية، والتي تنشط كل يوم عن ذي قبل.
وبرغم ان الآراء الواردة على لسان كاتبيها في الصحيفة تحمل في بعضها رنّات معارضة وانتقاد مباشر للسياسة الاسرائيلية او حتى لبعض السياسات العربية، فما هي في الواقع إلا استطلاع رأي مجاني، إن جاز التعبير، يقدمه من يكتب في هذه الصحيفة للجانب الاسرائيلي. فبتقديري ان الخطة الاسرائيلية في هذا الصدد لا تعتمد كثيرا على طبيعة ما يكتب او مدى حدته ولو مرحليا بقدر ما تعتمد على فعل الكتابة نفسه ضمن هذه الصحيفة، لغايتين هما: استدراج عدد اكبر من الكتّاب او القرّاء للكتابة من خلال تنوع المادة المنشورة والتي تطال في بعضها السياسة الاسرائيلية بالنقد. وثانيا، لاستطلاع نوعية الرؤية العربية حسب التطورات السياسية في المنطقة.
وهذا ما يدفع للإشارة في الوقت نفسه إلى ان الكتابة باللغة العربية عبر صحيفة اسرائيلية لن تصل في النهاية للقارئ الاسرائيلي، إن كانت الغاية إسماع الطرف الآخر وجهة النظر العربية كما قد يُظن، بل للقائمين على هذه الصحيفة، ومن ثم الى الدوائر الاعلامية والسياسية الاسرائيلية المتخصصة بالشأن العربي، والتي غايتها فتح قنوات اتصال مباشر او غير مباشر مع الجمهور العربي، بهدف توسيع دائرة استيعاب المنظور الاسرائيلي. وللتأكيد على هذا، فإن موقع الصحيفة على الانترنت موجه للناطقين باللغة العربية، وليس للاسرائيليين، لذا فإن هذه الاقلام العربية تُثبت للقائمين على الموقع بداية نجاح خطتهم في استقطاب اقلام وآراء عربية، لا سيما ان قائمة من يكتبون فيها من العرب تأخذ في الازدياد. وهذا ما يدفع للاشارة بخطورة الموقف، إذا تم الأخذ بالحسبان ان الموقع ينشط إعلاميا وإخباريا في ظل تصاعد أحداث الانتفاضة الحالية.
من جانب آخر، لم يدل شيء على ان الآراء والمقالات العربية في زاوية <<آراء الضيوف>> تم اقتباسها مثلا من مواقع او حتى صحف عربية ولصقها بالصفحة، وهذا ما يعزز ان هؤلاء الذين يكتبون قد بعثوا بآرائهم خصيصا بغية نشرها في موقع الصحيفة على الانترنت.
لذا فباعتقادي ان من المبكر جدا <<الانزلاق>> نحو مربع الطرف الآخر، لا سيما أن فصول المعركة السياسية لم تحسم بعد، بل إنها تتأزم وتتعقد اكثر بشكل لا يوفر مجالا لحوار سياسي من شأنه خلق مناخ مستقر نسبي على الأقل، لذا يصبح واجبا على اصحاب هذه الاقلام التعامل بمسؤولية مع الواقع السياسي والتوقف عن تقديم ما يمكن تسميته <<الخدمات المجانية>> للطرف الاسرائيلي في هذه الظروف بالذات، بوعي منهم لذلك، او من دون وعي او إدراك.
هذا اضافة الى ان دور صحيفة <<يديعوت احرنوت>> على الانترنت باللغة العربية تجاوز في دعايته استقطاب اقلام عربية من خلال مساحة الحرية <<المزعومة>> بل امتد ليشمل وسائل اخرى تعمل على تثبيت قناة اتصال مع الرأي العام العربي، فضمن تخطيط الموقع يمكن للقارئ العربي على سبيل المثال التعقيب على الاخبار الواردة او حتى المقالات الاخرى، من خلال زاوية <<أرسل ردك>> في اسفل كل مقال او خبر تفصيلي، لا سيما إن كان يتعلق بعمليات فدائية، او اغتيال او اعتقال لناشطين من فصائل فلسطينية، او هدم منازل او حتى أخبار اجتياحات اسرائيلية للمناطق الفلسطينية.
إن الاهتمام بمعرفة رد فعل الرأي العام العربي من خلال وسيلة اعلام اسرائيلية كـ <<يديعوت احرنوت>> لا يمكن اعتباره اهتماما بريئا بالمطلق، بل هو اهتمام ينصب في خانة قياس درجة تفاعل الرأي العام العربي مع تطورات احداث المنطقة. حتى وإن كان لا يخلو خبر او مقال من ردود عربية تُعقب عليه، سواء انقسمت الى ردود مهاجمة او منتقدة، او ردود اقل حدة في انتقادها او مهاجمتها للسياسة الاسرائيلية.
من جانب آخر، تحرص الصحيفة بشكل دوري على إجراء الاستفتاء الالكتروني كوسيلة اخرى لمراقبة الرأي العام العربي، من خلال اسئلة تمت صياغتها بأسلوب يحقق مصلحة الصحيفة ومن ثم جهات إعلامية إسرائيلية مسؤولة، لمعرفة رد فعل الشارع العربي في خضم احداث سياسية معينة تعصف بالمنطقة، وإذا تم الافتراض أن نتائج هذه الاستفتاءات قد لا تكون دقيقة بالمعنى التقني، فإنها بالرغم مما تحمله من توجه تعكس ولو بشكل ضئيل على الأقل تجاوب الردود العربية مع الاسئلة الاسرائيلية، مما يلبي طموح الصحيفة في استنباط او توقع اي رد فعل للرأي العام العربي. والدليل على ذلك هو بعض الاسئلة التي اختيرت من ارشيف الصحيفة الالكتروني وحجم التفاعل معها عربيا.
ففي الرابع من ايار 2002، طرحت الصحيفة سؤالا نصه: <<اسرائيل كدولة للشعب اليهودي مقبولة عليك؟>> وأفردت للسؤال اربعة اختيارات هي <<نعم كبقية الدول. فقط بعد الانسحاب الى حدود 67. فقط بعد سلام شامل مع الدول العربية. لا>>.
وكانت نتيجة الاستطلاع من خلال المشاركات التي بلغت (3760) مشاركا، كالآتي: 14%، 18%، 16%، 52% على التوالي.
ويكفي للتنويه ان هذا السؤال قد جاء بعد مرور اقل من شهر على اجتياح الضفة الغربية في 29 مارس، وحصار مقر عرفات، ومجزرة جنين في نيسان.
فبتقديري ان حجم المشاركة والنتيجة ما كانت إلا <<وحدة قياس>> لنبض الرأي العام العربي، لمعرفة مدى حجم تأثير الأحداث الأخيرة على نظرته نحو الدولة العبرية. ومع ان 52% تجاوبوا مع السؤال (بلا)، إلا انه برغم الأحداث بقي هناك 14% تجاوبوا مع السؤال (بنعم كبقية الدول)، برغم وجود خيارات اخرى تحقق المصلحة العربية في الصراع، كخيار (فقط بعد الانسحاب الى حدود 67) مثلا.
كذلك سؤال آخر في العاشر من حزيران 2002 نصه: <<دور حزب الله أمام اسرائيل: مهم جدا. ايجابي. لا مكان له. سخيف. سلبي>> حيث بلغت نسبة المشاركين (1518)، ليؤكد 77% ان دور حزب الله مهم جدا، 10% انه ايجابي بينما 2% يعتقد انه لا مكان له، و7% على انه سخيف، و5% على انه سلبي.
هذا السؤال جاء بعد محاولات حزب الله تصعيد <<الجبهة الشمالية>>، لتخفيف وطأة ظروف الاجتياح على الفلسطينيين، لمعرفة مدى استيعاب الشارع العربي لدور حزب الله، وما لهذا من دلالات سياسية في رسم خارطة المنطقة السياسية.
من جانب آخر، وفي خضم الحديث عن إصلاحات في السلطة الفلسطينية، طرحت الصحيفة سؤالا آخر في 29 آب 2002، نصه: كيف تحبذ نظام الحكم في فلسطين مستقبلا؟: رئاسي. برلماني. ملكي. جمهوري. اسلامي. كما هو الآن. حيث بلغت نسبة المشركين (2994)، بنسب مئوية: 5% و20% برلماني، 70% جمهوري اسلامي، 3% كما هو الآن.
إن هذا السؤال بتقديري هو من اهم الاسئلة الاسرائيلية التي تسعى إلى مراقبة الوعي السياسي لدى الفلسطينيين لتحديد ملامح نظام الحكم الذي يريدونه مستقبلاً، وبناءً عليه كيف يمكن للخارطة الفلسطينية السياسية ان تتشكل بما قد يتلاءم مع الرؤية السياسية الاسرائيلية او لا. وبالتالي تصبح الرؤية الفلسطينية العربية وحدة قياس لتحرك سياسي اسرائيلي في اطار نهج مواجهة او نهج حوار. أما اختيار (جمهوري اسلامي) بما في هذا الاختيار من تفاوت في المعنى والتطبيق في شقيه كجمهوري من جهة وإسلامي من جهة اخرى، فإنه يبقى احد اهم الاستفتاءات الاسرائيلية التي تبحث في رد فعل الفلسطيني والعربي اتجاه السياسة الاميركية بعد احداث 11 سبتمبر وما ترتب عليها من تغيير على الساحة السياسية الدولية، لا سيما على الساحة العربية وخاصة في المناطق الفلسطينية، ومن ثم مدى استيعاب الرأي العام العربي والفلسطيني لطبيعة حكم اسلامي في فلسطين. على صعيد آخر، فقد واكبت الصحيفة موضوع مياه نهر الوزاني، بسؤال استفتاء في 7 تشرين الاول 2002، نصه: <<كيف ستنتهي ازمة نهر مياه الوزاني بين لبنان وإسرائيل؟: بحرب تسوية سياسية لن يطرأ اي تغيير ملموس>>.
لم يتجاوز عدد المصوتين على هذا الاستفتاء الألف حيث بلغ (983)، ولكن 26% من المصوتين كانوا قد تجاوبوا مع خيار الحرب، و20% مع خيار التسوية السياسية، بينما 54% اعتقدوا بأنه لن يطرأ اي تغيير على الحالة السياسية.
ما يمكن قوله من خلال عرض اسئلة الاستفتاء انه بالنظر لطبيعة هذه الاسئلة والاختيارات المصاحبة لها يصبح من البديهي الاستنتاج بمدى حرص واهتمام الجانب الاسرائيلي بمعرفة ما يتلاءم مع تطلعاته وحساباته السياسية، وتوقعاته ايضا لردود فعل الشارع العربي. هذا الذي هو جزء مما قد يسمى <<حرب الرأي العام>> في المنطقة.
ولكي لا يصبح الجانب العربي في موقع المتلقي او المستهدف دائما، فإن هذا التوجه والتخطيط الاسرائيلي قد يدفع بشكل مضاد للاستفادة من هذه التجربة، ربما بالتخطيط بشكل مؤسساتي لمواقع عربية باللغة العبرية، لمواجهة السياسة الاعلامية الاسرائيلية، وممارسة ما يمكن وصفه حينئذ بالاختراق الاعلامي المضاد. وبالتالي يصبح من الممكن لمن يرغب في مراسلة هذه المواقع بالآراء والمواقف والمقالات ايضا كي تتم ترجمتها للعبرية ومن ثم نشرها ضمن خطة مدروسة بدلا من الدوافع الذاتية التي قد تؤذي اكثر مما تفيد. لذا فلتكن المسؤولية الفردية العربية اتجاه الحالة السياسية أرقى من مجرد الانزلاق للكتابة في صحيفة عبرية، او للتصويت على اسئلة استفتاء الرأي التي لا تعكس سوى مقدار الهواجس والاستفتاءات الاسرائيلية في ما يتعلق بسياسة المنطقة، مما قد يساعد في زرع فتيل البلبلة السياسية في الرأي العام العربي.
() كاتب وإعلامي فلسطيني
(عن "السفير"، بيروت)