المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

نيويورك الواسعة تضيق.

كل شيء في حفل التأبين أنيق، مرتب، قوي ورقيق كحرير لغة ادوارد. ثلاث سلات من الزنبق الأبيض على هيكل الكنيسة تراقب صمتنا وترد الدموع إلى المقل.

بيانو موتسارت يحرض خلايا الروح، و يلحقه تنهد عميق، وأورغان باخ ينظم توزيع العاطفة في العروق ويرمم ما تشظى من حطام القلب.

نيويورك الواسعة تضيق.

لأن نيويورك كانت لي أولآً صوت ادوارد سعيد، نبرته الحادة، نزوله المتثاقل على درجات جامعة كولومبيا، وقهوة سريعة يتخللها توبيخ ما على تقصير معيّن.

بفراسة طفل وذقن مرفوع إلى أعلى وعينين واسعتين، كان ينصت بانتباه، وكأنه يسمع من عينيه. يسأل عن التفاصيل الصغيرة عما يحدث هناك في فلسطين، يتوقف عند ثنايا الكلام، وبسؤاله يوضح لي ما أقول بمجهر بصيرته.

جفاف في الحلق.

يتركنا ادوارد والعالم يناقش بدم بارد اغتيال رئيس فلسطيني منتخب، يقبل باستسلام يحفظ الكرامة، لكنه يرفض الانتحار، والعالم الحر يستكثر عليه أن تكون له ذاتٌ مؤهلة لإعلان هدنة. الفلسطيني يجب أن يغيب لا أن يفاوض. إحساس عام بالخرس.

كان إدوارد سعيد يمتلك قدرة مدهشة على التقاط الأنين الآتي من هناك - من فلسطين - وعلى استحضار نداء العدالة من أعماق أعماقه، وتحويله إلى نغم يحاول تشويش ضجيج الطائرات النفاثة وأخبار السي. إن . إن والفوكس نيوز.

نيويورك تبدو ضيقة وشوارعها باردة.

لقد ظلمناه كثيرًا. جميعنا عرفنا مرضه، لكننا رفضنا أن نصدق أنه سيموت، عشنا و كأنه سيعيش إلى الأبد. وكان هو الآخر شريكا في المؤامرة. بعد كل مرة يخرج من المستشفى كان يفاجئنا، وكأنه هوديني المدهش، أنه في جولة محاضرات في الهند، اسبانيا أو إيران.

لقد عودنا ادوارد الانتصار على أعدائه وعلى شامتيه، وعودنا الانتصار على الموت، مرة بعد مرة. لقد صدقناك.

ثقب في القلب.

تشبث ادوارد سعيد بالحق، حتى عندما صفعته الحقيقة وأدار ظهره للقوة والسلطة عندما رغبت بقربه وأرادت التمسح به وبما يمثل من قيم وأخلاقيات. راكم كل حياته رأسمالا معنويا ولم يقايضه بجاهة أو وجاهة، وعرف كيف يحرص على المسافة بين القلم وبين السيف، بين الشاعر وبين الأميرمنقذا الكلمة من فخ السقوط في مهاوي البلاغة والفصاحة والابتذال، حارسا لمعانيها، وحاملا لأعبائها. يصب في الكلمات روحه قبل أن يستقي منها، يحملها قبل أن تحمله، فتكبر معه المعاني، وتشمخ من شموخه الكلمات.

يرحل ادوارد سعيد اليوم وهو بعيد عن فلسطين - هاجسه الدائم. هو يحرم منها، وهي تحرم منه. حرمته اسرائيل أن يكون هناك، واليوم تحرم أمريكا اخوته وأصدقاءه في لبنان وفلسطين أن يكونوا هنا. غربة وفرقة في الحياة وفي الممات.

لن أتحدث عن حجم الخسارة وهول الهوة ورجع الصدى.

في موته أخذ ادوارد شيئا من ذاتنا، لكنه رد إلينا كثيرًا من ذاته، و بحركته الالتفافية هذه يدعونا إلى أن نصنع الأرض التي نقف عليها، وأن نتمكن من الوقوف بثبات في ظل غياب الجاذبية، وأن نحلق إلى الأعلى بأجنحة نخترعها. دعوة لتجاوز ذواتنا ولصناعة أنفسنا بأنفسنا كل يوم من جديد، محولين الحياة إلى ملحمة واحدة طويلة.

الوقت كحالة طوارىء

بعد موت ادوارد سعيد سأخجل من تأخري في النوم صباحا. لقد أعطى الوقت معنى جديدا. كثفه لدرجة أن الوقت تجاوز شفافيته وأصبح له، كما للأرض، جاذبية. بعثر إدوارد المكان بحركة فروسية من الهند إلى نيويورك، ومن فلسطين إلى جنوب أفريقيا، ليصبح العالم مساحة مفتوحة ومسرحا لقيم الحرية والعدالة التي ترفض مقولة "صدام الحضارات" و "نهاية التاريخ".

كانت لادوارد عاداته الخاصة يمليها مرضه ومزاجه. تبعث إليه بعدة رسائل الكترونية ولا يجيب، ثم يفاجئك باتصال: "وين اختفيت؟" كان يحق له ما لا يحق لغيره.

في آخر زيارة لنا لنيويورك دعانا، أنا ومنى، إلى مطعم مقابل الجامعة. تحدث عن زيارته للشام. أعجب بالبلد وبطبيعة أهله كثيرًا. تحمس جدًا للمعهد الموسيقي هناك، واعتذر بلطف عن مقابلة السيد الرئيس. فجأة سأل عن شعر طه محمد علي. تعجب لماذا لم يأخذ الرجل حقه من أقلام النقاد، قال سيكتب شيئاً عنه ليفيه حقه.

خرجنا من المطعم. كان تعبًا. اتكأ على كتفي للحظة. ودّعنا بعضنا ثم قال: "ها، لا تختفي، طلّوا". سرنا قليلا، همست منى في أذن: "يتحدث كأنه يودعنا". قلت: "لا، سيكون بخير، لن يختفي" .

ثم جئت إلى جنازته.

(نيويورك، 29 أيلول 2003 )

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات