المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

الالتفاف الإسرائيلي على التسوية

(حق العودة نموذجاً)

بقلم: ماجد كيالي

تركّز معظم التحليلات السياسية على محاولات إسرائيل التملّص من الاستحقاقات المطلوبة منها في عملية التسوية، منذ أن انطلقت هذه العملية من مؤتمر مدريد (1991)، مرورا باتفاق أوسلو(1993)، وصولا لخطة "خريطة الطريق (2003) "
ولكن التجربة الماضية بيّنت بأن إسرائيل لم تكتف، فقط، بمجرّد التهرّب من استحقاقات هذه العملية، إذ أن استراتيجيتها، على هذا الصعيد، تضمّنت، أيضا، العمل على خلق الوقائع التي تقوّض هذه العملية أو تبدّد قضاياها، لتحويل التسوية إلى مجرّد عملية شكلية لا نهاية منطقية لها.

وإذا تجاوزنا حقيقة أن إسرائيل لم تنفّذ ما عليها، حتى بالنسبة لاستحقاقات المرحلة الانتقالية، وهو ما أدى إلى انهيار المفاوضات واندلاع الانتفاضة (أواخر العام 2000)، فإن القضايا الرئيسة المحالة على المرحلة الأخيرة من المفاوضات، وتشمل قضايا: اللاجئين والقدس والحدود والمستوطنات والترتيبات الأمنية، تتعرّض لانتهاك خطير من جانب إسرائيل، التي تسعى إلى تبديد هذه القضايا أو تعقيدها؛ الأمر الذي ينبغي كشفه ولفت الانتباه إلى آثاره السلبية ومخاطره على مستقبل عملية التسوية ومستقبل الشعب الفلسطيني
وهكذا، مثلا، شهدت مرحلة التسوية (1991 ـ 2000) تضاعف حجم الاستيطان والمستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والسعي المحموم لتهويد مدينة القدس، وفي هذه المرحلة، أيضا، تعمدت إسرائيل شقّ الطرق الالتفافية المحيطة بالمستوطنات، التي تحولت إلى معالم لمسار الجدار الفاصل، الذي يجري بناؤه منذ عام، لتعيين حدود الكيان الفلسطيني والتضييق عليه ووضعه تحت رحمة السيطرة الإسرائيلية.

أما قضية حق العودة للاجئين الفلسطينيين، والتي تعتبر القضية الأكثر استعصاء في عملية التسوية، فقد تعرضت بدورها، في مرحلة التسوية، لحملة إسرائيلية شعواء، لم تقتصر على مجرد الرفض المطلق لأي حل يتضمن تنفيذ هذا الحق داخل أراضي إسرائيل، وإنما شملت العمل على تضييع هذا الحق، عبر تعقيده وتفكيكه وتذويبه، وفق خطة إسرائيلية دؤوبة ومبرمجة، يمكن تبيّن ملامحها في النواحي التالية:

1 ـ الضغط على القيادة الفلسطينية لدفعها نحو الاعتراف بالطابع اليهودي لدولة إسرائيل. والهدف من ذلك حصر حق العودة للاجئين الفلسطينيين بالدولة الفلسطينية (المفترضة). والمشكلة أن إسرائيل ترفض حتى اعتبار "العودة" للدولة الفلسطينية حقا مطلقا للفلسطينيين، وتشترط التنسيق معها في تحديد أعداد الفلسطينيين، الذين يمكن أن يسمح لهم بالعودة إلى دولتهم، وفي تعيين أماكن توطنهم، محاولة منها لاستغلال هذه المسألة والمساومة عليها!

2 ـ تحاول إسرائيل أن تطرح حلولا غير متوقعة ومربكة، بالنسبة للفلسطينيين، من ضمنها مثلا امكانية"تبادل الأراضي"، بينها وبين الكيان الفلسطيني. وفي هذه الحال فإن إسرائيل تصيب "عصفورين بحجر واحد"، فهي بذلك تحتفظ بأكبر عدد من اليهود في التجمعات الاستيطانية، تحت سيادتها، وتتخلّص من بعض التجمعات العربية كثيفة السكان.
ومن الواضح أن إسرائيل تتوخّى من وراء ذلك قلب قضية اللاجئين، رأسا على عقب، فبدلا من الحديث عن عودة اللاجئين الفلسطينيين تصبح المسألة، الأكثر إلحاحا، تتمثل بالدفاع عن بقاء الفلسطينيين في إسرائيل؛ ما يشكل ضغطا إضافيا على الفلسطينيين، الهدف منه حملهم على التخلي عن حق العودة.

3 ـ من المعروف أن إسرائيل تحاول طرح قضايا الصراع، مع الفلسطينيين، وكأنها صراع بين حقين متساويين! وهذا ينطبق، بشكل اكبر على قضية اللاجئين، إذ أن إسرائيل تدعي أنه ثمة تبادل للسكان / اللاجئين، حصل على خلفية حرب 1948، حيث غادر الفلسطينيون أراضيهم للبلدان العربية المجاورة، وغادر اليهود البلدان العربية، التي كانوا فيها، إلى إسرائيل! وهي بذلك تطمس الفارق بين هاتين المسألتين. أي بين الهجرة الطوعية لليهود، بغرض الاستيطان في فلسطين، وفي إسرائيل فيما بعد، وبين الاقتلاع القسري للفلسطينيين من أراضيهم، والذي تم بوسائل القوة والإرهاب، أو عبر التهديد بهما، والذي نجم عنه تشريد حوالي مليون فلسطيني وتدمير حوالي 400 قرية فلسطينية.

المهم أن إسرائيل تدعي، في كل المحافل الدولية، أنه لديها قضية لاجئين يهود، مقابل قضية اللاجئين الفلسطينيين، وأنه لديها، أيضا، قضية تعويض عن الممتلكات التي تركها اليهود، الذين قدموا من البلدان العربية إليها، مقابل قضية تعويض الفلسطينيين! وفي هذا الإطار أعلن مؤخرا عن قيام تنظيم جديد يدعي «العدالة لليهود القادمين من الدول العربية"، يقوده المؤتمر اليهودي العالمي، ولجنة رؤساء المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة. ويعمل هذا التنظيم على إبراز قضية "اللاجئين اليهود" مقابل اللاجئين الفلسطينيين، والمطالبة بالتعويض عن أملاكهم. وبحسب التقرير فإن عدد هؤلاء حوالي 850 ألف يهودي، وهو عدد يقارب عدد اللاجئين الفلسطينيين (آنذاك)، كما قدر التقرير قيمة أملاكهم بحوالي 100 مليار دولار.

4 ـ ثمة اتجاهات صهيونية متطرفة، تتبنى أطروحة "الترانسفير"، التي لا تتوقف عند تصعيب العيش على الفلسطينيين، في الأراضي المحتلة عام 1967، لإجبارهم، طوعا أو غصبا، على الرحيل منها، وإنما هي تصل إلى درجة حضّ إسرائيل على طرد مواطنيها من الفلسطينيين من أراضيهم في مناطق 48.

والمشكلة أن دعوات "الترانسفير" باتت تلقى قبولا من قبل سياسيين وأكاديميين، غير محسوبين على الاتجاهات المتطرفة، بدعوى الحديث عن ترانسفير طوعي يتم بوسائل ديمقراطية مقبولة!

5 ـ عمدت إسرائيل إلى سن تشريعات تصعّب على الفلسطينيين، الحصول على جنسيتها، متذرّعة بدواع أمنية، ناجمة عن مشاركة بعض الفلسطينيين، من مواطنيها بعمليات فدائية، مباشرة أو مداورة. وقد أقر الكنيست الإسرائيلي، مصلا، قبل أيام، قانونا يحرم فيه الفلسطينيين الذين يحملون جنسيتها من نقل الجنسية لأزواجهم؛ لوقف ما بات يطلق عليه مصطلح "الزواج من هوية" أو "زواج المصلحة". كما باتت تضع قيودا على منح الهوية الإسرائيلية، بدعوى لم الشمل. بحجة أن هذين الأمرين ساهما في تطبيق "حق العودة" من بوابة خلفية، وبدعوى أن عدد الفلسطينيين، الذين استفادوا من ذلك يناهز على ربع مليون، (يديعوت أحرونوت 24/5/2002) منهم حوالي 100 ألف فلسطيني، هاجروا إلى إسرائيل، منذ عام 1993، بواسطة لم شمل العائلات".(هآرتس14/6).
6 ـ عموما فإن إسرائيل تحاول رهن مجمل الاستحقاقات المطلوبة منها في عملية التسوية بتخلّي الفلسطينيين عن حق العودة للاجئين، ففي مجال الاستيطان، مثلا، تطرح إسرائيل فكرة تخلي الفلسطينيين عن حق اللاجئين في العودة لإسرائيل، في مقابل تخلي اليهود عن "حق العودة" للأراضي المحتلة عام 1967! أي حق مقابل حق! أما في موضوع اعتراف إسرائيل بقيام الدولة الفلسطينية، فقد بات هذا الحق، إسرائيليا (وحتى دوليا)، مرهون بإلغاء الفلسطينيين لحق العودة إلى إسرائيل، وبإيجاد حل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، في الأراضي المحتلة عام 1967، وفي مناطق اللجوء والشتات، عبر التعويض عليهم معنويا وماديا وسياسيا، أيضا، وذلك من خلال إقامة دولة لهم ومنحهم هويتها وحق المواطنة فيها.

تلك هي المعادلات السياسية والاستراتيجيا التفاوضية، التي تؤسّس عليها إسرائيل تقويضها لحق العودة، ولغيره من الحقوق الفلسطينية.
ويتّضح من كل ما تقدم بأن الاستراتيجية التفاوضية لإسرائيل، في عملية التسوية، إنما ترتكز على خلق معادلات سياسية جديدة، تمكّنها من التملص من هذه العملية. وأخطر ما في الأمر أن هذه المعادلات لا تقتصر، فقط، على المواقف السياسية أو الادعاءات النظرية، إذ أنها تشمل، أيضا، خلق الوقائع التي تعقّد قضايا الفلسطينيين وتبدّدها. وبهذه الطريقة، مثلا، بات "الجدار الفاصل" (كما النقاط الاستيطانية العشوائية) عقبة في طريق التسوية!

في حين أن الفلسطينيين لا يملكون، إزاء هذا الواقع، شيئا سوى مواصلة الحديث عن التمسك بكفاحهم وبحقوقهم، في عالم يتفرج على ما يجري بغير اكتراث، في معظم الأحوال.

* كاتب فلسطيني يعيش في دمشق

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات