المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في قصته <<بلاد بنات آوى>> يقول الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز، وعلى لسان الراوي بضمير الـ نحن:

<<... لا يزال عالمنا مكوناً من دوائر دوائر. الدائرة الخارجية هي دائرة الظلمة، وهي بعيدة من هنا، هناك في الجبال والصحاري الكبيرة (...). إن الدائرة الداخلية دائرة الأضواء تحمينا وتحمي بيوتنا من المكائد المتراكمة. ولكنها سور واه، وليس في وسعه أن يصد رائحة المبغض وأصواته في الليل. وتمس جميع الأصوات والروائح هذه أجسادنا في الليل وكأنها أسنان وأظافر...>> عالم المتكلم في هذه القصة هو عالم إسرائيل التي هي <<الدائرة الداخلية، دائرة الأضواء>>، ولكنها لا تزال دائرة ضمن دوائر أخرى خارجية، أو ضمن دائرة كبرى، عربية، هي <<دائرة الظلمة>>، لذا لا يزال سور دائرة الأضواء، حسب القصة، سوراً واهياً.

يدعو مغزى القصة الى تمتين السور الواهي. وبما أن الدائرة التي تحيط به هي <<دائرة الظلمة>>، وسكانها مزعجون بروائحهم وأصواتهم، فإن تمتين السور الواهي لا يكون إلا بالخلاص منهم ومد أضواء <<الدائرة الداخلية>>، في معادلها الحضاري، الى هذه <<الدائرة الخارجية>>.

هذا هو المنطق الذي يحكم هذه القصة وعشرات، بل مئات القصص العبرية، مثيلاتها، والتي يعود تاريخ صدور بعضها الى بدايات الصراع الإسرائيلي العربي (ثلاثينات القرن العشرين). إن الحروب التي شنها الإسرائيليون على العرب، قبل أن يصبحوا دولة وبعد أن اصبحوا دولة، ليست سوى حلقات لتوسيع <<دائرة الأضواء>> ولحماية سورها. هي حروب توالت منذ العام 1948، واستهدفت عرب فلسطين، وسيناء 1956 والضفة الغربية ومصر وسوريا 1967، ولبنان 1982.

عشرات الكتاب اليهود سخّروا أقلامهم للقضاء، بداية على الدائرة الفلسطينية ثم على الدوائر العربية، وذلك عن طريق تشويه صورة الإنسان العربي بما يسوغ محاربته وقتله ان تعذر طرده، أو الهيمنة على الدوائر الأخرى التي يعيش فيها.

لنرَ الى صورة العربي في هذا الخطاب السردي القصصي الموجه، في غالبيته، الى الأطفال وتلاميذ المدارس الابتدائية في إسرائيل، كما يخبرنا بذلك البرفيسور <<ادير كوهن>>.

في قصة عاموس عوز التي أشرنا اليها يصف بطل القصة، الشاب اليهودي مانتياهو، سكان الدائرة الخارجية، دائرة الظلمة، أي العرب، بأنهم:

<<جمهور قذر غامق اللون، ينشر القمل والبراغيث وله رائحة كريهة (...) يحرقون (جمهور العرب) وهم يتدفقون نحو الغرب كل ما يصادفهم، ويقتلعون الأوتاده ويتلفون الحقول، ويشقون الأسيجة، ويدوسون الحدائق، ويحولون لون البساتين الأخضر الى أصفر...>>

هذه الصورة المشحونة بمشاعر العنصرية والاستعلاء والحقد والكراهية تتكرر في عدد كبير من القصص التي كتبها وروج لها كتّاب اسرائيليون متعصبون من أمثال: <<عوديد بيتسر>> و<<نعمي عوفري>> و<<ادن سريج>> و<<اينان درور>> و<<بجّال موستيزون>>..

تتكرر هذه الصورة في 520 كتابا أجرى عليها البرفيسور أدير كوهن>> بحثاً واستنتج قائلاً (في كتابه: وجه قبيح في المرآة. وهو بحث استطلاعي ميداني):

<<وقد وجدنا ان جميع الكتب الإسرائيلية (يقصد ال 520) وصفت العربي بالقبح والوحشية والشاربين الغليظين والندبة الكبيرة في وجهه، وانه قاطع طريق متوحش ومهرب مخدرات وقاتل اليهود...>>.

تشكل الصورة بتكرارها نموذجاً يبني قناعة ثابتة لدى تلاميذ المدرسة الابتدائية الذين تؤلف مثل هذه القصص لهم ويتوجه خطابها السردي الى مخيلتهم. تفضي هذه القناعة الى نتائج مرعبة، كما يرى البروفيسور كوهن. فقد وصف 75% من التلاميذ، كما يقول، <<العربي على شكل الشخص مختطف الأطفال والقاتل والمخرب والمجرم وما شابه>>. وقال 80% منهم بأن للعربي <<وجه مخيف وقذر وله ندوب في وجهه...>>، وأعلن أحدهم بأنه <<يجب أن نقتل العرب ونضعهم فوق كرسي كهربائي وان نشنقهم ونطردهم...>>.

العربي في هذا الخطاب، وحسب القناعة التي سعى الى ترسيخها لدى الناشئة من يهود اسرائيل، مجرد من إنسانيته، انه عدو، مجرد عدو بحكم هويته، أي بحكم كونه عربياً، لذا يجب قتله دون وازع ضمير. فهو في طبيعته يستحق القتل.

قتل الفلسطينيين

على قراءة مثل هذه القصص تربت الناشئة الاسرائيلية واندفعت باكراً للانخراط في ما يسمى بـ <<الجدناع>> و<<الناحل>>. وهي، كما يوضح الكاتب العربي الإسرائيلي غانم فرعل، من الأطر التنظيمية <<للشبيبة اليهودية ما دون الثامنة عشرة، أي قبل الانخراط في الجيش، حيث يتدرب الشباب في هذه الأطر على استعمال الأسلحة، والعمل تطوعاً في المستوطنات المختلفة من أجل دعمها>>.

ويمكن القول إن الخطاب الأدبي وفي معظم ما كتبه الاسرائيليون من قصص وروايات، خاصة ما يعود منها الى الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، شكل خلفية ايديولوجية أسست لعمل عسكري يستبيح قتل العرب.

ولعل رئيس جهاز الاستخبارات الاسرائيلي، الجنرال مئير داجان، واحد من هؤلاء الذين تربوا على قراءة مثل هذه القصص وآمنوا بايديولوجيتها، فكان أن أعلن دون حياء: <<أنا أومن بالتصفيات الجسدية>>.

إنه الايمان المترسخ، شأن كل ايمان، بالقتل: قتل الفلسطيني مستمر منذ أكثر من خمسين سنة، وقتل العربي يتنقل في توأمة، لا تعدم ذرائعها، بين اسرائيل وأميركا، أميركا النظام الذي يشارك إسرائيل سبل الهيمنة على بلاد العرب، تدعمها بالمال والسلاح وتدافع عن حروبها وعن سياسة هذه الحروب.

على خلفية هذه الايدولوجيات التي اعتبرت العربي قبيحاً، متخلفاً، قاتلاً، مارست اسرائيل حروبها على العرب، بعد أن شحن معظم المستوطنين اليهود بالحقد والكراهية، وحفزوا للانخراط في <<جيش الدفاع>> الاسرائيلي وقتل العرب.

لكن خطاب إسرائيل السياسي/العسكري يدعي غير هذه الحقيقة، اذ يسمي جيشها <<جيش الدفاع>>، ويعلن بأن ما يمارسه هذا الجيش هو دفاع وردٌ على العرب الذين يبادرون الى قتل اليهود.

لكن لئن كان من المعلوم بأن الدفاع يعني، وفي أساس معناه، ان لا تبادر بل ترد، فإن الخطاب السردي القصصي الاسرائيلي يفضح هذا الادعاء. فقد جاء في قصة <<حادثة جبريئيل تيروش>> للكاتب الاسرائيلي <<يتسحاق شليف>>، وعلى لسان شخصية المعلم جبريئيل، قوله لتلاميذه: <<... علينا ان نبادر الى الهجوم في كل لحظة تتاح لنا فيها الفرصة. مصير البلاد سيقرره الهجوم وليس الدفاع>>.

ويتابع المعلم توجيهاته فيوضح:

<<... على فرق الهجوم والتخريب أن تتحرك في الليالي الى مراكز العصابات العربية في المدن والقرى وتضربها ضرباً قوياً مخيفاً. يجب ان نترك في المكان آثار الدمار والخراب لتكون عبرة أمام كل أم عربية...>>.

وفي مكان آخر من القصة نفسها يقول المعلم جبريئيل واعظاً تلاميذه، ومتوسلاً أسلوباً مجازياً اذ يشبه العرب بالأفاعي. يقول:

<<... يجب قتل الأفاعي (العرب) وهي بالقرب من أوكارها.. والمرحلة الثانية هي التسلل الى القرية العربية التي تشكل وكراً للقتلة وتدميرها عن بكرة أبيها على القتلة (العرب) الذين في داخلها...>>

مثل هذا الكلام نجده في كتاب <<قصص من القدس>> لمؤلفه يوخفيد ساكس، وفي غيره من الكتب. وهو كلام لا يحتاج وضوحه الى تفسير أو تعليق، يكفي أن نشير إلى أمرين:

الأول: هو أن نتائج قراءة مثل هذه القصص أرعبت البروفيسور أدير كوهن، اذ وجد أن 90% من التلاميذ الذين شملهم الاستطلاع الذي اجراه عليهم، يرفضون <<رفضاً تاماً>> كما يقول، حقوق <<العرب في البلاد أو التعايش المبني على المساواة معهم في الحياة هنا>> (في فلسطين). ولئن كان من تسامح فإن نسبته لا تزيد على 10% وهو تسامح ينطلق، ودائماً حسب قول كوهن <<من موقف التسامح المتعالي>>.

والثاني هو ان حقيقة هذا الخطاب السردي تمثلت على أرض الواقع: في الدمار الذي خلفه جيش <<الدفاع>> الاسرائيلي فوق أكثر من أرض عربية. فوق لبنان الذي شاهدنا، نحن اللبنانيين، وبعيوننا الحية (ولم نشاهد فقط الصورة بصفتها قابلة لأكثر من تأويل)، فحش اسرائيل في تدمير بيوتنا، وبنى وطننا التحتية، ولم تتورع عن دك الملاجئ على النساء والأطفال وجموع المدنيين اللائذين بها. كما تمثلت حقيقة هذا الخطاب السردي ودعوته الى قتل العرب في المجازر التي مارسها المسلحون الاسرائيليون، وجيش <<دفاعهم>> منذ مذبحة دير ياسين، والطنطورة في فلسطين وحتى صبرا وشاتيلا وقانا في لبنان.

الوجه القبيح

ليس جيش <<الدفاع>> الإسرائيلي سوى جيش هجوم واعتداء، يرتكز الى مرجعية ايديولوجية أسس لها مثل هذا الخطاب السردي القصصي الموجه الى الناشئة. ايديولوجية <<الوجه القبيح>> للعربي. أي ايديولوجية القناعة الثابتة بأن العربي عدو بحكم هويته لذا يجب المبادرة الى قتله. ولئن كانت صورة <<الوجه القبيح>> قد شكلت، بدلالاتها المرعبة موضوع دراسة نقدية ل البروفيسور أدير كوهن، فإن علينا أن نشير الى ان هذه الدراسة جاءت اثر هزيمة العرب في حزيران من العام 1967.

أي بعد اتساع <<دائرة الأضواء الداخلية>>، وتحقيق خطوة هامة في تمتين سورها الواهي. ويمكن القول، دون التقليل من أهمية دراسة كوهن وموقفها النقدي، بأن هذه الدراسة جاءت بعد أن اثبتت اسرائيل تفوقها العسكري وصارت دولة لترسانة من الأسلحة المتطورة. أي صار سلاح القذيفة يعوضها، ولو نسبياً، سلاح الكلمة، أو يعوضها خطاباً أدبياً <<صار بإمكانه أن يعتدل، أو أن يكون أكثر انسانية حتى لا يسيء الى سمعتها، خاصة ان هذا الخطاب خرج الى العلن بحكم انتشاره (فقد أعيد نشر بعض هذه القصص مرات ومرات كما صارت تنقل الى أكثر من لغة بما فيها اللغة العربية).

وقد يكون بإمكاننا أن نقول بأن ايديولوجية <<الوجه القبيح>> الذي يجب قتله، صارت باستفحالها تشكل إدانة عالمية لإسرائيل، وقد تحول دون <<سلام>> يشترطه بقاء اسرائيل بعد أن صار بإمكانها، هي المنتصرة على العرب، ان تفرض شروطها عليهم.

لقد راح السور الواهي، <<دائرة الأضواء>> يتمتن بدءاً بطرد الفلسطينيين من أرضهم، ثم بتوسيع الدائرة الإسرائيلية بضم القدس، وإنشاء المستوطنات، وبعض الأراضي العربية (مرتفعات الجولان، وجنوب لبنان...) ثم باتفاقية كامب ديفيد، ومعاهدات الصلح مع عدد من الدول العربية...

يبدو العراق، مرحلياً، هو الدائرة <<المظلمة>> التي يتولى النظام الأميركي ضمه الى <<دائرة الأضواء>> بذريعة نشر الديمقراطية وتحرير الشعب العراقي. ألم يعلن الرئيس الأميركي، جورج بوش:

<<يتوجب علينا أن نكون على استعداد لضرب أي مكان مظلم في العالم>>.

إنه الخطاب نفسه. خطاب اسرائيل وخطاب أميركا. الخطاب الذي يدّعي تحضير العرب، وتحريرهم، وشملهم بأضواء المدينة.. بضربهم وبالهيمنة على مصادر ثروتهم... وعلينا أن نكون شاكرين!

يتواءم الخطاب اللامباشر، <<الأدبي>> السردي القائم على مستوى المتخيل مع الخطاب السياسي المباشر المرتكز الى القوة العسكرية والمسنود بالواحدية القطبية.

نوضع، نحن الشعوب العربية، بصفتنا متخلفين، في الدائرة المظلمة، دائرة الشر، نحن الدائرة العربية الكبرى التي بدأت إسرائيل بتدميرها من منطلق حماية دائرتها، <<دائرة الأضواء>>، المتعالية عرقياً، وحضارياً...

يجب توسيع <<دائرة الأضواء>>، أي، وحسب تعبير لغة موشيه دايان السياسية: خلق <<اسرائيل الكبرى>> أو <<المدى الحيوي>> لإسرائيل.

من أجل هذا المدى الحيوي يدمر العراق اليوم، بعد تدمير لبنان.

ومن أجل هذا المدى الحيوي يتردد تهديد أميركا لسوريا.

ومن أجل هذا المدى الحيوي يكتب الاسرائيليون العنصريون القصص ضد إنسانية الإنسان وضد حقائق التاريخ.

لا نريد لأدبائنا أن يفعلوا فعلهم، ولكننا نود ان نقول:

علينا أن نعمل كي نعيد الى المرجع الحي حقيقته في الخطاب السردي... وفي كل خطاب.

(السفير، بيروت، الملحق الثقافي 16 ايار)

المصطلحات المستخدمة:

جبريئيل

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات