المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

الجدار. إنه المسؤول عن كل شيء. عن انعدام الأمن، والانحدار بقوة للفقر والبطالة، والشعور الثقيل بالاحباط، وصعوبة حل المشاكل المتراكمة كمّا وكيفًا منذ أكثر من ثلاثة عقود، وفشل كل المحاولات للوصول الى حدّ أدنى من الاستقرار. إنه المسؤول الوحيد. ليس أنه مذنب، حاشا وكلا، بل إن غيابه الذي يمنع حلول نعمته الكامنة فيه، هو ما يبقي هذا الصراع على ما هو عليه من هَمّ ودم.

حين تقع عملية مسلحة تبدأ الحسرة تتدافع تلو الحسرة: لو كان لدينا جدار لما وقع ما أوقع من الضحايا. ولو نشب نقاش سياسي لتمحور حول جدوى الجدار وقدراته الخارقة على قلب مجرى الأحداث، مقابل ادعاءات مناقضة تجهد للتقليل من قيمة حديث الخصم. ينفك النقاش وتُرفع السهرة التلفزيونية لتظل حدود الخيال متراوحة بمحاذاة النُّّصب الاسمنتي المشتهى. تتخذ الأمور وضعا أشبه بالصلاة الطوطمية لصنم باطوني مسلّح يكاد عبَدَتُه يقدمون له القرابين لعلّه يُسعف الحال. تغيب السياسة، يُحجب سؤال المسؤولية ويتحيّد الجدل السياسي لينمَسخ كلامًا إسمنتيَّ المضمونِ والشكلِ على السواء. وكأن المتناقشين يعملون في التصميم المعماري لآلهة حديثة، وليس في السياسة.

هذا ما يجري تقريبا في مساحات الجدل الاسرائيلي العام، مؤخرًا. هناك نوع من الغيبية الجديدة تسيطر على العقول. لا يعود الأمر الى غباء أو قصر نظر أو قلة فهم لدى العاملين والعالمين بالسياسة الرسمية طبعاً، بل لأن هذا النوع من الكلام أسهل. انه لا يحتاج الى تحليل. فالعواطف طيّعة أكثر. أصلا، ما هو الأسهل بالنسبة للسياسيين إن لم يكن نزع المسؤولية عن أكتافهم والقائها على من لا يهم من يكون وكيف ولماذا.. في السائد الاسرائيلي باتت هذه هي أصول اللعبة. فحصر المسبب لما يتواصل من حرب غير متكافئة يُعاد فيها إنتاج العنف حماية للمصالح الاحتلالية والاستيطانية ببناء جدار هنا ووضع تجهيزات الكترونية وأبراج مراقبة هناك، هو بالضبط ما يحتاجه شارون. هكذا يغيب النقاش حول القضايا الحقيقية والاساسية والملموسة الى حد الصراخ: احتلال واستيطان ورفض اسرائيلي لاحترام حقوق الشعب الفلسطيني يتم دفع ثمنه بالقاني الأحمر المسفوك، لدى الشعبين.

هنا، في هذه المساحة المريحة التي يلعب شارون وحكومته فيها ينضم لاعبو تعزيز من المعارضة بالذات. فزعماء حزب "العمل" يراكمون الكلام المتباكي على عدم إكمال بناء الجدار. ماذا يعني هذا المنطق؟ إنه يعني أن سياسة شارون لا تشكل السبب الاساس في تواصل حرب سلامة المستوطنات القذرة هذه، ولو أنه بنى ذلك الجدار لأصبح كل شيء في أمن وأمان. وهنا يثير هؤلاء المعارضون أنفسهم الشكوك حول صحة ما يدّعونه من اختلاف عن اليمين وسياسته. وهذا إضافة الى أنهم يساهمون بكل غباء في إطالة عمر حكومة خصومهم.

طبعا قلنا هذا كله ولم نشر بعد الى أن هذا الذي يسمونه "جدارًا أمنيا" ليس سوى صياغة تجسيدية لمطامع المركز السياسي في اسرائيل، بسياسييه وأمنييه، أو لنقل: بجنرالاته الفعليين والمتقاعدين، وهو المركز الذي يتطلع الى فرض تسوية مشتقة من قاموس ما يسمى "المتطلبات الأمنية الاسرائيلية" وليس من أية قاعدة تحفظ التكافؤ والندّية في التعاطي مع قضية الشعب الفلسطيني. لذلك أصاب من أسماه "جدار الأبرتهايد". فهنا نراه يلتف على قلقيلية ليحولها الى سجن واحد كبير. وهناك يقطّع منطقة طولكرم ليعزل العديد من قراها الحدودية في المجهول بحيث يتهددهم الطرد نحو قلب الضفة في كل لحظة. وفي أماكن أخرى يوفّر هذا المشروع هامشًا واسعا للمستوطنين بحيث تظل الفرص سانحة أمامهم للتوسع والنهب والنهش. وفي منطقة القدس يجري بناء شبكة من الجدران، لخلق واقع معقد من شأنه جعل مطلب تقسيم القدس لعاصمتين، كأحد ثوابت التسوية الأساسية، بمثابة أمر مستحيل التطبيق.

هذا النوع من الجدل لا يزال يساهم في تشحيم ماكينة التضليل والكذب الرسمية التي تسحق وعي شرائح واسعة في المجتمع الاسرائيلي. فمن جهة يجري خلق وهم مفاده أن الجدار ما هو إلا خط الحدود نفسها، وهنا يُحضر بعض السياسيين للأذهان مثال لبنان فيلمّح الى "أننا نريد حدّا كما في الشمال". ومن جهة أخرى يصوّر البعض هذا الجدار كما لو كان سدًا أسطوريًا منيعًا مجهزًا بكافة التقنيات الحديثة بحيث سيجري منع دخول ولو ذبابة من خلاله. وهكذا يجري في الحالتين إخفاء الحقائق من أن هذا المشروع يأتي لفرض حقائق ناجزة قبل التفاوض حتى على شكل وآلية التفاوض. وأنه، عملا بنهج ومطامع اليمين المتشدد، يأتي للحفاظ على المصالح الاستيطانية التوسعية المسماة كذبًا "استراتيجية". وأن الجدار ليس حدودًا بل إنه سيتحول عاجلا أم آجلا الى معلم احتلالي استيطاني آخر قد يؤدي الى انفجارات مستقبلية شبه مؤكدة.

بهذا التكتيك يمسحون من الأذهان حقيقة أن ما يتعرض اليه المواطن الاسرائيلي (الذي يدّعون الدفاع عنه) في حياته المهددة ومستوى معيشته الذي يتدهور يوميا، يعود بالضبط الى ما ذُكر للتو من مخططات تجري صياغتها، عبر مشروع الجدار، دون الابتعاد ولو قيد أنملة عما يسيّر النهج الرسمي الاسرائيلي اليوم. فماذا هناك سوى محاولات الالتفاف على الثوابت المعروفة المشتقة من القرارات الدولية القديمة، عبر مراوحة التخطيط والتكتيك والتعنّت في الفضاء الآسن الضيق الذي ترسمه مهاوس الأمن إياه.

أحيانًا يخيّل للشخص أن هناك حالة مرضيّة متقدمة تحكم السياسة الاسرائيلية بوصفها سياسة لا تقوم على العنف فحسب، بل انها تُنتجه ويبدو أنها قد أدمنته أيضًا. هنا يجري الهرب من أية مواجهة مع الواقع ربما لأن أية مواجهة كهذه سيكون من شأنها فرض علامة سؤال استرجاعية باتجاه الماضي القريب لتغطي على معظم ما جرى القيام به حتى الآن، بما في ذلك تحوّل الدفاع عنه وصيانته وتكريسه الى أهداف بحد ذاتها. وبالطبع فان التراجع سيكون اعترافا مجلجلا بخطأ بل بخطيئة ما توهّم قباطنة المؤسسة الاسرائيلية بامكانية استمراره من خلال الاستناد الى رصيد واحد هو القوة، اتضح لاحقًا أنه رصيد غير مضمون لا بل مشكوك في أمره وقد يصير مصيره الى ما نشهده في البورصات أو كازينوهات المقامرة والمضاربات. "بُم"... وانهيار!

في ظل كل هذا والى جانبه، من الممكن القول إن هناك خارطة غير خارطة بوش. إنها "خارطة الطرق المتوازية" التي تحاول حكومة اليمين السير فيها بحيث تبدو كمن تلتزم بالتفاوض الأولي المحدود من هنا، بينما تواصل ترسيم الحدود من طرف واحد هناك بشبكة معقدة من الاسوار والجدران والمنشآت العسكرية القابعة في العمق الفلسطيني. والخشية أن هذه الخارطة المعدّلة احتلاليًا هي التي قد تُفرض إذا لم يجر وقف هذا المشروع فورًا وطرح هذا المطلب كمطلب ملحّ وأساسي. أما ما جرى بناؤه حتى الآن (وهو ليس قليلا بالمرة) فمن الضروري أن يجري في وثائق التفاوض تعريف كل سنتيمتر منه داخل العمق الفلسطيني شرقي حدود 1967 كما يجري تعريف المستوطنات والمعسكرات الاحتلالية: وجود احتلالي غير شرعي ستظل التسوية بتواصله مستحيلة. هذا الجدار هو منشأة استيطانية احتلالية (100%) لا تختلف بشيء عن كل حضور للاحتلال في الاراضي الفلسطينية المحتلة. أما لو استمر هذا الوضع فإن شارون سيصر على بدء التفاوض من هناك. ففي البيت الأبيض هناك كميات رهيبة من مزيج الخبث والغباء بحيث يجعلهم يتبنون ذلك لضرورات "وقف الارهاب" طبعًا.. أما في الشرق الأوسط فقد رأينا جرأة الأنظمة وهي تتصدى لواشنطن عندما حاولت فرض مطامعها بالقوة!..

(حيفا)

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات