المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بعد جولة واسعة شملت بولندا وسان بطرسبورغ وايفيان وشرم الشيخ، ختم الرئيس الاميركي جورج بوش اجتماعات القمم السريعة بقمة "خريطة الطريق" في العقبة.

وكان من المتوقع ان تعقد القمة الأخيرة في "شرم الشيخ" لولا اعتراض ارييل شارون على المعاملة المهينة التي يلقاها المسؤولون الاسرائيليون في مصر. واستند في رفضه على واقعة رواها له ايهود باراك عندما وصل الى "شرم الشيخ" للاشتراك في مؤتمر استثنائي اعده الرئيس بيل كلينتون في خريف 2001. ويدعي باراك ان رجال الأمن المصريين صادروا هاتفه الخلوي ومنعوا سكرتيرته ومرافقيه من مغادرة غرفهم. وخشية ان تتكرر هذه المعاملة معه، اقترح شارون ان يكون اللقاء في العقبة، خصوصاً ان موقف الأردن من الحرب على العراق كان اكثر تعاطفاً مع واشنطن من موقف مصر.

مصادر الإدارة الاميركية تقول ان الرئيس بوش كان متوازناً في تعامله مع مصر والأردن وذلك من خلال اعطاء كل دولة منهما دوراً يخدم أهداف التسوية السلمية. ومع ان البيان العربي الذي صدر عن قمة "شرم الشيخ" لم يكن منسجماً مع البيان الاميركي بشأن التطبيع مع اسرائيل، إلا انه اعطى السلطة الفلسطينية دعماً يمكن ان يعين أبو مازن على تحقيق المطالب الصعبة. وهكذا ترك الرئيس الاميركي للعاهل الأردني دور الشاهد الأخير على قضية فشل سلفه بيل كلينتون في حلها بعد 22 اجتماعاً مع ياسر عرفات. وبدلاً من ان يتجنب عرفات احراج أبو مازن في وقت الاحتفال بتكريس قيادته اقليمياً ودولياً، اطلق سلسلة تصاريح ركز فيها على شجاعة جورج بوش الأب، الذي أجبر اسحق شامير على تقديم تنازلات في مؤتمر مدريد (تشرين الأول/ اكتوبر 1991)، وربما أراد تذكير شارون وبوش الإبن بأن تجاهله لا يمنع الاعتراف بأنه هو الذي وافق على تعيين أبو مازن رئيساً للوزراء، وبأنه هو الذي أمنّ له مصادقة اللجنة التنفيذية.

اختيار موقع القمة الثلاثية في "العقبة" وجد قبولاً فورياً لدى الرئيس بوش لأنه في نظره، مثل منتجع "كامب ديفيد"، يوفر للفريقين المتفاوضين العزلة المطلوبة لاتخاذ قرارات جريئة. وبسبب هذا الاختيار اصبح اسم المنتجع الأردني النائي مصدر اهتمام كل وسائل الاعلام المكتوبة والمرئية، علماً أن وجوده على الطرف الشمالي من البحر الأحمر، أعطاه خصوصية جغرافية كانت تميزه حتى قبل انشاء إمارة شرق الأردن. ولقد قفز اسم "العقبة" الى العلن أول مرة يوم احتلها الأمير فيصل نجل الشريف حسين في تموز (يوليو) 1917، عندما كان قائداً للجيش العربي الثائر على العثمانيين. وفي مناسبة اخرى اختارها الأمير فيصل صيف 1918 ليجتمع بحاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية الذي حدثه عن دولة تتسع للعرب واليهود في فلسطين.

وفي سنة 1960 قرر الملك حسين ان يجعل من "العقبة" استراحته المفضلة، فكان ينتقل اليها مع الملكة منى بالمروحية. ولما طلب من شركة صينية شق طريق برية تصل هذا المنتجع بعمان، اكتشف ان اسرائيل ضمت جزءاً من الأراضي الأردنية قرب وادي عربة. وتدخلت واشنطن لترسيم الحدود بين البلدين على نحو ضمن لعمان استعادة الدونمات المسروقة.

بعد مرور 85 سنة على الاقتراح الذي عرضه وايزمان على الأمير فيصل بن حسين في "العقبة"، طرح شارون هذا الاسبوع في الموقع ذاته، الفكرة التي قدمها ثيودور هيرتزل سنة 1895 حول انشاء "دولة اليهود". ولقد استخدم يومها مؤسس الصهيونية صيغة التخصيص كدليل على قناعته بأن الاضطهاد سيلازم الشعب اليهودي داخل المجتمعات الأخرى. ولهذا تعمد استخدام مصطلح "دولة اليهود" لكي يؤكد ضرورة ايوائهم في "غيتو" كبير معزول عن أجواء الاختلاط والتعددية الاثنية وكل ما يميز سائر الأوطان. ويُستفاد من الطرح الذي قدمه شارون في القمة الثلاثية أنه عازم على إلغاء فكرة وايزمان القائل بدولة لشعبين واستبدالها بفكرة هرتزل المطالب بدولتين مستقلتين لشعبين مختلفين في الدين واللغة والثقافة والتاريخ. ويرى المراقبون ان الالتزام الذي أعلنه بوش بـ"الحفاظ على أمن إسرائيل كدولة يهودية نابضة بالحياة"… هذا الالتزام لم يكن بلاغياً منمقاً بقدر ما كان خطوة خطرة تعزز موقف إسرائيل. ومعنى هذا أن الرئيس الأميركي أضاف على وثيقة "خريطة الطريق" التي قدمها في كانون الأول (ديسمبر) 2002 بنداً جديداً مثيراً للقلق والتساؤل. والسبب أن هذا البند "الملغوم" سيؤدي إلى تفجير نزاع طويل حول مشكلتين تتعلقان بالحدود والوجود. ذلك أن الفسلطينيين يناضلون من أجل تنفيذ القرار 242 الصادر بعد حرب 1967. في حين ترفض إسرائيل الاعتراف بحدود ما قبل حرب 1967 وكل ما تضمنه القرار 242 من حق العودة واستعادة القدس الشرقية. وفي رأي شارون أن إسرائيل لن تنفذ القرار 242 وتعطي الفلسطينيين حق تقرير المصير، إذا تنازلوا عن حق العودة. وبما أن التنازل عن حق العودة لأربعة ملايين لاجئ غير وارد، فإن فكرة القبول بـ"الدولة اليهودية" تمنح إسرائيل الحق في طرد مليون فلسطيني ورفض استقبال لاجئي 1948.

ومثل هذا التحايل على القرارات الدولية يمكن أن يقوض "خريطة الطريق" ويعرض مشروع السلام للفشل والانهيار.

يقول الفلسطينيون إن مشروع "خريطة الطريق" لا يتحدث عن دولة يهودية، بل عن دولتين مستقلتين تعيشان جنباً إلى جنب بسلام وأمن. ويبدو أن اسحق رابين حاول ادخال نص في اتفاق أوسلو يتحدث عن إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي. ولكنه تراجع عن اقتراحه بعدما هددت القيادة الفلسطينية بالانسحاب. والمؤكد ان شارون نجح في إثارة اهتمام إدارة بوش إلى هذه المشكلة بدليل أن جميع المسؤولين حملوا الفكرة على محمل الجد. ففي جامعة كنتاكي تحدث وزير الخارجية كولن باول عن دور الفلسطينيين في إزالة المخاوف والشكوك من عقول الإسرائيليين، وذلك عن طريق القبول بدولة إسرائيل كدولة يهودية. وكررت من بعده هذا الكلام كوندوليزا رايس، مستشارة الأمن القومي، في حديث إلى جريدة "يديعوت أحرونوت" قالت فيه: "نحن ملتزمون تحقيق حلم الدولتين وبناء شرق أوسط مغاير للواقع الذي كان من قبل. إسرائيل ستكون دولة يهودية، وأمنها هو المفتاح لأمن المنطقة والعالم (…)!". وفي الكلمة التي ألقاها الرئيس بوش يوم الأربعاء الماضي، ظهرت النية الخفية لتثبيت هذه الرؤية السياسية الخطرة، ولكي يبعد وزير خارجية إسرائيل سلفان شالوم هواجس الشكوك العربية عن دور الرئيس الأميركي، ادعى بأنه هو شخصياً طلب إضافة فقرة "دولة اليهود" إلى البيان الرسمي. ولكنه استدرك معلقاً: "انه الانجاز الأبرز في قمة العقبة".

من المتوقع ان يثير مصطلح "دولة اليهود… أو دولة لليهود"، اعتراض المتنورين في الأحزاب اليسارية والعلمانية التي نادت دائماً بدولة ديموقراطية تعددية.

وفي هذا السياق كتب المعلق جدعون ليفي افتتاحية في "هآرتس" يحذر فيها من خطورة مقايضة الأمن بالعنصرية. وقال ان هذا التوجه يؤسس لمجتمع عنصري "ابرثايد"، مجتمع غير عادل لا يرى في الشعوب الأخرى إلا أصولها. وكان من المنطقي ان يقود هذا الجدل الى مراجعة الأهداف التي من أجلها وجدت اسرائيل: فريق يؤيد فكرة شارون بأن الهدف الرئيسي هو توفير مكان آمن يلجأ اليه اليهود المضطهدون ووضع حد لقتلهم على الهوية. وفريق آخر يطالب بعودة الحياة الطبيعية الى دولة بين الدول، تتخلص من الهوية اليهودية الانعزالية الانفصالية بحيث يصبح شعبها واحداً من الأسرة الدولية. والملفت ان الصيغتين لم تبلغا الأهداف المنشودة بدليل ان العداء للسامية ازداد، وان اليهودي ما زال يبحث عن مكان آمن وسط دولة يهودية عنصرية.

لاحظ الصحافيون في قمة "العقبة" ان بيان محمود عباس جاء خالياً من أي كلمة قد يعتبرها الوفد الاسرائيلي استفزازية أو نابية. لذلك اختار للمناسبة القليل القليل مما جاء على لسانه في المجلس التشريعي الفلسطيني. ولقد امتدحه على هذه الديبلوماسية محرر الشؤون العربية في التلفزيون الاسرائيلي ايهود يعاري، وقال ان مراسم الاحتفال شهدت "دفن الانتفاضة" وأن حديث أبو مازن عن "آلام الشعب اليهودي لم يكن أكثر من دعوة لإرضاء الاسرائيليين على خلفية انكاره المحرقة". وكان بهذا التلميح المبطن يشير الى "الاستجواب" الذي تعرض له أبو مازن بواسطة بعض المحررين المرسلين من قبل "الشاباك". واعترف رئيس وزراء السلطة الفلسطينية بأنه قدم أطروحة الدكتوراه عام 1982في "معهد دراسات الشرق" الذي كان يترأسه يفغيني بريماكوف. ولم ينكر انه اختار موضوع اضطهاد اليهود لعنوان رسالته "الصهيونية والنازية". ولما قيل له انك تشكك في اطروحتك بأرقام الضحايا، أجاب بأن المعهد السوفياتي كان يصنف الضحايا حسب جنسياتهم لا حسب أصولهم الدينية، وأن رئيس المعهد بريماكوف اليهودي المتنور، كان يشجع هذا التصنيف.

وحرصاً على تجاوز تلك المرحلة التي شهدت عذابات الفلسطينيين واللبنانيين تحت احتلال الثنائي المتهور بيغن ـ شارون (1982) وجه محمود عباس كلمة الى الشعب الاسرائيلي جاء فيها: "اننا نريد سلاماً دائماً معكم من خلال المفاوضات وعلى أساس الشرعية الدولية وقراري مجلس الأمن 242 و338 والاتفاقات الموقعة، ونرفض الارهاب من أي طرف كان، انسجاماً مع قيمنا. اننا نمد يد السلام اليكم. ولكن لن يكون هناك سلام مع استمرار الاستيطان. نحن لا نتجاهل عذابات اليهود عبر التاريخ، ونريد ألا يدير الاسرائيليون ظهورهم لعذابات الفلسطينيين من الاحتلال".

هل يكفي هذا الاعتراف لمحو القناعة التي سجلها أبو مازن في أطروحة الدكتوراه، أم ان اسرائيل ستطالبه بتنفيذ "خريطة الطريق" بالشكل الذي تراه مناسباً لوضعها الأمني؟

في اللقاء الثلاثي طالب محمود عباس بفترة زمنية كافية لخلق مناخ شعبي يستطيع من خلاله استثمار قضية السلام، مشترطاً مساعدة شارون عن طريق الافراج عن الأسرى وتفكيك المستوطنات غير القانونية. واعترف أمام الرئيس بوش بأن أجهزة الأمن في الضفة الغربية دمرت تماماً، وأن الخطة الأمنية تتطلب ستة أشهر بحيث يستكمل محمد دحلان عملية التنظيم الجديد. وهو يتوقع من "حماس" ان تمنحه هدنة مشروطة، لأنها رفضت ازالة السلاح قبل زوال الاحتلال الاسرائيلي واعلان الدولة الفلسطينية.

وشارون قرر ان يسهل مهمة أبو مازن لأن نتائج الأشهر الستة المقبلة تساعد جورج بوش على الفوز بولاية ثانية. ولهذا حرص الرئيس الأميركي على التقاط صورة مهيبة يمكن أن يوظفها في انتخابات الرئاسة بصفته أحد صانعي سلام الشرق الأوسط. ويتخوف الديبلوماسيون العرب في واشنطن أن يقوم بوش بتجيير دوره الى شارون إذا اكتشف أن مشروع "خريطة الطريق" يجب أن يدفن الى جانب اتفاق أوسلو...

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة 2003/06/07

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات